( بقلم نضير الخزرجي )
ثمّت تساؤل: هل يعني الإقرار باصالة الحرية، ان للمرء أن يفعل ما يشاء، وله ان يتصرف بما تملي عليه ارادته، دون ان يكون لمن يعيش معه ادنى تدخل او تأثير، سلبا او ايجابا، وليس للمحيط او الطبيعة والبيئة والفضاء اية حرمة او حق؟
في الواقع يمكن تصور مثل هذه الوضعية، لو ان الانسان عاش لوحده في بقعة من الارض مقطوع الاتصال مع المحيط الخارجي، على ان مثل هذا التصور مثالي هو الاخر، لان حرية الانسان لا يأخذ بها ملحوظا حريات الاخرين فحسب، فالانسان لا يتعامل مع نظيره الاخر فقط، فحرية الانسان لها مساس مع علاقة الانسان بالله وبالطبيعة وبالحيوانات وبجسده، فمن الحرية ان يأكل الانسان الطعام، ولكن ليس من الحرية ان يأكل الطعام المضر، فمن الحرية ان يأكل لحم الغنم، ولكن ليس من الحرية ان يبيد الثروة الحيوانية، فمن الحرية استعمال الشجر للتدفئة والطبخ وصنع الأدوات المنزلية وما اشبه، وليس منها ابادة الثروة الزراعية وتخريب البيئة، فاصالة الحرية لا تعني الفوضى في تصرفات الانسان.
نعم فالله الخالق جل وعلا، والشرع، والعقل السليم الذي لا يتخلف عن التشريع، وسيرة العقلاء، كلها توجّه الانسان نحو طريق الرقي والتكامل، وحتى يصل الى هذه المرحلة، يقتضي فيه ان يكون حر الارادة والتفكير والتصرف، ولما كان سكان الارض هم آحاد الناس، وكلهم يسعى نحو السمو، فمن الطبيعي ان تتصادم الارادات والحريات ويحصل التزاحم والتعارض، من هنا فان العقل يسلم بضرورة وجود ضوابط وشواخص لحرية الانسان، اذ ليس من المعقول التمسك باصالة الحرية للاضرار بحرية الاخرين او الاضرار بالطبيعة والمحيط الخارجي، او الاضرار بذات الانسان وجسده، فهو فضلا عن تعارضه مع حرية الاخرين فهو من الخرق الذي يتعارض مع حكمة الخلق وحكمة اصالة الحرية التي اريد بها ان يسمو الانسان لا ان يتسافل.
في هذا الاطار يقول الشيخ مصباح يزدي استاذ الفلسفة الاسلامية في حوزة قم العلمية: "ان الحكمة الالهية تقضي بان يبلغ كل انسان الغاية من وجوده، وهذا لا يقتصر على انسان واحد، بل اقتضت الحكمة الالهية ان تتهيأ لكل فرد مستلزمات تكامله الاختياري، فالله ليس اله شخص واحد، بل هو اله لكل المخلوقات، لذلك يجب ان تكون ظروف النمو والتكامل الاختياري متوفرة للجميع، والاحتكاك الذي يحصل بين الافراد هو الذي يوجب وضع القوانين الحقوقية، ولم تكن هناك ضرورة لها، اذ كان يمكن الاكتفاء بالقوانين الاخلاقية والتكاليف الشرعية الفردية فحسب، ولكن نظرا لحصول هذا الاحتكاك في غضون تقدم الانسان نحو التكامل في الحياة الدنيوية، كان لابد من وجود تعاليم تنظم هذه العلاقات بحيث يتاح لكل فرد ان ينتخب بشكل مقبول طريقه نحو الكمال النهائي ويسير فيه"(1).
الحرية المعقولة واللامعقولة
ونجد مفكرا اسلاميا آخر، يحاول ان يضع ضوابط للحرية، وعلى ضوء هذه الضوابط، يعزل الحرية المعقولة عن الحرية اللامعقولة، ويعزو التفريق بين الاثنين الى كيفية الاستفادة من الحرية وحجم الاضرار المتولدة عن ممارسة الحرية بصورة مغلوطة، يقول الفيلسوف الايراني الشيخ محمد تقي بن كريم الجعفري (1344-1419هـ): "ولتوضيح معنى الحرية المعقولة وقيمتها يجب اولا ان ندرك هذه الحقيقة، وهي ان المعقولية وعدمها ليستا متضمنتين في ذات الحرية، ذلك ان معنى الحرية فتح المجال للفعل والترك لانسان ما سواء كان من طرف واحد او من الطرفين، ذا قيمة او منافيا للقيمة. والذي يجعل الحرية موصوفة بالمعقولية وعدمها يرتبط باسلوب الاستفادة من الحرية، فاذا كان مطابقا للاصول والقوانين الانسانية المفيدة كانت الحرية معقولة، وان كان ضد الاصول والقوانين الانسانية المفيدة سميت غير معقولة، وعليه فان كل حرية من قبيل حرية العقيدة والفكر يستفاد منها بشكل يضر بالانسانية ضررا معنويا او ماديا تعتبر حرية غير معقولة، وهي التي يحس بها الهمجي السكران في اعماقه".
ويضيف الجعفري: "أما اذا كانت الحرية موافقة للاصول والقوانين الانسانية المفيدة واستفيد منها بالاتجاه الموجب، فهي معقولة، واذا شئنا ان نعبر عن الحرية اللامعقولة بتعبير اكثر دقة، قلنا: الحرية هي التي توصل هوى الأنا الطبيعية المحصّنة الى مرحلة الفعلية"(2).
نلمس قريبا من هذا المعنى عند الباحث الفلسطيني الدكتور سري نسيبة وهو يتحدث عن حرية التعبير، لكنه يصنف الحرية الى حرية خير (حق) وحرية شر (غير حق) فهو يرى ان حرية التعبير لا ينبغي ان يساء فهمها رغم انها حق، فيصدق عليها منطوق الحق: "بشرط ان لا تكون اعتداء على حقوق الاخرين، وايذاء الاخرين قد يشكل في بعض الاحيان اعتداء على حقوقهم. حينما يكون ايذاء الاخرين غاية بحد ذاتها يكون العمل الذي يسببه شرا، ويشكل اعتداء على حقوقهم، فان كان ذلك العمل هو حرية الرأي لا يصدق الحمل عليه أو، لا يوصف انه حق، أي لا تكون حرية الرأي في هذه المرحلة حقا".
فالاعتبار الرئيسي هنا كما يقول نسيبه: "هو اذا ما كان المسّ بالشعور يكوّن غاية بحد ذاتها، فاذا كان يكوّن غاية بحد ذاتها يكون العمل الذي اقيم لتحقيقها شرا بالقياس اليها، أكان هذا العمل تعبيرا لفظيا عن الرأي أم أي شيء اخر". مضيفا: "فحرية التعبير عن الرأي، فهي خير بشرط ان لا تشكل اعتداء على حقوق الاخرين، والاعتداء على حقوقهم هنا قد يتمثل في ايذائهم، حيث يكون الايذاء غاية في حد ذاتها، فاذا كان القصد الاول ها هنا هو التعبير عن الرأي، ولم يكن ايذاء الناس غاية في حد ذاتها، تكون حرية التعبير عن الرأي حقا وخيرا لذلك، اما اذا قصدت ايذاء الناس بتعبيري عن رأيي، وكان الايذاء اعتداء على حقوقهم، فلا يصدق الحمل على حرية التعبير هذه بانها حق وخير، فان كان هذا كذلك، فلا يكون قصدي الاول في هذه الحالة خيرا اصلا"(3).
ولكننا اذا سلّمنا بهذا الرأي وهو صحيح من حيث اننا غير مأمورين بتفتيش صدور الناس ومعرفة نواياهم، فهم مسلطون على أنفسهم، ولكن قد يقود جهل المعبر عن رأيه الى إيقاع الأذى بالاخرين من دون ان يقصد او نوى ذلك، فماذا نفعل حينئذ؟
من الطبيعي والنتيجة هذه، يلزم وضع ضوابط وقوانين لحرية التعبير، ولمجمل الحريات، والا من دونها لا يمكن ان نحكم على افعال الناس بالخيرية اذا ما ألحقت الاذى بدعوى ان الفاعل لم ينو او يقصد الاذى، نعم ان صدق النية يدخل عاملا مساعدا في تخفيف الوطء في مقام الاذى الحاصل، ويمكن تشبيه ذلك، بالذي يرتكب جنحة القتل خطأ، فهو لم يقصد القتل، ولكن الحدث وقع وأزهق عن غير عمد، روحا محترمة أعزها الله، او كمن يسير في عربته ويدهس انسانا من غير قصد، او مثل من ينظف سلاحه الناري وتصيب رصاصة قريبا منه خطأ، فتعمد القتل غير وارد في هذه الحالات، لكن الأذى وقع وحصل بالفعل، نعم الحكم هنا يختلف، لان موضوع الحكم في مثل هذه الحالات دائر مدار قصد النية من عدمها.
الحرية والقانون
وهناك تجاذب بين حرية الفرد وحرية الجماعة، وهذا امر مسلّم به لاننا نعايشه كل لحظة ونتعايش معه، وينبغي ان نتعايش معه، لانه لا كوكب اخر يجمع بني الانسان غير كوكب الارض، الا اذا تطور العلم ووجد كوكبا اخر يلائم طبيعة الانسان الفسيولوجية، وعلى افتراض وقوع مثل هذا الامر، وهو ليس من المستحيلات فان المعايشة هي الأخرى أمر حتمي، من هنا قال مؤسس المدرسة التجريبية الحديثة، الفيلسوف البريطاني، جون لوك (John Locke) (1632-1704م) عند تطرقه للحرية وضوابطها من جانبها الفقهي القانوني بانها عبارة عن: "الحق في فعل ما تسمح به القوانين". ويعرفها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (Jacques Rousseau) (1712-1778م) بأنها: "عبارة عن طاعة الارادة العامة"(4)، فالقانون، في ترسيم حدود الحق هو العامل المشترك في اكثر ما يذهب اليه الفلاسفة بشأن الحرية، ولذلك فان: "جون لوك وجان جاك روسو، كلاهما آمنا بان الناس بامكانهم فقط ان يكونوا احرارا عندما يضعون أسورة القوانين حول معاصمهم ومعاصم الاخرين على السواء، وقد اشار لوك الى هذا المعنى بالقول: الحرية من منظار القوانين"(5)، فيما دافع روسو عن رأيه: "ان الرجل يجب ان يجبر لأن يكون حرا، بمعنى آخر ينبغي عليه ان يكره على ذلك، ومهما تكن مبلغ كراهيته، ينبغي عليه ان يقبل بالقوانين التي هو يكرهها حتى يكون حرا حقا"(6).
بازاء جون لوك وجان جاك روسو نجد احد زعماء ما يوصف بالتيار الفوضوي وهو الروسي ميخائيل باكونين (Mikhail Bakunin) (1814-1876) ، يصر في آرائه الفلسفية: "ان الناس عادة يتبعون الضرورات الاجتماعية في تعاملاتهم حتى في غياب كامل للقوانين وللسلطة، فانه ليس هناك من شيء احق من الحرية المطلقة. واشتهر عنه القول: هناك رغبة ملحة لان يكون كل انسان حكيما بما فيه الكفاية لادارة نفسه من غير تدخل أي عائق اجباري"(7).
ربما يكون باكونين مقتنعا بما يقول اذا حاول اعتبار كل الناس حكماء بما فيه الكفاية، وهذا امر لم ولن يتحقق في هذه الدنيا، وهو يدرك ايضا استحالة تحقيق مثل هذا الامر، ولذلك فانه لا يمكن الحديث عن حرية مطلقة بغياب قانون دولة ينظم شؤون المجتمع، وسلطة ورادع من داخل النفس، وحسن النية والامنية بخلق مجتمع حكيم لا يسدان الخلل الذي سيحصل من غياب قانون، حتى في المجتمعات الصغيرة فان قانون الاسرة او العشيرة او الحي ينظم وفق رؤية وعرف المجتمع الصغير للحياة، والعلاقة بين افراد هذا المجتمع، وتشخيص حرية كل فرد من افراده، وليس الرضا بالقانون المنظم لقنوات الحرية شرطا لسريانه على الجميع وانما قبوله من جانب الفرد وان رفضته نفسه يعتبر اساس تنظيم حياة المجتمع، فالرضا حالة سامية لا يمكن وجدانها عند كل الناس، ولكن القبول امر يمكن نشدانه عند الكل بشكل عام وان تعافت بعض النفوس عن الرضا به.
وفي هذا الاطار يقول الباحث والسياسي السوداني الدكتور حسن عبد الله الترابي وهو يتحدث عن حدود حرية الفرد داخل التكتل: "فليست الجماعة المؤمنة إصرا على الفرد ولا غريما يشادّه ويسلب حريته لانها ثمرة من ثمرات اختياره ورضاه، ولا يكون نظامها الا طوعيا يحفظ للفرد قدره ويرعى حرماته متميزا عن نظام الجماعات التي ينضم فيها الفرد قسرا وربما غلب من ثم على سائر امره في الحياة . ولا يعني بناؤها على المشيئة الحرة ان يستبد فيها الفرد بهواه ما شاء، فان حرية الانسان لا تقدر في الدين لذاتها لانها شرط اهلية لاحتمال قدره في الابتلاء وادراك غايته في الاهتداء الى ربه، وليس في وخي الكمال في ان يتسع الفرد في ممارسة حريته عدوانا على حريات الاخرين او تجاوزا لحدود طريقه الى الله، وانما يتوخى المؤمنون الكمال في تعاونهم على عبادة الله وتناصرهم لاعلاء كلمة الله"(8).
نحن هنا امام رأي لا يرى قيمة ذاتية للحرية، بل لانها شرط في الاختبار والابتلاء، وهذا الوصف يمكن سحبه على قيم اخرى، مثل الشورى والتعددية، فالشورى تكون ذات قيمة اذا حققت الوئام داخل المجموعة او المجتمع، والتعددية قيمة ليست لذاتها وانما بما تحققه من تأطير للاختلاف يدفع بالمجتمع نحو التكامل، ويسري هذا الكلام على بقية القيم، ولكن هذه الشرطية لا تسقط عن الحرية اصالتها وقيمتها الذاتية، كما لا تسقط عن الشورى وجوبها اذا لم تحقق النتيجة المطلوبة.
أنا وحرية الآخر
فحرية الانسان تحدد بالنسبة لحرية الاخرين، ويرى البعض ان الاهم هو الايمان بحرية الاخرين قبل حريتي، حتى يسعد الاخرون واسعد انا، وبالتالي يتحقق الامن الاجتماعي، ذلك ان: "الحرية كالشعور لا يوجدان بجوهرهما بالنسبة الى حرية الاخر وشعوره من خلالها ولأجلها، وان جوهر الحرية المبدعة هو ابداع الاخر، ان حرية كل انسان لا تتوافر ولا تتمتع بفرص التحقق الا بتعايش حريات في مجتمع حريات (يمثل) مجتمعات سياسية مؤلفة من اناس احرار متحلين بالشعور والحرية"(9).
هذه النظرة التفاؤلية والايجابية لضوابط الحرية والتعامل مع الاخرين، هي نظرة يحاول الاسلام ان يؤصلها في نفوس الناس، من قبيل ان ينظر الانسان الى احتياجات جاره قبل ان ينظر الى داره، وان لا يتطلع الى نوافذ الجيران لانه خلاف الحرية الذاتية للجار وتسلط عليه من غير وجه حق، ومعارضة مع مبادئ حق الجيرة التي أقرتها الرسالة الاسلامية، وان يعوده اذا مرض ويشيعه اذا مات، ويحضر اتراحه كما يحضر افراحه، ويفسح له في المجالس(10)، بلحاظ: "الأصل في الانسان الحرية في قبال اخيه الانسان، اذ لا يحق لأي انسان ان يسلب حرية وارادة غيره أو يقيدها، فقد قال أمير المؤمنين (ع): (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا)، فالحرية الاسلامية حرية واسعة تنتهي عند حدود العبودية لله تعالى، التي ليست بدورها سوى التسليم لقوانين وسنن الكون والطبيعة من اجل الاستفادة منها، والحرية في الاسلام لا تعرف لونا معينا وانما هي قيمة دينية مقدسة تشمل جميع الألوان والشعوب، حيث ان الناس سواسية كأسنان المشط"(11).
ومثل هذا المعنى نجده عند الفقيه المدرسي، اذ: "ان القاعدة والاصل كما صرحت بذلك الاحاديث الشريفة عن المعصومين (عليهم السلام) هي: (كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام). ويعزز ذلك قوله تعالى: {خلق لكم ما في الارض جميعا} سورة البقرة:29، وهذه القاعدة شبيهة بالقاعدة الفقهية الاخرى بخصوص الطهارات والنجاسات حيث تقول هذه القاعدة: (كل شيء لك طاهر حتى تعلم نجاسته). اذ الاصل او القاسم المشترك بين القاعدتين هو الامتناع وعدمه سواء في الاستعمال، او الاستهلاك، او الانتفاع. نفهم من تينك القاعدتين
ان مجال الحرية مفتوح حتى يصطدم بحدود حرية الآخرين"(12).
بين الاستبداد والانفلات
والحرية بحد ذاتها "قيمة ذاتية" كما يراها الكثيرون، ونعتقد بذلك ايضا، ولكن هل هي مطلقة لا تحدها حدود؟
يقول أمين عام الجماعة الاسلامية في لبنان ونائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء القاضي الشيخ فيصل أنور فؤاد مولوي: "ان الحرية لم تكن مطلقة ولا يمكن ان تكون مطلقة في حياة الناس، الحرية هي أهم قيمة انسانية نعم، لكنها لا تتعارض مع القيم الانسانية الاخرى، والحرية الفردية لا يمكن ان تتعارض مع القيم الاجتماعية الاخرى، انما التكامل ضمن الانسان وضمن المجتمع هو الذي يعطي هذه الحرية مقامها ودورها. في تاريخ البشر كلهم الحرية لم تكن الا مقيدة وهي مقيدة دائما بقيدين اثنين: قيد ذاتي لان الانسان بحد ذاته الذي يتمتع بالحرية الكاملة يشعر في نفس الوقت انه يتمتع ايضا بقيم انسانية لا يمكن ان تنفك عنها، فالتوازن بين حريته وبين قيمه الانسانية و بين حريته وبين مسئوليته، هذا التوازن يضع على حريته شيئا من القيود".
ويضيف مولوي: "واذا انتقلنا الى دائرة المجتمع نجد ان الحرية الفردية لا يمكن ان تاخذ مداها وجدواها الا ضمن التكامل مع قيم المجتمع واستقراره وانتظامه ونموه لان المجتمع الانساني هو للفرد الانساني، والفرد لا يمكن ان يعيش بدون مجتمع، والمجتمع لا يمكن ان يعيش الا بقيم اجتماعية بضوابط وأنظمة وأعراف. هذا بلاشك يؤثر على الحرية الفردية ويقيدها ولكن التكامل بين هذه الحرية وبين هذه القيم الاجتماعية هو الذي يجعل الاثنين معا يسيران في خط متواز من اجل بناء انسان افضل وبناء مجتمع افضل." وينتهي مولوي الى بيان حقيقة ثابتة في حياة الانسان وهي ان: "كل تاريخ الانسان افرادا ومجتمعات انما هو حول هذا التوازن بين الحرية الفردية وقيودها الذاتية، وبين الحرية الفردية وقيودها الاجتماعية، كل تاريخ البشر هو عبارة عن هذا التوازن احيانا يميل هنا، احيانا يميل هناك، احيانا يستقيم، لكن هذا هو تاريخ البشر"(13).
التوازن الذي يتحدث عنه الشيخ مولوي والذي يعبر عن رؤية صائبة من وجهة نظري يتحدث عنه الشيخ محمد علي بن علي اكبر التسخيري، عضو المجمع الفقهي الاسلامي الدولي، مع اعتبار الحرية نزعة انسانية اصيلة، فالتوازن كما يعتقد التسخيري انه: "من سمات الواقعية الاسلامية، فان رفض الحرية الانسانية رفضا مطلقا وعدم اخذها بعين الاعتبار في التشريع يؤدي - بلا ريب - الى كبت نزعة انسانية اصيلة بل ويتجاوز بها البعض فيعتبرونها نزعة حيوانية ازدادت تأصلا عند الانسان، وكونها نزعة اصيلة هو الذي يسوّغ (للرأسمالية) ان تبني نظريتها التنظيمية عليها وتدعو اليها، وقد تكون قيمة الحرية أمرا لا يعدله الكثير من القيم الاخرى، فقتل الحرية – كما تفعله الشيوعية-(*) يعني اقل ما يعني نزعة اصيلة في النفس بالاضافة الى ما تؤدي اليه من قتل روح الابداع الخلاق وخلق حالة الاستسلام اليائس للنظام الجبار". وينتهي التسخيري بخلاصة لهذا التوازن بقوله: "اذا كان رفض الحرية – رفضا مطلقا- مضرا بالانسان فان قبولها – قبولا مطلقا- ايضا امر لاشك في ضرره فيجب القول بها وقبولها في الحدود المعقولة"(14).
وهذا التوازن الذي يتحدث عنه التسخيري يختصره الفقيه الشيرازي (1928-2001م) بعبارة واحدة هي ان: "الحرية وسط بين الاستبداد وبين الميوعة والانفلات"(15)، وحسب تعبير الجراح اللبناني، الفلسطيني المولد، الدكتور حداد: "لا تعني الحرية ان للمرء الحق ان يفعل ما يشاء، بل عليه ان يحترم حقوق وحرية الآخرين .. اذ لا يحق للمرء ان يمشي عاريا في الطريق او ان يسرق مال الغير، إن كان الامر الاول من عادات بعض القبائل فلا يؤذي العريان حقوق ابناء قبيلته، اما المرأة التي تلبس تنورة قصيرة وتعرّي أعلى صدرها في بلاد اسلامية، فتسخر من الحرية"(16).
والاسلام الذي عد الحرية اصيلة، فانه في الوقت نفسه لاحظ وبشكل كبير، الجانب الاجتماعي من هذه الحرية، يقول الباحث العراقي الشيخ الصفار: "وقد جعل الاسلام موازين واطرا صحيحة واضحة ترسم لنا معالم الحرية المسؤولة وحدودها، منها (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام)، {ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين} سورة البقرة:19، {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل} سورة الاسراء: 33، {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فاولئك هم الظالمون} سورة البقرة: 229، (ان الله قد حدّ لكم حدودا فلا تعتدوها)، (ان الله تبارك وتعالى جعل لكل شيء حدا وجعل عليه دليلا يدل عليه وجعل على من تعدى ذلك الحد حدّا). وقد جمع لنا الامام امير المؤمنين علي (ع) حدود الحق وحق المجتمع والدولة في تحديد حرية الانسان الذي يسيء استعمال حريته في قوله عليه السلام: من قام بشرائط الحرية اهلّ للعتق ومن قصّر عن احكام الحرية أُعيد الى الرق"(17).
حرية الآخر جهاد
من هنا فان الرسول محمد (ص) اعتبر عدم تعدي الانسان على حقوق الاخرين، وصيانة حريتهم الذاتية من أعظم الجهاد، اذ: "افضل الجهاد من أصبح لا يهمّ بظلم أحد"(18).
في واقع الامر يتبدى أمامنا فهم واسع لمعاني الجهاد ينصرف عن معنى القتال والحرب، بحث يعتبر رعاية وصيانة حرية الاخرين قمة في الجهاد، ولهذا الحديث الشريف دلالات نفسية كبيرة على علاقة مباشرة بسلوك الانسان، يحتاج معها الانسان الى جهاد نفسه ونوازعه الداخلية قبل عدوه الخارجي، بل ان المرء او الأمَّة لا تستطيع التمكن من عدوها الخارجي اذا لم تتمكن اولا من عدوها الداخلي وهو شهوات ونزعات النفس السلبية، فاذا أحسنت رعاية مصالحها وأعطت لكل انسان حقه، تمكنت من رص صفوفها وغلبت عدوها الخارجي، بل ان التجربة دلت، ان العدو الخارجي بشكل عام انما يقدم على عدوانه اذا رأى التشتت والتشرذم في الامة، لانه يعرف سلفا انه غير قادر على سلب كرامة امة متماسكة وان أعدَّ للعدوان عدته.
ان قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) التي اشار اليها الصفار، هي واحدة من القواعد التي يتم تفعيلها عند تزاحم الحريات او تحديد وضبط حجم وسعة الحرية، ذلك: "ان الاصل هو الحرية فتقييدها (في صورة مزاحمتها لحرية الاخرين او لمصحلة اهم) يجب ان يكون بمقدار دفع الضرر وبمقدار الضرورة، لا اكثر، لان الضرورات تقدر بقدرها، ولا يجوز التعدي عن ذلك واخذه ذريعة للكبت، وحتى لا تحصل تجاوزات يلزم جعل الضمانة الكافية بايكال الامر الى اهل الخبرة والمنتخبين الحقيقيين من قبل الامة، حتى لاتتدخل المطامع الشخصية في ذلك، وليكون تشخيص الموضوع عن رؤية واقعية وملاحظة مصلحة الامة، وفي أي مورد حصل الشك في ان التقييد أهم أم لا، أو ان هذا الشيء محرم أم لا، يؤخذ باصالة الاباحة والحلية، وفي الحديث: كل شيء لك حلال حتى تعلم بانه حرام بعينه"(19).
وفي هذا الاطار يقول الخبير الاقتصادي، والفيلسوف البريطاني، جون ستيوارت مل John Stuart) (Mill, (1806-1873م) في كتابه (ON LIBERTY) (حول الحرية) الذي خطه العام 1859م: "نحن لا نستطيع تحمل كبت أي رأي تؤمن به الأقلية، بوصفها تملك كامل الحرية في عرض رأيها وإعمال ارادتها"(20)، ويقرر مل ان: "المجتمع الذي لا توجد فيه هذه الحريات، ولا تحترم في جملتها، لا يمكن ان يكون حرا حرية كاملة ما لم توجد فيه هذه الحريات، على نحو مطلق وبلا تحفظ"(21).
وعند مل: "ان الحرية ينبغي ان يرخص بها وتجاز فقط الى النقطة التي تصطدم وحرية الفرد الاخر وان لا تتجاوزها، وان تطلب الامر مزيدا من القوانين لتحديد الحرية من اجل حماية الاخرين"(22)، وبنظر مل ان الناس يمتلكون الحق لان يكونوا احرارا واتخاذ أي فعل او عمل لا يؤذي الاخرين وقد اطلق على الافعال عبارة "إحترام أفعال النفس"، واشتهرت عنه الجملة التالية وهو في معرض الحديث عن القوة والحرية: "ان الغاية الوحيدة من استخدام القوة بصورة صحيحة وتطبيقها على كل عضو في المجتمع المدني، انما لمنع وقوع الأذى على الآخرين، وان جاء الاستخدام بالضد من رغبة العضوف وارادته"(23)، فستيوارت مل يشير هنا الى تفضيل مصلحة الجمع وتقديمها على مصلحة الفرد اذا تعارضتا معتبرا: "ان الجانب الاهم من سلوك أي انسان وان يكون منقادا للمجتمع هو ان يشعر بشعور الاخرين، كما هو يشعر بذاته وبحقه في الاستقلال"(24)، لكنه في الوقت نفسه: "أصر بقوة على ان الخصوصيات الذاتية ينبغي ان تترك بنفسها لادارة تجربتها في الحياة حرة من دون تدخل الدولة شريطة ان لا يتعرض احد للأذى في هذه العملية"(25).
ان حدَّ الحرية او ضابطها عند الليبراليين، لا يختلف كثيرا عما عند المفكرين المسلمين، فالحد عندهم، هو حرية الاخرين، وهو حد ينسجم مع كل الشرائع السماوية والارضية وتقره سيرة العقلاء، لكن الاختلاف يقع دوما في حجم الحرية ومدياتها، يقول رئيس ايران السابق، الدكتور محمد خاتمي: "فالليبرالية تعني التحرر ولكن بأي معنى؟ بمعنى التحرر من القيود الخارجية لا الداخلية، وبمعنى انه لا ينبغي ان يحكم الانسان سوى الانسان، ولما كان الانسان بحسب التعريف، كائنا ذا ميول وغرائر وتصورات، فان حريته تعني عدم وضع حد لتلك الميول والغرائز من الخارج، والانسان الحر هو الذي يعيش وفق ما يناسبه ويرتئيه، ولليبرالية حد وهو حرية الاخرين"(26).
وفي هذا الصدد يضع نايجل واربورتون (Nigel Warburton) الباحث في الجامعة الحرة في بريطانيا والمختص بالفلسفة وتاريخها، مفهوما مثبتا للحرية وهو ما عبر عنه بـ: "غياب الاجبار وزوال القسر، فالاجبار يكون قائما عندما يجبرك البعض على نهج سبيل خاص، او منعك من سلك سبيل خاص، فاذا انعدم الشخص او العائق الذي يجبرك فانت حر وفق المفهوم المثبت للحرية"(27).
الحرية والأنا
واذا كانت حدود الحرية تدور في اطار المصالح المشتركة بين الناس، وضمن قاعدة لا ضرر ولا ضرار، فان مما لا يقبل التأويل ان الناس أولى بأنفسهم، ولكن هل تعطي هذه الأولوية الحق لهم بالتصرف بها كيفما يشاؤون؟
ان قاعدة لا ضرر ولا ضرار، لا تتحدث عن مراعاة حقوق الجانب الاخر فحسب، بل هي تتضمن مراعاة جانب الانسان نفسه، فهو لا يملك التصرف بها وفق رغائبه، لان الرغائب تميل نحو الشر كما تميل نحو الخير، وهي تتأثر بحجم الاستفادة من العقل والتجربة وموالفة السلوك مع الشريعة والقانون، والخروج عن مسار الشريعة والقانون خروج عن المألوف وهو شذوذ، والشذوذ امر ينكره العقل ويستنكره الوجدان، فالانتحار على سبيل المثال لا يمكن قبوله حتى وان كان يبدو من الخارج انه في حدود الحرية الشخصية، ولكننا اذا وافقنا ان الانسان لا يملك حق وجوده في الحياة، وان الذي وهبه الحياة سيسلبها منه بعد حين، نعرف ان الانسان لا يملك حق اسقاط (حق الحياة) عن نفسه الا في مواقف معينة يكون فيها دفع الضرر اهم من حياة الانسان نفسه مثل الدفاع عن الوطن والدفاع عن الاعراض والدماء ودفع العدوان الغاشم، وما شابه ذلك، وهذه ايضا خاضعة لظروف ومقاييس خاصة سنّها الشرع، فالحرية ليست حرية مفرطة وانما هي حرية مشروطة، فالله علة الوجود والخلق، اسبغ ماء الحياة على جسد الانسان.
ومن عدل العلة سريان الحكمة والتوازن الى المعلول، ومن الحكمة والتوازن صيانة الانسان لنفسه جسدا وروحا، ذلك: "ان حياة الانسان ليست ملكا خاصا للفرد، ويتفرع عن ذلك، انه لا يملك اسقاط هذا الحق، ويحرم عليه اتلاف نفسه، او عضو من اعضائه، الا في بعض الاستثناءات التي تأتي في معنى الضرورة الشرعية"(28).
وعلل الشاطبي (ت 790هـ) ذلك بقوله: "لان إحياء النفوس وكمال العقول والاجسام من حق الله تعالى في العباد، لا من حقوق العباد .. الا ان يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه، وفات، بسبب ذلك نفسه او عقله او عضو من اعضائه فهناك يتمحض حق العبد"(29).
اذن: "حرية الانسان مكفولة له في الاسلام، ما لم تتعد ممارستها حدود الله، فلا يمكن للانسان ان يقطع أي عضو من جسمه باسم الحرية ولا حق له ان يخدش كرامة الناس، او ان يمس بالحياء وآداب الاخلاق باسم الحرية"(30).
مؤثرات الحرية
من خلال هذه النصوص نجد ان الحرية واسعة جدا، كما ان المستثنى من الحرية امران:
ما كان مزاحما لحرية الآخرين.
ما كان محرما(31).
فالتحريم من وجهة النظر الاسلامية، هو ما كان مخالفا للشرع والعقل لانهما لا يتخلفان عن بعضهما، ويقع التحريم في غير الاسلام، ما كان مخالفا لقوانين كل بلد، والناس ملزمون العمل بما التزموا به، وتقييد الحرية وان كان في ظاهره تقييد لحرية الفرد لكنه تنظيم لها، والتنظيم مقدم شرعا وعرفا وعقلا على الفوضى واللانظام، من قبيل منع صيد السمك في فترة الاخصاب، صحيح ان هذا المنع خلاف حرية الصياد، لكنه يقع ضمن دائرة تنظيم الثروة المائية لهذا العام والقابل من الاعوام، وفي الوقت نفسه محافظة وصيانة للبيئة المائية، لان منفعة الصياد في ظرف معين هي مضرة للثروة المائية، وهذه الثروة ملك الجميع الان وفي المستقبل، فحرية الصياد في ظرف زماني أو مكاني، تزاحم حرية المجتمع والبيئة، وتنظيم فترة الصيد منفعة أعم، وهي مقدمة على غيرها، فالحدود انما وضعت لتنظيم امور الحياة واحترام حرية كل انسان لا الحد منها او بترها دون وجه حق، وتنظيم الحريات اشبه بالنهر الجاري الذي يوضع اعلاه سد لتنظيم حركة المياه بما يخدم المزارع والراعي وكل من يعيش على خيرات النهر، او اشبه بالقنوات التي تشق على ضفافه لصب المياه في الحقول والمزارع، فالسدود او القنوات لم تحد من تيار المياه او تنقص من جمال النهر، وانما نظمت حركة سيره بما يخدم الجميع، وهكذا الامر في تنظيم جميع الحريات.
كما ان للمكان والزمان تأثيرا كبيرا في حجم الحرية سعة او تضييقا، فعلى سبيل المثال، ان لعب الكرة يدخل في سياق الحرية الفردية والجماعية، فللانسان كامل الحرية والتصرف في لعب الكرة في ساحة مخصصة للعب، ولكن هذه الحرية تضيق عندما يكون المكان وسط حارة للسكن، فلا يستطيع الملعب ان يفتح ابوابه في كل وقت، لان في ذلك تضييق لحرية الاخرين، كما ان الفرد لا يستطيع ان يلعب الكرة في حارة مفتوحة لان ذلك يعيق حركة السير وحركة الناس ويزاحم راحة السكان، فاننا نلاحظ في حرية الشخص المكان والزمان والمجتمع، فالحرية لا تلغى تماما، وانما تقلص الى الدرجة التي لا تؤثر على حرية المحيط الاجتماعي، وهكذا بالنسبة لبقية الحريات، على ان البعض يرى ان لعمر الانسان دخلا في حجم الحرية: "فالانسان العاقل البالغ، حريته أكمل من حرية الشاب الذي لم يبلغ، والانسان الذي ليس عليه دَين حريته أكمل من انسان مدين وهكذا"(32)، ومثل هذا قال به البستاني (1819-1883م) ذلك ان: "للحرية درجات فهي في الانسان البالغ أكمل مما هي في الولد، وقد تضعف بالسكر والمرض والجنون، وربما فقدت تماما"(33).
وهذا امر مسلم به، يدركه كل انسان، فمراحل العمر وتقادمه على سبيل المثال تحد من حجم الحرية الشخصية، كما ان الحالة المادية تدخل عنصرا في تحديد حرية كل انسان، ربما اعتبر البعض الفقر من باب المثال، حاجزا دون الحرية الذاتية للمرء في دخول مدرسة خصوصية او السفر هنا وهناك، ولكنه في واقع الامر قد حد من الحرية الشخصية ولم ينقص من ذاتية الحرية، صحيح ان للمرء حرية الدراسة أو السفر أو الأكل او الملبس ولكن هناك امورا وأوضاعا منعته من تحقيق حريته، فالحرية من حيث هي ارادة ذاتية قائمة، ولكن الظروف هي المانعة، فالفقير اذا استغنى فانه سيُعمِل حريته في السفر أو الملبس وغير ذلك.
وهذه الحرية مقاسة بحجم الحقوق المعتبرة لكل انسان ضمن حقل سنه او ماله او غير ذلك، على ان البعض لا يفرق بين مفهوم الحرية ومفهوم الحق، ويرى ان: " الحق والحرية مفهومان لمعنى واحد"(34)، ولما كانت الحقوق تتصاعد طرديا مع عمر الانسان، مثلا ان الانسان في عمر معين لا يستطيع ان يمارس حريته في البيع والشراء، ويمارسها اذا وصل الى عمر معين كالقاصر المالك اذا بلغ او اذا ظهر من تصرفاته انه وصل مبلغ الرشد، من هنا وقع الاختلاف في مناسيب الحريات، يقول الباحث الهندي الدكتور اختر: "ان جميع افراد البشر ليسوا على درجة واحدة من القابلية على تقبل الحرية وممارستها، وهذا يعني ان كل فرد قد اعطي من الحرية بقدر وسعه، ان ما يقوله الملا هادي السبزواري بشأن التشكيك يمكن توجيهه هكذا: كل مرتبة لها قابلية مناسبة لتقبل الحرية، فالناس يختلفون بعض عن بعض من حيث استعدادهم لنيل الحرية. الضعفاء منهم دافعهم الى الحرية أضعف، بينما الاقوياء منهم دافعهم الى الحرية اقوى. ان هذا الاختلاف هو السبب في ان ما هو مفروض في أرفع مرتبات الأفراد كالأنبياء والأئمة والأولياء والعارفين، ليس متوقعا من الافراد العاديين: {لا يكلف الله نفسا الا وسعها} سورة البقرة: 286"(35).
والواضح من سياق الكلام، ان القوة المعنية في كلام الملا هادي بن مهدي بن هادي السبزواري (1212-1290هـ)، ليست خصوص القوة البدنية، وانما هو يعني القوة الروحية والنفسية والمعنوية وقوة القرب من علة الوجود، والا فان العبيد بشكل عام أقوى بدنيا وجسديا، ومع هذا فانهم يعيشون العبودية في جانبها السلبي، فيصح عندئذ ان الانسان كلما اقترب من الخالق جل وعلا تطلع الى الحرية في منتهاها، ومن هنا يختلف الناس في مراتبهم من حيث الحرية وتقبلها والتطلع اليها.
نضير الخزرجي
إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات – لندن
https://telegram.me/buratha