الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب العبّاس عليه السلام للسيد عبد الرزاق المقرّم: إنّ للنسب مكانةً كبرى في شتّى النواحي، فليس من المستنكر دخله في تهذيب الأخلاق، فإنّ الإنسان مهما كان مولعاً بالشهوات مستهتراً ماجناً، إذا عرف أنّ له سلفاً مجيداً، وأنّ من ينتمي إليهم أُناس مبجّلون ـ كما هو الشأن في جلّ البشر، إن لم نقل كلهم ـ لا يروقه أن يرتكب ما يشوّه سمعتهم، وإنّما يكون جلّ مسعاه أن يكون خلقاً صالحاً لهم، يجدّد ذكرياتهم، ويخلّد ذكرهم الجميل بالتلفّع بمكارم الأخلاق. ولقد جعل اللّه تعالى أبناء آدمعليه السلام شعوباً وقبائل ليتعارفوا "خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات 13)، فتشتبك الأواصر، وتتواصل الأرحام، ويحمى الجوار بالتساند والمؤازرة، ويعرفهم من عداهم كتلة واحدة، فيهاب جانبهم ولا تخفر ذمتهم، فيسود بذلك السلام والوئام، ومن هنا نشاهد المردة من قوم شعيب قالوا له لما عتوا عن أمره: "وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ" (هود 91). فإذن يكون في مشتبك الأواصر مناخ العزّ ومأوى الهيبة كما قال أمير المؤمنينعليه السلام لابنه الحسن: "وأكرم عشيرتك، فإنّهم جناحُك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول، ولا يستغني الرجل عن عشيرته وإن كان ذا مال، فإنّه يحتاج إلى دفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطةً من ورائه، وألمّهم لشعثه، وأعظمهم عليه إن نزلت به نازلة أو حلّت به مصيبة، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّما يقبض عنهم يداً واحدة وتقبض عنه أيد كثيرة".
وعن المشورة وعدم الاستبداد يقول السيد المقرم: فهذا الرسول الأعظم، وهو المسدَّد بالفيض الأقدسّ والإرادة الإلهية ; المستغني عن الاستعانة بأيّ رأيّ، يمشي وراء العادة، فيشاور أصحابه إذا أراد المضيّ في أمر، ولعلّ النكتة فيه مضافاً إلى ذلك تعريف خطأ الاستبداد وإن بلغ الرجل أعلى مراتب العقل، فكانت الصحابة تبصر من أشعة حكمه فوائد الاستشارة كالاستخارة، وتمضي على قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أُعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ "، و "لا يندم من استشار، ولا خاب من استخار". ولمّا خرج صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة طالباً عير أبي سفيان، بلغه في (ذفران) أنّ قريشاً خرجت على كُلّ صعب وذلول، شاور أصحابه فقال: "ما تقولون، العير أحبّ إليكم أم النفير"؟ فقال بعضهم: العير، وقال (رجلان): يا رسول اللّه إنّها قريش وخيلاؤها، ما ذلّت منذ عزّت، وما آمنت منذ كفرت، فساءه كلامهما، وتغيّر وجهه، فقام المقداد بن الأسود الكندي وقال: امض يا رسول اللّه لما أمرك به اللّه، ونحن معك، فواللّه لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى بن عمران: "فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" (المائدة 24)، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ما دام منّا عين تطرف، نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن خلفك، فوالذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلى برك الغمام (بلاد الحبشة)، لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه فضحك رسول اللّه وأشرق وجهه وسرّ بكلامه. ولمّا نزل في بدر بأقرب ماء هناك قال له الحبّاب بن المنذر: أرأيت يا رسول اللّه هذا المنزل، منزلاً أنزلك اللّه به أم هو الرأي والمكيدة والحرب؟ فقال: "هو الرأي والحرب".
وعن سلسلة الآباء يقول السيد عبد الرزاق المقرم: وقد نزّههم اللّه تعالى في خطابه لنبيّه الأقدس: "وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ" (الشعراء 219)، فإنّه أثبت لهم جميعاً ـ بلفظ الجمع المحلّى باللام ـ السّجود الحقّ الذي يرتضيه لهم. وإنّ ما يؤثر عنهم من أشياء مستغربة لا بدّ أن يكون من الشريعة المشروعة لهم، أو يكون له معنىً تظهره الدراية والتنقيب. وليس آزر ـ الذي كان ينحت الأصنام وكاهن نمرود ـ أبا إبراهيم الخليل، الذي نزل من ظهره، لأنّ أباه اسمه تارخ، وآزد: إمّا أن يكون عمّه، كما يرتئيه جماعة من المؤرّخين، وإطلاق الأب على العمّ شائع على المجاز، وجاء به الكتاب المجيد: "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ" (البقرة 133) فأطلق على إسماعيل لفظ الأب، ولم يكن أبا يعقوب وإنما هو عمّه، كما اُطلق على إبراهيم لفظ الأب وهو جدّه. وإمّا أن يكون آزر جدّ إبراهيم لاُمّه كما يراه المنقّبون، والجد للأُمّ أب في الحقيقة، ويؤيّد أنّه غير أبيه قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ" (الأنعام 74). فميّزه باسمه، ولو أراد أباه الذي نزل من ظهره لاستغنى بإضافة الأُبوّة عن التسمية بآزر. وصرّح الرسول بطهارة آبائه عن رجس الجاهلية وسفاح الكفر فقال: "لمّا أراد اللّه أن يخلقنا، صوّرنا عمود نور في صلب آدم، فكان ذلك النور يلمع في جبينه، ثمّ انتقل إلى وصيّه شيث، وفيما أوصاه به ألاّ يضع هذا النور إلاّ في أرحام المطهّرات من النساء، ولم تزل هذه الوصيّة معمولاً بها يتناقلها كابر عن كابر، فولدنا الأخيار من الرجال والخيرات المطهّرات المهذّبات من النساء، حتّى انتهينا الى صلب عبد المطلب، فجعله نصفين: نصف في عبد اللّه فصار إلى آمنة، ونصف في أبي طالب فصار إلى فاطمة بنت أسد". على أنّ نبيّ الإسلام، وهو العارف بأحكامه، والذي خطّط لنّا التكاليف قبل إسلام ابن عمِّه، وأنجز له جميع ما وعده به من الإخوّة والوصاية والخلافة، يوم أجاب دعوته وآزره على هذا الأمرّ وقد أُحجم عنه عندما نزلت آية: "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ" (الشعراء 214).
https://telegram.me/buratha
