المقالات

الحكومة المقبلة والاستحقاق الثقافي /


حافظ آل بشارة

كلما تأخر تشكيل الحكومة ازداد حنق وغضب الشارع واندفع الرأي العام لينادي بطلبات واستحقاقات جديدة سوف تنطلق كالمشاعل في وجه الحكومة المقبلة وتضعها امام مسؤوليات اثقل وأكثر الحاحا ، الاستحقاقات متنوعة في بلد مهدم عمرانيا وانسانيا ولا تحصى مطالبه ولا تعد حاجاته ، وكل مناسبة تمر تثير في الذاكرة الشعبية مرارة مظلوميات قديمة لا تنسى تبحث عمن يصححها ، هذه المرة أجمع الرأي العام العراقي على ضرورة معالجة الاستحقاق الثقافي لهذا الشعب وما يمكن للحكومة المقبلة عمله من أجل تلبيته بالشكل الذي يحقق العدل ويزيل آثار الظلم السابق والراهن ، زيارة الامام الكاظم (ع) في ذكرى استشهاده اعادت الى الواجهة الاسئلة الرئيسية القديمة المتجددة حول الاستحقاق الثقافي العراقي وعناصر الهوية الدينية والمعرفية والشعائرية وهل توفرت لها الخدمات الكافية والعادلة على الصعيد التعليمي والاعلامي وكيف يترجم التهميش والتعتيم على ثقافة الاكثرية الى أزمة سياسية قد تسهم في خلق عوائق جديدة في تطبيع الوضع الاجتماعي وتطوره وترسيخ القيم الديمقراطية ، الزيارة المليونية لمرقد الامام موسى الكاظم (ع) كانت تعبيرا واضحا عن حقيقة ثقافية ، حيث يسير ملايين المواطنين على الأقدام قادمين من مناطق العراق كافة وبعضهم يقطع مئات الكيلومترات قاصدين المرقد الطاهر في بغداد ، وعندما تكون الزيارة ظاهرة مليونية أو ظاهرة تخص اكثرية من السكان فيفترض ان تدرج ضمن الظواهر الثقافية العراقية ، ولابد على الصعيد الثقافي الرسمي من تأصيل جذرها العقيدي والديني وتكون هناك معالجات تتناول الامام الكاظم (ع) سيرة ودورا في اطار مفهوم عقيدي يتعلق بأصل الامامة في الاسلام وكونه واحدا من سلسلة الائمة الاثني عشر ، فزيارة الأمام الكاظم (ع) تستبطن عددا من العناوين الثقافية العبادية التقاليدية التي تخص اغلبية مليونية من الشعب العراقي ، العنوان الاول : الائمة الاثنى عشر وهم خلفاء الرسول (ص) الذين نص عليهم الحديث وهم اهل البيت والعترة والصفوة وائمة المسلمين ، ويجب ان تحضى الامامة كمفهوم والائمة الاثنى عشر كمصداق بخدمة ثقافية ترويجية لائقة . العنوان الثاني : مفهوم زيارة مراقد الائمة وفضل الزيارة وتأريخها وتاصيلها العقيدي . العنوان الثالث : الزيارة من وجهة نظر حقوقية وعلاقتها بمبدأ حرية ممارسة الشعائر وحرية التعبير والتأصيل الثقافي لهذه الظاهرة وابعادها الاجتماعية . العنوان الثالث : الزيارة كاحد مظاهر التعبئة السياسية والتعبئة الاجتماعية التي تحيي التلاحم بين قطاعات المجتمع وتسهم في تجديد ثقافة التكافل والعمل الخيري والتواصل والخروج من العزلة وتقوية العلاقات الاجتماعية ، وفرصة الدعم الجماهيري لقضايا الأمة الحيوية . ومن المعروف ان الخدمة الثقافية لاي ظاهرة اجتماعية تتم عادة بالتعليم والاعلام وكل منهما يكمل الآخر ، ويشكو الوضع الثقافي في العراق من عدم التوازن والتوجيه الجائر الناتج من تدخل السلطة السابقة ، فلا يوجد في مناهج التعليم المدرسي في البلاد أي معالجة ثقافية تخص شعائر وعقائد اكثرية العراقيين وما يترتب عليها من معالجات اخرى تأريخية واصولية وادبية واصداء في الفنون الجميلة والاداب ، الا ان هذا الظلم يخفي وراءه حقائق اكثر خطرا ، فمن المؤسف ان يتحول الولاء لاهل البيت (ع) الى موضوع مذهبي ضيق يخص طائفة من المسلمين مع ان اهل البيت (ع) هم الثقل الثاني بعد كتاب الله وهم أصل يخص كافة المسلمين ، والمعروف ان سيطرة الامويين والعباسيين على السلطة بشكل غير مشروع وتحويلها الى ملكية تقليدية تطلبت تنفيذ مشروع كبير لطمس دور اهل البيت (ع) وطمس فضائلهم ومحو ذكرهم في العقيدة والحياة والحكم ثم قمع أي مقاومة لمشروع الطمس بقسوة ، وأمام هذا الانقلاب القبلي سار التأريخ الاسلامي بسياقه المعروف فأصبح اتباعهم أقلية تلبس للفقر جلبابا ، ثم حوربت تلك الاقلية ووجهت لها انواع من التهم وعوقبت بهجوم اعلامي متواصل وتشويه لعقيدتها والافتراء عليها وتكفيرها ، ومع ان اتباع اهل البيت في العراق اكثرية اصبحت تلك الاكثرية مشمولة بسياسة الطمس والتزوير والمنع والتهميش الثقافي ، فلم يعد لهذه الاكثرية صوت في التعليم او الاعلام ، فمناهج التعليم لديهم تم تاليفها من قبل طبقة سياسية وثقافية تمثل منهج الامويين والعباسيين عقيدة وتاريخا واخلاقا ، وعندما حدث التغيير في العراق كان متوقعا ان يجري تصحيح للواقع السياسي الثقافي والاعلامي و كان افضل مصداق لمنهج الديمقراطية ان تحترم الحقوق الثقافية والعقيدية والرؤى والحريات المختلفة لجميع المكونات الاجتماعية في البلاد ، وكان من المنتظر ان يلمس كل مكون اجتماعي في البلاد انعكاسا عادلا لثقافته وموروثه الديني وشعائره التي تشكل هويته وما تتطلبه من ترويج وتأصيل وما تثمره من تعبئة ايجابية ، ولكن الذي حصل أن التجربة السياسية الجديدة اهملت بشكل لافت الفضاء الثقافي ومظاهره وادواته وبقيت تعيش على سياقات النظام السابق وما استخدمه من تسييس للثقافة وتمييز واضطهاد على اسس قديمة متواصلة اعتمدت ترسيخ هيمنة الأقلية الطائفية ، تلك الهيمنة التي شكلت محورا للمشروع الوطني العراقي منذ بدايات القرن الماضي برعاية بريطانية ومباركة اقليمية . الحكومة المقبلة تواجه الاسئلة الكبيرة القديمة حول مناهج المدارس التي بقيت كما هي يتم تدريسها لابناء اغلبية توالي أهل البيت (ع) ولكنها تمجد وتقدس اعداء اهل البيت ! ويتم فيها التركيز المقصود على اعلام واشخاص وشعراء وكتاب ونقاد وحكام كلهم كانوا يناصبون أهل البيت العداء ويسهمون في طمس ذكرهم ومصادرة حقهم ، وتكتمل العملية باستبعاد اسماء شهيرة في عالم الفقه والتفسير والتأريخ والفنون والآداب لأنهم كانوا موالين لاهل البيت عارفين بحقهم ، وهكذا يكتب التأريخ السياسي للاسلام وتأريخ الأدب العربي والوقائع والسير وحتى العلوم الدينية والاصولية على اساس رؤية الأقلية واجتهاداتها ، وبذلك يعيش الطالب العراقي في جميع المراحل انفصاما مخططا بين هويته الثقافية وما يتعلمه في المدارس حيث التناقض الكامل . الحكومة المقبلة يجب ان تضع معايير لمناهج التعليم في العراق وسياقاته ، وكذلك معايير مايقدم من خدمات ثقافية على صعيد النشر والترويج والبرامج المتخصصة ، يجب ان تتضح مهمة وزارة الثقافة في البلاد ومدى التصاقها بهوية المجتمع ورموزه الثقافية والدينية العامة ، اضافة الى ضرورة اعادة تشكيل شبكة الاعلام العراقية واعادة رسم برنامجها العملي وانسجامه مع الواقع الثقافي للبلد . ومن التناقض الواضح في الاداء الاعلامي والثقافي المدعوم من الدولة العراقية حاليا المبالغة في شجب الارهاب بممارساته الوحشية ولكن في الوقت نفسه ترسيخ السياقات الثقافية الاعلامية التي تنمي الارهاب والتكفير وتشجع على انتشاره وتعزيز قدراته وأهم وسائل تقوية الارهاب والتكفير وسياقاته الثقافية في اوساط المجتمع هو اغفال وتجاهل الأطار الثقافي لمدرسة أهل البيت (ع) وطمسه واعاقة ظهوره الطبيعي ودعم المخالف المناقض لهذه المدرسة بكل ابعاده على صعيد الاعلام والآداب والفنون والعلوم الدينية ، أي ان عدم التوازن الثقافي في اداء الاجهزة المختصة للدولة يؤدي ليس فقط الى الحاق الظلم بالشعب العراقي وحقوقه الثقافية بل يؤدي الى خدمة الارهاب والجريمة المنظمة وتقوية احتمالات الفتنة الطائفية التي يمكن دائما احياء عناصرها وتحريك مسبباتها ، وبهذا المنظور تصبح قضية معالجة الاداء الثقافي لمؤسسات الدولة المختصة وما يترتب على الحكومة المقبلة من خطوات بهذا الاتجاه امرا في غاية الاهمية .

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك