( بقلم: السيد حسن الهاشمي )
قد يُقال إنَّه لا شك في وجود جماعة تشتم بعض الصحابة، فما هو السبب في كونهم من هذا الصنف، في حين أن الشتم لا تقرّه شريعة ولا يؤيده عقل ناضج ولا تستسيغه فطرة سليمة؟ وهل أن الصحابة كلهم عدول أم فيهم الغث والسمين والصالح والطالح؟
صحيح أننا أمرنا بأن لا نكون من السبابين، والذي يتسلح بالدليل والبرهان القاطع فهو في غنىً عن السب والشتم والوقيعة، التي طالما يلجأ إلى هذه المفردات من ليس له باع بالإقناع والحكمة والموعظة الحسنة، بيد أنّ موضع الخلاف في الشتم يكمن في نقطة واحدة، وهي أنّ أهل السنّة يقولون بأنّ كلّ من رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعاشره ولو يوماً أو يومين فهو محكوم بالعدالة منذ اللقاء إلى يوم أُدرج في كفنه، ولو صدر منه قتل أو نهب أو زنا أو غير ذلك، محتجّين بما نسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم»
والحقيقة أن الأصحاب لم يكونوا على نمط واحد، فالمتصفح للقرآن الكريم والسنة النبوية الأصيلة يقف على أنهم كانوا مختلفين من حيث قوّة الإيمان وضعفه، والقيام بالوظائف والتخلّي عنها، فيجب إخضاعهم لميزان العدالة الذي توزن به أفعال جميع الناس، وعندئذ يتحقّق أنّ الصحبة لا تعطي لصاحبها منقبة إلاّ إذا كان أهلا لها، وتوضّح بجلاء أنّ محاولة المساواة في الفضل بين جميع الصحابة أمر فيه مجافاة صريحة للحقّ وكلمة الصدق، وهذا ما ذهبت إليه الشيعة، وهو نفس النتيجة التي يخرج بها الإنسان المتدبّر للقرآن الكريم.وللإجابة على الأسئلة المتقدمة لابُدَّ من الرجوع إلى مجموعة من الأسباب تشكِّل فعلاً عنيفاً، استوجَبَ رَدُّ الفعل، ومن هذه الأسباب ما يلي:أولاً: مطاردة الشيعة المروِّعة، والتنكيل بهم، وما تعرَّضوا له من قتل وإبادة على الظنَّة والتهمة، وفي أحسن الحالات الملاحقة لهم، والمحاربة برزقهم، ومنعهم عن عطائهم من بيت المال، وفرض الضرائب عليهم، وعزلهم اجتماعياً وسياسياً.
وبوسع القارئ الكريم الرجوع إلى التاريخ ليقف عما لاقاه الشيعة من جور وتعسف في الكوفة وغيرها من المدن الشيعية، وليذعن بنفسه على ما وصلت إليه الحالة، وما انتهى إليه الوُلاة من قسوة خصوصاً في العهدَين الأموي والعباسي، ومازال أتباعهم يمارسون نفس السياسة بحق أتباع أهل البيت(عليهم السلام) في وقتنا الحاضر!
إن مثل هذا الاضطهاد يستلزم التنفيس عن الكَبْت، فقد يكون هذا التنفيس في عمل سياسي أو جهادي، وأحيانا قد يتخذ منحىً آخر يلجأ صاحبه إلى الشتم كما يسمونه أهل السنة والجماعة، والتبري من أعداء أهل البيت كما تنص عليه فروع الدين في المذهب الإمامي، ولسنا نبرِّر الشتم بحال من الأحوال، وإنما هو كفران بالطاغوت الذي أمرنا به في الكتاب العزيز، وليس الذي يشتم المنافقين الفاسقين كمن يشتم الأولياء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
ثانياً: إن الذي أسَّس هذه الظاهرة هم الأمويون أنفسهم، لأنهم شتموا الإمام علي (عليه السلام) على المنابر، وشتموا أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً، واستمر ذلك لمدة ثمانين سنة، ومما عمَّق هذه الظاهرة هو الالتواء في معالجة هذه المشكلة، من قبل أعلام السنة.
فعلى سبيل المثال، نجد ابن تيميَّة يؤلف كتابه( الصارم المسلول في كُفرِ من شتم الرسول أو أحد أصحاب الرسول)، فيحشد فيه الأدلة على كفر الشاتم، ولكنه مع ذلك ومع عَلمِه بما قام به معاوية والأمويون لا يقول بِكُفرهم، الذين قاموا بشتم الإمام علي وأهله (عليهم السلام)! علماً أن الإمام علي (عليه السلام) هو أخو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وضحَّى بكل غال ونفيس من كيانه في خدمة الإسلام والمسلمين، فلماذا لا يُكفَّر شاتِمُه؟
وإليك مثالاً آخر: فقد تولَّى يزيد بن معاوية الحكم لمدة ثلاث سنوات، قَتَل في سَنةٍ منها الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسَبَى عيالهم، وذَبَح أطفالهم، وعمل فيهم أعمالاً لا تصدر من أعتى ظالم في التاريخ القديم والحديث، وفي سنة ثانية قتل عشرة آلاف من المسلمين، وسبعمِائة من الصحابة جلهم من حَمَلَة القرآن. واستباح المدينة ثلاثة أيام، وسَمَح لجُندِ أهل الشام أن يَهتكوا أعراض المسلمات، وذبح الأطفال، حتى كان الجندي الشامي يأخذ الرضيع من ضرع أمه ويقذف به الجدار، حتى ينتشر مُخَّه عليه.
وأجبر الناس على بيعة يزيد على أساس أنَّهم عبيد له، وأخاف المدينة، وروَّع الناس، وأحال أرض المدينة المنوَّرة إلى برك من الدماء، وتُلُول من الأشلاء، وفي سنة ثالثة سَلَّط (المَنجَنِيقَات) على الكعبة، وهدَّمها وأحرقها وزعزَعَ أركانها، وجعل القتال داخل المسجد الحرام، وسال الدم حتى في قاع الكعبة.وقد استعرض الظلم الأموي مُفصَّلاً كلٌ من: (تاريخ الخميس) للديار بكري، والطبري، وابن الأثير في تاريخيهما، والمسعودي في (مروج الذهب)، وغيرهم من المؤرِّخين في أحداث سَنَة ستين حتى ثلاث وستين من الهجرة.
ومع ذلك كلّه تجد كثيراً من أعلام السنة يُخطِّئون من يخرج لقتال يزيد، وأن الخارج عليه يُحدث فِتنة، ووصل الأمر إلى حَدِّ تَخطِئَة الإمام الحسين ( عليه السلام ) سيد شباب أهل الجنة!فكأنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) عندما قال: (الحَسَنُ والحُسَين سَيِّدا شَباب أهلِ الجنَّة). ما كان يعلم (صلى الله عليه وآله) بأنه (عليه السلام) يقاتل يزيد، وحينما قال (صلى الله عليه وآله): (إنَّ الحُسينَ وأصحابه يدخُلُون الجنَّة بغير حِسَاب)، لم يأخذ (صلى الله عليه وآله) في حسابه أنهم خارجون على يزيد.
وهذا الغزالي، أمام عينيه عشرات من كتب السيَر والتاريخ، التي تؤكد بالطرق الموثقة بَشَاعة الأحداث التي تمَّت بأمر يزيد، وبفعله المباشر لبعضها، لكنه يقول في كتابه (إحياء علوم الدين)، باب اللعن: (فإن قيل: هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين، أو أمَرَ به، قلنا: هذا لم يثبت أصلاً، فلا يجوز أن يُقال: إنه قتله، أو أمر به، ما لم يثبت، فضلاً عن لعنه، لأنه لا يجوز نِسبة مُسلمٍ إلى كبيرة من غير تحقيق). إلى أن قال: (إن يقال: قاتل الحسين لعنه الله، أو الآمر بقتله لعنه الله، قلنا: الصواب أن يقال: قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله).فهل كل كتب السيَر والتاريخ عند المسلمين، والتي نصَّت على صدور هذه الأحداث أمراً ومباشرة من يزيد، كلّها لا تُثبِتُ أفعال يزيد ولا تدينه ؟! وعنده أنَّ يزيد شارب الخمور وقاتل النفس المحرمة، وأمثاله من قتلة الأنبياء (عليهم السلام)، وأبناء الأنبياء (عليهم السلام)، مِمَّن يوفَّقون للتوبة.
ويصل الأمر إلى رمي أهل البيت (عليهم السلام) بالشذوذ، فضلاً عن عدم ترتيب الأثر على شَتمهم، فيقول عبد الرحمن ابن خلدون المتوفى عام 1406م في كتابه الموسوم بـ (المقدَّمة): (وشَذَّ أهل البيت بِمَذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم، في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلّها أصول واهية).
يقول ذلك ونصب عينيه أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) في أهل بيته، كما رواه ابن حجر بصواعقه(في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله تعالى فانظروا من توفدون)، ونصب عينه أيضا ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله) كما رواه الحاكم في (المستدرك):(ومن أحب أن يَحيا حياتي، ويَمُوت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدني بها رَبِّي، وهي جَنَّة الخلد، فليتوَلَّ عَليّاً وذريَّته من بعدي، فإِنَّهم لم يُخرجوكم من هُدىً، ولن يُدخلوكم باب ضلالة).وإن مما يَبعثُ على الاستغراب أن يَسكُت علماء وكُتَّاب المسلمين على أقوال ابن خلدون وأمثاله، مع قيام الأدلة على أن أهل البيت (عليهم السلام) هم الامتداد المضموني للنبي محمد (صلى الله عليه وآله) وهم عدل القرآن كما جاء في حديث الثقلين.
الدفاع عن الصحابة كلمة حق يراد بها باطل، طالما استخدمها رواد الفكر السلفي بسياسة الكيل بمكيالين لتمرير مخططاتهم المشبوهة ليس إلاّ، فهم يكفّرون من يطعن بالمنافقين من الأصحاب، ويغضون الطرف عمن يتجرأ بالافتراء على من ثبت إخلاصه وتفانيه للرسول(صلى الله عليه وآله) والرسالة، وعلى لسان الرسول نفسه.
وها هي الفضائيات ومواقع الانترنت والنشريات والكتب التكفيرية، تبث أفكارها الموروثة عن سلفهم الأموي والعباسي بما تحمل من حقد دفين ضد كل من يمت بأي صلة بعلي(عليه السلام) وآل علي ومن والاهم، ويتهمون الشيعة بشتى صنوف التهم والافتراءات الواهية بشأن العقائد الإمامية، بالرغم من أن أعلامنا يدحضون أقاويلهم بسديد العبارة وقوة البرهان، تراهم يصرون على غيهم لغاية في نفس يعقوب قضاها، يحاولون فيها تسييس الصراع الفكري العقائدي لمحاصرة أتباع المذهب الشيعي في بلدانهم، للحيلولة دون المطالبة بحقوقهم المشروعة في الحرية والعمل كباقي المواطنين من المذاهب الأخرى، وما يجري اليوم في العراق من دعم غير محدود للجماعات الإرهابية لبث الرعب والقتل والتخريب والتهجير ضد أتباع أهل البيت يصب في ذلك الاتجاه، وبات واضحا للعيان أن كل تلك الانتهاكات تجري على مرآى ومسمع العالم المتحضر العربي والإسلامي! ولكن دونما جدوى، فلا ينبض فيهم عرق ولا يتحرك ساكن، وأضحى حالهم كما قال الشاعر:لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
https://telegram.me/buratha