( بقلم : المحامي طالب الوحيلي )
مهما كانت اسباب نشوء الدولة المعاصرة ،فان أهم عناصرها هو مبدأ السيادة التامة بمعنى الاستقلال الدستوري ،أي إنها تستطيع التصرف بكامل حريتها في وضع دستورها ،وان القاعدة المتبعة لوضع هذا الدستور هي قاعدة الأغلبية ،مما يدع للدولة حرية اختيار نظام الحكم المناسب لها بعيدا عن وصاية أي جهة دولية أخرى ،وقد سادت فكرة بدائية في تلقي الحكم في العالم العربي وغيره من الأقاليم التي كانت خاضعة للاحتلال بصورة مباشرة او غير مباشرة ،تخرج عن القواعد والنظريات التقليدية في بناء الدول وانتقال السلطات فيها ،فقد كانت معظم أساليب تكون هذه الدول عن طريق المنحة بعد ان رسمت لها حدودها وجرى تقسيم أقاليمها وفقا لمعاهدات دولية¬¬¬ وضعتها الدول المستعمِرة ،يكون ذلك فيما بعد قدر تلك الشعوب التي تخلصت من استعباد المحتل لتقع في آتون الأنظمة الشمولية الاستبدادية التي خطط وأسس لها لتكون عاملا من عوامل التخلف الحضاري ،وأداة للسيطرة الغاشمة على مقدرات العالم الثالث التي تعتبر خزينا بكرا للاحتياطي العالمي للثروات الطبيعية والبشرية ،واخطر تلك الأدوات هو الحكم الدكتاتوري بغض النظر عن نوع النظام الحاكم سواء أكان ملكيا ام جمهوريا ،ولا يمكننا ان نقرنه إطلاقا بالصيغة الدستورية ،لان مشكلة الدساتير في هذه المجتمعات دون استثناء هي إنها وليدة منحة استعمارية مفرغة من كل معنى لها او ما يمكن ان يليها من نتاج لانقلاب دموي يأتي على حين غرة من الزمن،مسترقة الفرصة الطبيعية للأغلبية لتحقيق مطلبهم التاريخي في الحكم الديمقراطي، بعد ان تتوفر أهم العوامل الموضوعية والذاتية للثورة الشعبية التي يمكن ان تعبر عن مصير ومصلحة الشعب الذي لابد ان يكون الجهة المضطهدة سياسيا واقتصاديا، وتلك قاعدة لايختلف عليها من يبحث عن أصول الفعل المحرك للتأريخ وتطوره .
واذا كانت القاعدة الفقهية تذهب الى ان المعروف عرفا كالمشروط شرطا،فقد تقادمت هذه القاعدة على القانون الدستوري في العالم العربي ،وتحولت تلك الاستثناءات الى اساس للنظام السياسي المتبع ،وهي الصيغة الجاهزة في تلقي وتبادل السلطة ،ومن ثم كتابة الدساتير التي تنطوي عليها تلك السيادة المنقوصة اصلا ،كونها رتبط بالخريطة العالمية وبمستويات توزيع النفوذ ،والخطوط المرسومة للحكومات في التعاطي مع شعوبها استنادا الى استراتيج دولي تتحكم به الكارتلات واللوبيات ،فلا يمكن ان يخرج عن نيرها أي حاكم الا وتنتهي حياته السياسية او الطبيعية ،فيما تنتهي الحركات السياسية التحررية الى غياهب السجون وزنازين الاعدام او القبور الجماعية ،فليس غريبا في حسابات اللعبة العالمية ودهاليزها وواجهاتها الاعلامية ،ان تقتل شعوب وتباد امم مادامت قد حاولت التخلص من جلاديها ،واجيال عديدة شاهدة على هذه التجارب في العراق وما مرت عليه من نكسات ومجازر دموية ،لاسيما في العهد الجمهوري حيث الانقلابات القومية والبعثية التي انتهت بالزمن الصدامي البشع ،الذي كان صبيا مدللا لدى القوى الدولية مادام يتلاعب بثروات العراق وبمصير شعبه كيفما يهوى ،فاذا ما ارادوا تقويض طيشه تعمدوا العبث بلعبته ،أي بمصير الشعب العراقي ،عبر إدخاله بحروب لاناقة له فيها ولا جمل ،وفرض الحصار الاقتصادي امعانا في تجويعه وحرمانه من منح الحضارة الإنسانية وقيمها ،وغض النظر عما كان يناله من قهر عنصري وطائفي ،بعيدا عن مراقبة ومرأى منظمات حقوق الانسان والمؤسسات الانسانية التابعة للامم المتحدة او مجلس الامن ،حتى توريط صدام بحرب الخليج وانقلاب ذلك الدلال الى عقاب يودي به الى تغييره ،بعد ان كانت رغبات الاشقاء العرب قد انصرفت الى هذا الهدف لانه عض الايادي التي كانت تداعبه،فما كان من احرار العراق بشماله و جنوبه الا اعلان انتفاضته الشعبية في شعبان او آذار عام 1991 ،لتتدارك القوى المتحالفة ضد صدام والزاحفة لاسقاطه بانها سوف تقع خارج استراتيجيتها ،فتحولت الرغبات الى الحفاظ على النظام المكروه لديها ضعيفا مهزوزا يتهاوى تحت رغباتها ،بدل ان يحل محله عهد شعبي يكون بمثابة الجذوة التي سوف تحرق كل عروش الطغاة في المنطقة العربية،فمنحوه عقدا ونيفا من زمن دموي يكفي لابادة شعب باكمله وتحويله الى ارض بور.
تلك قراءة بسيطة لاحد نماذج النظم الديكتاتورية ،وقد يتذكر العراقيون حين استولى صدام على الحكم بانقلابه على مؤسسته ،كان يسخر من مراهنين بأنه لا يمكن ان يبقى في الحكم اكثر من سنة واحدة ،وكان رده الوحيد بانه اذا ترك الحكم فانه سيترك العراق أرضا بلا شعب ،هذه هي فلسفة الحكم لدى هذا الطاغية ،واذا ماسمع بها غيرنا فاننا نراها كل حين حتى بعد سقوطه ،لان الفصول الدموية والخراب الذي تعيثه ايتامه ومن يتباكى على عهده الطائفي الشوفيني،هي احدى مفردات تلك (العقيدة) العمياء .
العولمة الانسانية والسلمية تتلمس طريقها كبديل شعبي للانماط التي ترهلت كثير بسبب ماتحمله من آثام وما يحيطها من اشبح للضحايا ،ادت الى التعاطي مع مظلومية الشعب العراقي التي قطعت اشواطا بعيدة في التحفز نحو الوثوب الديناميكي لانهاء حكم الطاغية ،بعد ان اصبح من مصلحة الجميع اسقاطه ،فتفاجأت برسوخ الانموذج السياسي الديني في صلب الروح العراقية الجمعية عبر المرجعية المتصدية وتكاملها العقائدي والسياسي وعدم انفصام تلك العناصر لديها ،مثال ذلك المجلس الاعلى للثورة الاسلامية ورمزية آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (رض) وتواصلها الفعلي مع مرجعية الامام السيستاني وبقية المراجع العظام ،فضلا عن الاستيعاب الموضوعي والذاتي للقوى الوطنية للمخطط السياسي الموضوع ،مما ادى الذهول الدولي اتجاه كافة المنجزات الشعبية التي تحققت وما يمكن ان تتحقق والذهول ايضا ازاء الكوارث الارهابية التي طالت الشعب لعراقي وما يمكن ان تتركه من علائم استفهام وتوجهه من اصابع اتهام باتجاه اكثر من طرف دولي لايجد مصلحة له في استقرار النظام الجديد بما يعنيه من صيغة متحررة تضعه في صف بعيد عن العالم الثالث الذي مازال ينزف دما وثروات.
لاول مرة في التاريخ السياسي يحكم العراق دستور حقيقي وضع بايادي عراقية واستفتي عليه بكل وعي وصودق عليه بالرغم من معارضة بقايا ثقافة الماضي له لانهم تولوا تلك العقيدة البالية بالرغم من انها لم تكن على صواب منذ ظهورها ،ومع ذلك فقد منحهم الدستور فضاءات واسعة في العمل البرلماني الذي يمكن ان يجير لكل من يتمكن من حيازة رضى الشعب الذي هو اليوم فعليا مصدر السلطات ،فلا مستحيل امام هذا المبدأ مادام يعمل تحت نطاق الدستورية التي اكدها المرجع الاعلى السيد السيستاني في بيانه الاخير (احترام ارادة الشعب المتمثلة بالدستور الدائم للبلاد ونتائج الانتخابات التي انبثقت عنها الحكومة الوطنية الحالية ( وهذا مختصر مفيد لجواب صريح حول كل الإرهاصات والتداعيات المحلية والإقليمية والدولية التي تتعلق بالشأن العراقي وتلقي بظلالها على الحياة اليومية والمستقبلية،وهو ميزة اللعبة السياسية مهما كانت اطرافها وميولها ،وذلك مسك الختام...
https://telegram.me/buratha