بقلم: د خالد شوكت
السبت 12 أغسطس وأنا أتابع أخبار العراق الدامية، وهذه التفجيرات اللعينة التي تحصد أرواح العراقيين البسطاء الأبرياء في الأسواق والمساجد والكنائس والشوارع والساحات العامة، أسأل نفسي كل يوم ذات السؤال: هل هذه مقاومة؟ لست أدري لماذا انقلبت عند العرب مفاهيم الأشياء؟ و لماذا يصبح مجرم سفاك متعطش للعق الدماء بطلا وشهيدا، بينما الباني المشيد خائنا وعميلا؟ أم أن عقلي أنا "مركب شمال" على حد قول إخواننا المصريين؟في العراق الجديد، المقاييس مضطربة تماما، وخلاصات العرب ونظراتهم إلى الواقع العراقي مدعاة للتساؤل والحيرة والتعجب، أما الأسئلة فيمكن أن تكون عجيبة غريبة فريدة من نوعها:- من هو المقاوم في العراق، الذي يقتل غيلة الأطفال والنساء والشيوخ والعمال البسطاء بتفجير نفسه بحزام ناسف طلبا للشهادة كما علمه شيوخه الأفاضل لعاقي الدماء، أم من يسعى لإنقاذ الأنفس ببناء المستشفيات والمراكز الصحية والعمل على مد المحتاجين والفقراء بالدواء؟- من هو المقاوم في العراق، الذي يدمر ويخرب ويغتال أعوان الأمن وقوات الشرطة والحرس المدني ويزرع الرعب والهلع في صفوف العراقيين المدنيين ويعطل المرافق الإدارية والحياة العامة والمدارس والجامعات، أم الذي يساهم في زرع الأمل في نفوس العراقيين ويعمل على تأمين الخدمات الضرورية لهم من غذاء وكساء ودواء؟- من هو المقاوم في العراق، الذي يفجر محطات الكهرباء ويقطع الطرقات ويقصف المطارات ويخرب مجمعات التلفونات والاتصالات ويسمم خزانات المياه ويدمر البنى التحتية للبلد، أم الذي يسعى جاهدا إلى إصلاح هذه المرافق جميعها ويتطلع إلى تأمين المزيد من خدمات الرفاهية لعموم العراقيين الذين لم يغمض لهم جفن منذ أربعة عقود جراء مغامرات الأخ القائد وفلوله الإرهابية المتواصلة؟- من هو المقاوم في العراق، الذي يغتال السياسيين والإداريين والعلماء ويذبح الصحفيين والكتاب والأدباء، أم الذي يشارك في تنظيم الانتخابات وإقامة مؤسسات الدولة التعددية الديمقراطية وتنمية تقاليد الحياة الحرة الجديدة في السياسة والإعلام والحياة العامة؟- من هو المقاوم في العراق، هذا الذي يسعى لإخراج المحتل من البلاد، أهو الذي يهدد بإقامة نظام على شاكلة الطالبان أو البعث زمن صدام، بزرع الموت والخراب والدمار في كل مكان، ويوفر المزيد من الحجج والأعذار للإبقاء على القوات الأمريكية إلى ما لا نهاية، أم الذي يعمل ما بوسعه لبناء المؤسسات العسكرية والأمنية الوطنية، من جيش وشرطة، ويقيم أسس دولة تعددية ديمقراطية حديثة، بما يقصر من عمر الاحتلال وينزع مبررات وجوده؟- من هو المقاوم في العراق، الذي يصدر فتاوى القتل الجماعي في حق الشيعة باعتبارهم عملاء وخونة ورافضة، أم هو الذي يناضل من أجل دولة يكون صندوق الانتخاب الشفاف والنزيه فيها هو المحدد، وتكون فيها العملية السياسية شراكة وتمثيلا لكل الحساسيات والطوائف والأحزاب والجماعات؟هذه الأسئلة المفارقة لا يمكن بطبيعة الحال إلا أن تكون عربية محضة، لأن بقية أمم العالم لم تسعفها عقول نخبها بعد إلى أن تبلغ هذا الحد من الولع بقلب الحقائق وازدرائها في مقابل الكلمات، وجعل الشعارات مقدمة على الوقائع والانجازات، فالعرب على سبيل المثال يعدون قادتهم الأبطال هم الذين يقودون شعوبهم إلى الهزائم المدمرة المتكررة، أما قادتهم الخونة فهم بنظرهم من يربح المعارك العسكرية ويستعيد الأراضي المسلوبة!والعرب على خلاف شعوب الأرض جميعا، لا يقيمون ساستهم بالأعمال والإنجازات، إنما بالنوايا والشعارات، فالذي يطلب من الأمريكيين مثلا مغادرة البلاد وإخلاء القواعد العسكرية، ليس إلا عميلا وخائنا ومتآمرا كبيرا على الأمة، أما الذي يوفر لهم أسباب المجيء أو يمنحهم نصف البلاد قاعدة فليس سوى بطلا مغوارا وقائدا قوميا عظيما!الذي ينفق على التربية والتعليم وبرامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية، هو في عيون العرب سفيه وخائن وعميل، أما الذي ينفق على العساكر المنهزمة دائما وعلى شراء الأسلحة الخربة ومشاريع المفاعلات النووية المفترضة وتمويل الثورات والانقلابات في كل أنحاء الدنيا، فليس سوى بطلا عظيما وقائدا أمميا ثائرا خذله شعبه الذي لم يفهم عبقريته جيدا وتكالبت عليه قوى الاستعمار والرجعية والامبريالية!وأخيرا، لا يسعني إلا أن أتساءل: لو أن العراق لم يقاوم على الطريقة الزرقاوية، وقاوم على الطريقة "الإدنهاورية" (نسبة إلى إدنهاور الزعيم الألماني بعد الحرب العالمية الثانية)، كم تراه وفر من أرواح وأموال وبنى تحتية، وكم تراه ربح من الوقت والجهد والثروة الوطنية، وكم درجة تراه ارتقى في سلم التنمية المستدامة؟ الأمريكان وحدهم من يدرك عظم الخدمات الجليلة التي تقدمها المقاومة الحمقاء لهم!اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha