الصفحة الإسلامية

اشارات قرآنية من كتاب البحث الدلالي للدكتور الصغير (ح 1)


الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في كتاب تطوّر البحث الدّلالي للدكتور محمد حسين علي الصّغير: روح الدلالة في المنظور القرآني من خلال حذف القول في العبارات القرآنية التي تدل معانيها على مرادها، دون استخدام الألفاظ لهذا الغرض، مما يحمل السامع على توقع أمر ذي بال، كما هي الحال في الانقطاع والالتفات وسواهما في عبارة القرآن فيقرع بهما أسماعاً غير واعية، ويهز مشاعر غير صاغية. قال الله سبحانه وتعالى "فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ" (القصص 30-31). فكأن الغرض الفني عند العربي بفطرته أن يقصد بالألفاظ إيصال المعنى المراد إلى المتلقي بما يفهمه ويسبر غوره، وتلك روح الدلالة عند العرب.

وعن أصالة البحث الدلالي عند العرب يقول الدكتور الصغير رحمه الله: يقول ابن الأثير (واعلم أن تفاوت التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها لأن التركيب أعسر وأشق ألا ترى ألفاظ القرآن الكريم من حيث انفرادها ـ يفوق جميع كلامهم، ويعلو عليه، وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب). ولا يكتفي ابن الأثير بهذا العرض دون التنظير الدلالي ويختار لذلك قوله تعالى "وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (هود 44). ويعقب بقوله: (إنك لم تجد ما وجدته لهذه الألفاظ من المزية الظاهرة لا لأمر يرجع إلىٰ تركيبها ، وإنه لم يعرض لها هذا الحسن إلا من حيث لاقت الأولىٰ بالثانية ، والثالثة بالرابعة وكذلك إلى آخره). ويتعرض لدلالة اللفظ الواحد في تركيبين مختلفين، فتجد اللفظ مستكرهاً في تركيب، وهو نفسه مستحسناً في تركيب آخر ويضرب لذلك مثالاً فيقول: (وسأضرب لك مثالاً يشهد بصحة ما ذكرته، وهو أنه قد جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن، وبيت من الشعر، فجاءت جزلة متينة في القرآن ، وفي الشعر ركيكة ضعيفة، فأثّر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين، أما الآية فهي قوله تعالى "فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ" (الاحزاب 53). وأما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي: تلذ له المروءة وهي تؤذي * ومن يعشق يلذ له الغرام. وهذا البيت من أبيات المعاني الشريفة إلا أن لفظة: (تؤذي) قد جاءت فيه وفي الآية من القرآن فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها، وحسن موقعها في تركيب الآية).

وعن تطبيقات البحث الدلالي في القرآن الكريم يقول الاستاذ محمد حسين الصغير في كتابه: وعلىٰ الرغم من توقف جملة من علمائنا الأوائل عن الخوض في حديث المداليل في القرآن الكريم، فإن القرآن يبقىٰ ذا دلالة أصلية، وما معاملتهم له إلا دليل تورع وتحرج عن الفتوىٰ بغير مراد الدلالة حتى وإن أدركوها إجمالاً. كان الأصمعي وهو إمام أهل اللغة لا يفسر شيئاً من غريب القرآن وحكي عنه أنه سئل عن قوله سبحانه "قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا" (يوسف 30) فسكت وقال: هذا في القرآن ثم ذكر قولاً لبعض العرب في جارية لقوم أرادوا بيعها: أتبيعونها، وهي لكم شغاف ولم يزد على ذلك، أو نحو من هذا الكلام. وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من الفصاحة في ذروة السنام والغارب يقرأ قوله عزّ وجلّ :"وَفَاكِهَةً وَأَبًّا" (عبس 31) فلا يعرفه فيراجع نفسه ويقول: ما الأبّ؟ ثم يقول: إن هذا تكلف منك يا ابن الخطاب.

وعن دلاله الألفاظ القرآنية يقول الدكتور محمد حسين الصغير: إن اختيار القرآن للألفاظ في دلالتها إنما جاء متناسقاً مع مقتضيات الحال وطبيعة المناسبة وقد يكون ذلك التناسق صادراً لجهات متعددة تؤخذ بعين الاعتبار لدىٰ تجديد القرآن لمراد الاستعمال في الحالات الوصفية والتشبيهية والتمثيلية والتقديرية مما نستطيع التنظير له بما يلي: أ ـ ما أراد به القرآن صيغة معينة لحالة معينة تستوعب غيرها ولا يستوعبها غيرها ، فإنه يعمد إلى اختيار اللفظ الدقيق لهذه الغاية فيتبناه دون سواه من الألفاظ المقاربة أو الموافقة أو الدارجة كما في قوله تعالى "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ" (النور 39). فالله تعالىٰ أراد الظمآن بكل ما تحمله الكلمة في تضاعيفها الأولية والثانوية من دلالات خاصة بها فلا تسد مسدها مثلاً كلمة الرائي، لأنّ الرائي قد يرىٰ السراب من بعيد وهو ليس بحاجة إليه، فلا يتكلف إلا الخداع البصري أما الظمآن فإنه يكد ويكدح ويناضل من أجل الوصول إلى الماء حتى إذا وصل إليه وإذا بما حسبه ماءً قد وجده سراباً، فكانت الحسرة أعظم والحاجة أشد ولم يبرد غليلاً، ولم يدرك أملاً. ب ـ وما أراد به القرآن الاتساع المترامي، فإنه يختار له الألفاظ الدالة على هذا الاتساع بكل شمولية واستيعاب فحينما نتدارس بإجلال قوله تعالى "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ" (هود 6). فسنجد عمومية الألفاظ وشموليتها مما يتناسب مع عمومية المعاني وتطاولها، ويتواكب مع استقرار كل الجزئيات وعدم تناهيها، وذلك من أعاجيب القرآن وطرائفه، وهذه الألفاظ في هذه الآية هي: دابة، الأرض، الله، رزقها، مستقرها، مستودعها، كل، كتاب. الدابة تستوعب مجموعة عامة مركبة من خلق الله مما دبَّ وهب ودرج من الانس والجن والطير والأنعام والوحوش والهوام وكائنات لا نعرفها، ومخلوقات لا نتصورها، أرأيت عمومية وشمولية كهذا في دلالة لفظ واحد عليه مع عدم إمكان حصر ملايين النسمات في ضوئه. والأرض هذه الكرة الفسيحة بجبالها ووهادها ومفاوزها وأشجارها وأنهارها وآبارها، داخلها وخارجها، ظاهرها وباطنها كلها عوالم مترامية الأطراف واسمها الأرض، هذا اللفظ البسيط الساذج المتداول، ولكنها بقاع العالم وأصقاع الدنيا ومحيطات الكون. ولفظ الجلالة في إشارته لذاته القدسية التي لا تحد بزمان ولا مكان، ولا تنظر بأين أو كم أو كيف، ولا تمثل بجسم أو كائن أو تشخيص يتناهى لله كل متناهٍ ، ولا يدركه نظر أو بعد ولا يسمو إليه فكر أو عقل، دال على ذاته بذاته، ومتعالٍ عن سائر مخلوقاته. والرزق بمختلف أصنافه، وعلى كثرة سبله وطرقه عام لا خاص، ومطلق لا مقيد في الملبوس والمأكول والمشروب والمدّخر والمقتنى. والمستقر بالنسبة لهذا الكائنات قد يراد به موضع القرار أو حيث تأوي إليه من الأرض أو ما يستقر عليه عملها واللفظ عام ولا مانع من إرادة هذه المعاني كافة، بل ومفاهيمها عامة. والمستودع بالنسبة للكائنات ذاتها، قد يراد به الموضع الذي أودعها الله فيه وهو أصلاب الآباء وأرحام الأمهات أو هو مستودعها الأخير حين تموت، فتموت لتبعث أو ما يؤول أليه مصيرها نتيجة عملها، واللفظ عام، ولا مانع من استيعابه هذه المعاني.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
زياد مصطفى خالد : احسنت تحليل واقعي ...
الموضوع :
مسرحية ترامب مع زيلنسكي والهدف الامريكي !!
ابو حسنين : انظرو للصوره بتمعن للبطل الدكتور المجاهد والصادق جالس امام سيد الحكمه والمعرفه السيد علي السستاني بكل تواضع ...
الموضوع :
المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني يستقبل الطبيب محمد طاهر أبو رغيف
قتيبة عبد الرسول عبد الدايم الطائي : السلام عليكم اود ان اشكركم اولا على هذا المقال واستذكاركم لشخصيات فذة دفعت حياتها ثمنا لمبادئها التي ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
م خالد الطائي : السلام عليكم, شكرا لصاحب المقال, عمي مالك عبد الدايم الطائي: خريج 1970م، تخرج من كلية العلوم بغداد ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
ام زهراء : مأجورين باىك الله فيكم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
علاء عبد الرزاق الانصاري : الاهم صلي على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
فيسبوك