المقالات

تهميش العقل وتعظيم اللسان

1100 2021-07-21

 

عباس عبود سالم ||

 

يرجع الفضل في قيام الحضارات الانسانية الحالية الى اصحاب العقول، والمهارات الفكرية، الذين شيدوا الدول، ورسموا الافكار، وانشأوا الصروح العلمية، والابتكارات التي اسهمت لاحقا في تهميشهم، وصعود آخرين في عصور ارتسمت لها ملامح جديدة، تقدس السطحية وترفض الاصالة.

فمنذ القدم انقسمت المهارات البشرية الى يدوية، ولسانية، وفكرية.. وتوزعت كل المواهب الاخرى بين هذه المهارات بشكل او بآخر، وفي الحضارات والمجتمعات المتوازنة، والدول الناجحة، كانت القيادة وعلى مر العصور لاصحاب المهارات الفكرية.. القادة.. الفلاسفة.. والحكماء العلماء اصحاب الرأي.. واصحاب الخيال الخصب..

 وهؤلاء فضلهم الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه الكريم (يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة11، (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر9، كما شخصهم وعبر عنهم افلاطون في جمهوريته، والفارابي في مدينته الفاضلة، والماوردي في احكامه السلطانية، وجان جاك روسو في عقده الاجتماعي، وعبد الرحمن الكواكبي في كتابه ام القرى.

  اما اصحاب المهارات اليدوية فهم عادة مايمتلكون القدرة على توظيف خبراتهم، ومهاراتهم لبلورة وجودهم وتاثيرهم، والمهارة اليدوية تتدرج من حياكة السجاد وصنع الاواني الفخارية، وتصفيف الشعر الى اتقان الفنون والحرف اليدوية، وانواع الرياضة.

 وعادة مايكون اصحاب المهارات اليدوية اما حرفيين تمكنهم مهاراتهم من كسب المزيد من المال، او جنود اشداء يحترفون القتال، او عمال تطبعوا على انجاز عمل يتطلب شيء من الجهد، او فلاحين توارثوا مهنتهم وحفظوا الفصول الاربعة، ومواسم الزرع، او الحصاد، او مديرين ثانويين بالاستناد على رؤيتهم التكتيكية الميدانية، وفي كل الاحوال سيكونون تابعين يطيعون مايرسمه ويقرره اصحاب الرأي، والذكاء، والمشورة، والافق الاستراتيجي.

ويبقى لدينا اصحاب المهارات اللسانية فهم في دائم الاوقات مروجون لبضاعة الاقوياء حكاما كانوا ام فرسان، وفي الاغلب يعتاشون على قابلياتهم الكلامية دون ان يكون لهم موقف محدد، حتى لايخسروا مواقعهم مع تقلب السياسات، وزاول ملوك.. ومجيء آخرون، فهم الكهنة.. وشعراء البلاط ..وندماء الامراء.. وحواشي السلاطين..وبعض الوعاظ.

 ومن المفيد ان نلاحظ انقلاب المعادلة التي استمرت طيلة القرون الماضية، في عصر العولمة، والنظم الرقمية، والتدفق الحر للمعلومات، وصار اصحاب المهارات الفكرية ينزوون بعيدا عن الاضواء كصفحات مطوية لامعرفة للناس بها.. بينما يبرز اصحاب المواهب الكلامية الذين توزعت مهاراتهم بين الحنجرة.. واللسان.. وحركات الجسد.. تقدموا الصفوف..نجوم في الغناء او كرة القدم او الرقص او التمثيل او ادعاء السياسة، مستندين الى تقدم وسائل الاتصال لاسيما المرئية منها، وحاجة الناس الى التسلية.. والترفيه اكثر من اي شيء آخر، لذلك اختلفت معايير التقييم ومقاييس الثقافة فتراجعت الاصالة امام الاستهلاك، وباتت الوجبة السريعة اكثر قبولا من الوجبة الدسمة.

فلا غرابة ان نحفظ اسم وشكل ومواصفات ملكة جمال العالم ولانكترث بقضايا اخرى اكثر اهمية، ولا غرابة ان يكون مايكل جاكسون اشهر واهم من بيل غيتس، وان يعرف لبنان بهيفاء وهبي، واليسا.. ولا يعرف بجبران خليل جبران، ورياض الصلح، ومحمد مهدي شمس الدين.. وان تعرف مصر بفيفي عبده، ونادية الجندي وغيرها اكثر مما تعرف بتوفيق الحكيم، او يوسف زيدان، او احمد زويل.

او يختزل العراق بحضارته ورجالاته وعظمائه بشذى حسون، او رحمة رياض احمد، او غيرهن من صناع التفاهة الذين باتوا يتقدمون الصفوف دون اكتراث بدراسة.. او تدرج وظيفي، او شرف مهني او غيرها من خواص المواطنة الصالحة او المتميزة.

اصبحت الحنجرة، او القوام، او قلة الادب وقلة الحياء مميزات يرتقي بها المرء قمة السلم الاجتماعي ليكون امرا واقعا على الجميع الاعتراف به.. والا شن هجومه اللاذع على من يصفهم (بالجهلة والاميين واعداء التمدن) والقصد اصحاب العقول الراجحة والثقافة الموزونة؟؟؟؟.(مع تقديرنا واكبارنا للفنانين الاصلاء).

لم يعد للعقول وزن في مجتمع مجنون، وعصر مجنون تتحول فيه التسلية الى غاية واصحاب التفاهة الى وجبة قابلة للهضم من قبل الجميع، وماركة لامعة تنفتح امامها صالات الشرف في المطارات، وتنهال عليها العروض، والجوازات الدبلوماسية، وربما يجذبها بعض السياسيين الى الدخول معهم او دعمهم في الانتخابات.

وعلى ذكر الانتخابات ففي حمى الصراع والنتائج، من المؤلم ان يتقابل صاحب لسان مع صاحب عقل على فضائية تحتقر العقل.. وتقدس ثقافة اللسان، ولكن الاكثر اثارة للالم هو ان ينتخب الناس اصحاب اللسان ويهمشوا اصحاب العقول، وهم اي الناس بكامل قواهم العقلية.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك