المقالات

في جنازة أبي ليث الكاظمي


( بقلم : حيدر العكيلي )

ليست هي المرة الاولى التي اسير فيها في تشييع جنازة, ولا حتى المرة الاولى التي ارافق جنازة الى مثواها الأخير ( الدفن) .. لكنها المرة الاولى التي تنكشف فيها مشاعري على امور .. أبو ليث الكاظمي ذلك الرجل الذي لم اعرفه طويلا, منذ عام فقط التقيته لاول مرة في مؤتمر .. ثم بعدها عين زميلا لنا في الدائرة التي اعمل فيها .. رغم ان كل ذلك غير كاف لأكون عنه فكرة شاملة الا انه على مايبدو من النوع الذي تنطق صفاته عنه دون كلام .. لان أي شخص كان يمكن ان يحس بدماثة خلقه وسمو نفسه وسمته العالي.. ذلك الرجل الهادي ذي النظرات والحركات الجادة تلوح الطيبة ولين الطباع من قسمات وجهه , الرجل الذي عاش شطرا من حياته محاربا ضد الظلم والطغيان والذي نذر نفسه كليا للعراق كان قد انتزع احترام الجميع دون عناء. أدركت وإنا أسير خلف جثمانه ان كل ما رافق موته من حفاوة إنما كان يستحقها .. فمنذ الاعلان عن استشهاده في بعض القنوات العربية وقد قيل حينها ان (مستشارا للمالكي قد قتل ) في أحداث البصرة الاخيرة "صراع الإخوة الأعداء" !! رغم انه لم يكن مستشارا لا فعلا ولا وظيفية إلا ان مكانته التي بناها بتاريخه الحافل ترتفع بكثير عن منصب المستشار وعن كل الدرجات الوظيفية .. ان جنازة الشهيد ابا ليث لم يخطط جيدا لمسيرتها ورغم ذلك فان التشييع بدا مهيبا ابتداءا من نزول جثمانه في مطار بغداد وتصرف المستقبلين له وليس فيهم من يعرفه أو ينتمي الى نفس الفئة التي ينتمي إليها وتعاملهم مع جثمانه بكل مراسم استقبال القادة .. وحتى في مثواه الاخير في مدينة أمير المؤمنين حيث سار ركب مهيب تتقدمه فرقة موسيقية عسكرية تعزف لحنا جنائزيا وحشد كبير من كبار الشخصيات ورجال الدين والدنيا في محافظة النجف الاشرف مما لم يعهده العراقيون الا لكبار الشخصيات, رغم ان الرجل لم يكن من أهل المناصب التي زهد بها وتكالب عليها غيره .. وكان الدنيا أعطته في وداعه الأخير مصداق الحديث الشريف ( من تواضع لله رفعه) ومن هنا انكشف أمامي هوان الدنيا وضئالتها .. حيث كنت انظر للمشيعين المكتسين بملامح الحزن من اعلى المناصب والرتب والدرجات الى أدناها مفكرا فيما إذا كان احد هؤلاء قد تذكر يومه الموعود .. متى وأين سيكون وكيف سيدخل الى العالم الأخر ؟؟ ان أبا ليث قد عبر الى الضفة الأخرى ودخل ذاك العالم من بوابة واسعة .. فهل سيكتب لي ان أحظى بقبر في ذلك الجوار كما هو الآن .. كنت دائما احمل ذلك الهاجس حتى في سني المهجر, كم خشيت ان اسلم الروح وأنا في ارض غريبة عن العراق .. ان موت الحاج سليم قاسم أبو ليث الكاظمي قد أصاب الوسط الذي هو فيه بصدمة كما أراد الحديث ( كفى بالموت واعظا ) , فيبدوا أنها سنة جرت على البشرية, من يؤمن بالأديان أو لا يؤمن .. فهل يجب ان نفقد عزيزا أو شخصا مقربا حتى نشعر بالموت ؟؟ نعم .. هكذا هو الحال , فنحن نسعى بتلك الأجساد بحثا عن كل ما تشتهيه .. الجاه والمال والجسد والولد والمنصب وغيرها من الرغبات التي تنفتح أبوابها أمامنا كلما نلنا منها حظا اكبر فسوف نتطلع الى المزيد .. نحن بالتأكيد متناسين ان هذه الأجساد التي نسعى بها ما هي الا أقفاص تقبع أرواحنا البريئة وراء قضبانها حبيسة ذلك البناء الذي يسمى البدن نحمل عليها أثقالا فوق أثقال ونعلق عليها أوزارا فوق أوزار, ثم إذا غادرنا بها الدنيا, ابتليت تلك العوالم الشفافة بأعمالنا حتى انها لم تعد شفافة كما خلقت .. أترى ذلك هو ظلم النفس ...؟؟

لست اعرف هل إنني لوحدي من ينتابه شعور السكينة في المقابر ؟؟ صدق القائل ( ان التفكر عبادة ), السير في المقبرة المترامية الأطراف كمقبرة (وادي السلام ) في النجف الاشرف هو بالتأكيد شئ مدهش ولا عجب فهي الأكبر في العالم على الإطلاق .. ليت من يسير فيها له روح الحلاج او ابن الفارض كي يرى تقاسيم الليل والنهار بوضوح .. كيف تتعاقب الأيام بلياليها ونهاراتها امام عينيه بما يعنيه هذا الكم الهائل من القبور التي تحتوي رفاتا من اجساد شتى, واعمارا شتى .. يعني اياما وشهورا وسنينا وعقودا طويلة .. تعني أعمارا بآلامها وآمالها وأفراحها وأحزانها .. نجاحاتها إخفاقاتها, بما كسبت من سئ ومن حسن.. اناس رحلوا بالخفيف مما حملوا على ظهورهم , أدوا ما عليهم, لم يتسابقوا على نيل مما ليس لهم , وآخرون مضوا بالحمل الثقيل اوزارا واثقالا كانوا قد اطلقوا لأنفسهم العنان في ان تنال ما تشاء مما تستحق او لا تستحق مما لهم او ليس لهم, فالناس كلهم لهم شهوة المال والجاه والمنصب والجسد لكنهم يختلفون في كيفية اشباعها لان الخالق قد منحنا الى جانب الشهوات, أدوات نستطيع بها ان نكبح جماحها وأهمها العقل .. ولنا ان نتخيل شخصا في سفر طويل وهو يحمل على كتفيه كيسا فيه مئة كيلو غرام, وأخر سار في نفس الطريق يحمل كيسه بكيلو غرام واحد .. أحمال وأثقال نضعها على أكتافنا يوما بعد يوم بتعاقب السنين .. آه ما أثقل ذلك !! والنهاية واحدة إنها هناك في ذاك الوادي الساكن في واحدة من تلك الاحافير المتقنة .. لقد رحل أبو ليث الى الحياة الأخرى واخذ معه صرته التي ملئها "بما خف حمله وغلا ثمنه" لا ذهبا ولا جواهر لكن مفاخر ومآثر .. وكل الذين يسيرون خلف جثمانه, لابد يوما به لاحقون, سيجرف كل منهم في مجرى الحياة الأولى الذي يصب في الآخرة , فهل نتمكن ان نفعل كما فعل أصحاب الحظ العظيم من ان نحمل ما خف حمله وغلا ثمنه ؟؟

لا يتصور البعض ان هذا كلام اليائسين الذي لا يحبون الحياة بل العكس تماما فهذه مفاهيم من يحبون الحياة الى درجة لايكفيهم كل ما فيها فهم يطلبون المزيد .. فهم يأخذون حظهم منها ويبتغون حياة أخرى أرحب واكبر وأنقى وأغنى .. يصدقون بخالق الحياة الذي يقول ( وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) وأخيرا السير في جنائز الرابحين بل وحتى الخاسرين ما هي إلا نوع من التدريب العملي للاحياء على مسيرة الخلود !!

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك