المقالات

الغدير بيعتان وليس واحدة..! 


 

محمد مكي آل عيسى ||

 

البيعة من البيع والمبايعة والتبايع , وهي نوع من المعاهدة يضع المعاهِد المبايـِع (بالكسر) كفّه بيد المعاهَد المبايَع (بالفتح) كما يصفق يده بيده أثناء البيع فيعاهده على أمور تكون في ذمته ورقبته ولا يكون في حلٍّ منها إلّا بشروط.

وكانت البيعة مورداً من موارد نظام الحكم الإسلامي تعود جذوره الى ما قبل الإسلام حيث يذكر التاريخ أن البيعة قد أقيمت قبل بعثة الرسول الأكرم (ص), ثم اعتمدها الإسلام منذ يومه الأول حينما قام كل من علي بن أبي طالب ع وخديجة بنت خويلد بمبايعة رسول الله صلى الله عليه وآله وكانا بذلك أول من أسلم وبايع ثم تكرر هذا الحدث (البيعة) في بيعتي العقبة الصغرى والكبرى وفي بيعة الشجرة وبيعة الغدير.

ولم تكن كل تلك البيعات شرطاً في صحة ولاية المبايَع (بالفتح) فلو لم يبايع أحداً رسول الله لم يكن ذلك ليقدح في ولايته ونبوته صلوات الله عليه , أما بعد الإسلام فقد اتخذت البيعة مجرى آخر وأصبحت بنظر الأمة هي الشرط المصحح للخلافة.

فالتنصيب الإلهي له من القوة والحجيّة التي لا يحتاج معها دعم الجماهير ومبايعتهم لأحقيته الغالبة سواءً بموافقتهم أو عدمها لكن التنصيب غير الإلهي يبقى ضعيفاً مهما هيمن وعلا وطغى وتجبّر فهو يبقى بحاجة لالتفاف الجماهير حوله ويبقى مستمداً لقوته ومقبوليته من قوتهم واختيارهم.

ومن الملاحظ أن الدعوة للبيعة ليست أمراً عبثياً لا حكمة من ورائه , بل العكس فإن البيعة تقام أمّا لدرء خطر متوقع فيُأمَر بالبيعة لتوحيد الصفوف وتثبيت المنهج وأمّا لردع خطر قام وفتنة حصلت وانشقاق حدث فيُأمَر بالبيعة لتوحيد الصف والكلمة وتمييز العدو من الصديق.

وبيعة الغدير تمتاز على غيرها بأنها لم تكن مبايعةً لشخص واحد بل كانت مبايعة لشخصين لشخص رسول الله (ص) وبنفس الوقت بيعة ثانية لشخص عليٍّ (ع) حيث تذكر الروايات أن رسول الله صلوات الله عليه قد أقام خيمتين واحدة جلس هو فيها يستقبل المبايعين والثانية أقامها لعلي ليستقبل المبايعين أيضاً.

تقول الروايات  : ((أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد الانتهاء من الخطبة أن تنصب خيمتان : أحدهما خاصة به والأخرى لأمير المؤمنين عليه السلام وأمر بالجلوس فيها وأمر الناس بأن يهنِّؤوه ويبايعوه.} وهنا تنص الرواية على مبايعة الرسول الكريم ص {

وأقبل الناس مجاميع كل مجموعة تدخل أولاً إلى خيمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ويبايعونه ويباركون له هذا اليوم ثم يذهبون الى خيمة أمير المؤمنين عليه السلام ويهنِّؤونه ويبايعونه بخلافة رسول الله والإمامة من بعده ويسلّمون عليه بإمرة المؤمنين.

واستمرّت هذه المراسيم ثلاثة أيام حتى شارك المسلمون جميعهم في البيعة.))

فكان المسلمون يتوجهون لمبايعة رسول الله ص ثم يتحولون الى مبايعة أمير المؤمنين ع وهنا يجدر بنا أن نتساءل عن هذه البيعة التي تضمنت بيعتين في آن واحد .

لماذا أقام رسول الله (ص) بيعتين واحدة له وواحدة لعلي (ع) ؟؟ لماذا لم تكن البيعة لعلي فقط كونه هو المستخلف ؟

ولماذا يبايعون رسول الله ثم عليَّاً صلوات الله عليهما وليس العكس بأن يبدؤا بعلي ثم يتوجهون نحو النبي صلوات الله عليهما ؟

وما هو موضوع كل بيعة وشروطها ؟

وبما أن رسول الله صلى الله عليه وآله لا ينطق عن الهوى وكذلك فعله لا عن هوى إنما فعله كل فعله بتوجيه وتسديد من الله العلي القدير فمن حقّنا أن ندرس فعله محاولين أن نكتشف تلك الأبعاد الخفية التي تكتنفها سلوكياته وتصرفاته (ص)

وبالتأكيد فإن البيعة لرسول الله (ص) لن تكون لغرض إلقاء التبريكات والتهنئة له (ص) فهو لا يحتاجها فلابد أن يكون لها بعد آخر.

إن الآيات القرآنية المتعلقة بتبليغ المسلمين بولاية علي بن أبي طالب ع كانت قد نوّهت عن وجود معارضة متوقّعة ستنتفض مقابل الاستخلاف هذا ولابد من أن يكون هناك إجراء يمنع شق صفوف المسلمين كي لا تخرج منهم شنشنة النفاق و يخرج من لا يرضى بعليٍّ ولياً للعهد وخليفة لرسول الله (ص) ليشق عصى الطاعة ويعلن التمرّد على هذا الاستخلاف .

فيقول تعالى { وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } (سورة المائدة 67) أي أن هناك من الناس من تحتاج أن يعصمك الله منه وسيعصمك,  واللطيف أن الله عبّر عنهم بلفظة الناس كي لا يحسبهم على المسلمين ثم أردفها بعدم هداية الكافرين !!. ويقول { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } (سورة المائدة 49)

فكانت بيعة الرسول الكريم هي إعلان الطاعة للأمر الإلهي الصادر من عرش الرحمن القاضي بأن يتولّى عليٌّ الخلافة بعد رسول الله (ص) وأن من لم يبايع الرسول (ص) يعني أنه معترض على أمر الله ورسوله شاكّاً بالنبوة وربما كافراً بها فهو أمّا مع المسلمين وأما لا , فليختر ما يريد.

فكان من بايع رسول الله (ص) كأنه قد سلّم للأمر الإلهي وقد أشهد الرسول (ص) على تسليمه هذا وتسلّم التكليف الشرعي النازل من الولي المطلق سبحانه الى الولي الحاضر ليتولى وليَّ المستقبل .

فينتقل بعد تسلّمه للأمر وتسليمه به إلى خيمة عليٍّ (ع) ليؤدّي ما تحمّل وليعلن الخضوع والطاعة لباب الله الجديد وولايته التي لا تبيد .

فتكون البيعة الثانية لعليٍّ (ع) مترتبة على البيعة الأولى لرسول الله (ص) . . فمن لم يبايع رسول الله (ص) على السمع والطاعة باستخلاف علي ٍّ (ع) لم يبايع عليّاً (ع) .

وواضح جداً أن البيعة لرسول الله (ص) هي بيعة الطاعة له فيما أّمر أن يبلّغه للمسلمين وأن يقبلوا ذلك من رسول الله (ص) وإن كان يشقُّ على الكثير من المنافقين فعليٌّ (ع) قتل أباها وأخاها وعمّها في بدر ولا تزال القلوب من فعله وغرة.

أمّا البيعة لعليٍّ (ع) فكانت أن يبيعوا نفوسهم له بل هو شراءٌ لها وفكٌ لرهنها وقد قدّم لذلك رسول الله (ص) في خطبته بهم حين قال (( الست أولى بكم من أنفسكم ؟! )) وعلى رواية أخرى (( ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟! )) وهو سؤال تقرير يمهّد به لانتقال هذه الولاية العامة منه (ص) الى عليٍّ وأولاد عليٍّ صلوات الله عليهم .

وهنا تتضح لنا شناعة فعل من نكث بيعة الغدير الذي بفعله قد نكث بيعتين , بيعة لرسول الله (ص) بالسمع والطاعة في شان علي ٍّ (ع) وبيعة أمير المؤمنين علي (ع) بالولاية العامة والله يقول { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } (سورة المائدة 7) ويقول { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } (سورة الفتح 10)

كما تتضح لنا عظَمَة الحدث الذي حاول البعض تمحّلاً أن يحجّموه ويوهموا المسلمين بأنه حدث عابر الغرض منه بيان محبته (ص) لعلي (ع) وحث الناس على أن يحبّوه !

وهل أن تبيان المحبة يحتاج إلى بيعتين ؟!

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
almajahi : نحن السجناء السياسين في العراق نحتاج الى تدخلكم لاعادة حقوقنا المنصوص عليها في الدستور العراقي..والذي تم التصويت ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
جبارعبدالزهرة العبودي : لقد قتل النواصب في هذه المنطقة الكثير من الشيعة حيث كانوا ينصبون كمائنا على الطريق العام وياخذون ...
الموضوع :
حركة السفياني من بلاد الروم إلى العراق
ابو كرار : السلام عليكم احسنتم التوضيح وبارك الله في جهودكم ياليت تعطي معنى لكلمة سكوبس هل يوجد لها معنى ...
الموضوع :
وضحكوا علينا وقالوا النشر لايكون الا في سكوبس Scopus
ابو حسنين : شيخنا العزيز الله يحفظك ويخليك بهذا زمنا الاغبر اكو خطيب مؤهل ان يحمل فكر اسلامي محمدي وحسيني ...
الموضوع :
الشيخ جلال الدين الصغير يتحدث عن المنبر الحسيني ومسؤولية التصدي للغزو الفكري والحرب الناعمة على هويتنا الإسلامية
حسين عبد الكريم جعفر المقهوي : عني وعن والدي ووالدتي وأولادها واختي وأخي ...
الموضوع :
رسالة الى سيدتي زينب الكبرى
فيسبوك