🔴الشيخ جلال الدين الصغير||
v هذا ما جرى لي قبل ٤٢ عاماً وتحديداً في يوم ١١/ ٢/ ١٩٧٩ في مديرية أمن البعث الصدامي في بغداد
في مثل هذا اليوم ١١/ ٢ من عام ١٩٧٩ اي قبل ٤٢ عاماً كنت في زنزانتي الانفرادية في البناية الجديدة لمديرية أمن بغداد التي كانت قد فتحت للتو قريباً من شارع ٥٢، وكنت قد تجاوزت حفلات التعذيب التي تعتبر من امتيازات نظام البعث الصدامي وقد استمرت ما يقرب من ثلاثة أشهر ابتدأت في مديرية أمن كربلاء وانتهت عند مجرمي الشعبة الخامسة في مديرية أمن بغداد، وتجاوزي لحفلات التعذيب يعني أني وقعت على إفادتي والتي كانت لا تتضمن أي إدانة!
وفي العادة من يوقع على إفادته لا يعود إلى غرف التعذيب مرة أخرى إلا لطارئ جديد على التحقيق، ولهذا هو ينتظر إما الإفراج أو الإحالة إلى محكمة الثورة بالنسبة للسياسيين، ولذلك تعتبر هذه الفترة استراحة، ولكن في هذا اليوم أي في الحادي عشر من شباط كان من الأيام التي لا تنسى، فما أن شارفت على العاشرة صباحاً حتى تم استدعائي، والاستدعاء في مثل هذه الحالات تعني إما الافراج أو التحويل الى الشعبة الرابعة التي تسمى بالشعبة الجنائية والتي تعني الإحالة إلى المحكمة، وفي كل الأحوال يمثل الاستدعاء مفتاحاً مهماً للفرج، ولهذا حينما نادى رئيس العرفاء حكمت وهو من سكنة مدينة الثورة (حاليا مدينة الصدر) كنت مبتهجاً، لأني أتوقع الإفراج لأن إفادتي ليس فيها أي أمر يدينني، ولكن فوجئت أن من ينتظرني كان هو مراسل الشعبة الخامسة، وتحوّل شعور البهجة إلى شعور مروّع فذلك يعني فتح تحقيق جديد وما يعني ذلك من عودة للتعذيب من جديد، كانت تقلّصات معدتي قد بلغت أشدها، ووجيب قلبي تسمع صوته لو أصخت السمع، ومشاعر القلق إجتاحتني بشكل لا يمكن وصفه ولكن من مرّوا بما مررت به من تعذيب يعرفون عنه وعن مرارته.
على أي حال صعدنا السلم باتجاه الشعبة الخامسة وكانت أقدامي تتصارع مع الأرض لثقلها ورغبتها في أن لا تمضي بإتجاه غرف الموت الزؤام او سمّه الموت الرحيم لأنه كان أرحم بكثير مما كان يعانيه العراقي في داخل هذه الغرف، ووصلنا لغرف التحقيق وما أن دخلت حتى إنهالوا عليّ بالضرب الشديد، ومعها كنت بين محنتين الأولى محنة الألم ومرارة الإمتهان ولكن المحنة الأمرّ هي محاولة معرفة السبب، ولم أجد حلّاً للمحنتين رغم مضي ثلاثة ساعات على شروع حفلة التعذيب التي كان يقودها المجرمين محمد التكريتي ويشرف عليها فاضل الزرگاني معاون مدير امن بغداد يومذاك، وقد تعاونت شلّة التعذيب المألوفة ما بين فلاح وفلاح وبين قدوري وصبحي ونظرائهم، وتعاون الصحب على تنويع مواد الاحتفال بين الفلقة والكهرباء والضربات الحرة، وكلها هينة جداً في قبال عذاب القلق من سبب هذا الإحتفال!!
كانوا منشغلين جدا في التعذيب بحيث لم يتكلموا معي بكلمة واحدة تعبر عن وجود قضية لديهم، اللهم إلا ألسنتهم التي كانت تطلق الكلمات البذيئة والسباب والشتائم كما يطلق المدفع الرشاش طلقاته، وهكذا استمرت العملية على نفس الوتيرة لمدة ثلاثة ساعات، كان الدم ينزف من وجهي وأقدامي والشلة السداسية منهمكة في عملها دون أي كلل أو ملل، وحينما حلت الواحدة والربع قال لهم التكريتي أرجعوه… وهكذا انتهت العملية كما بدأت دون أن أعرف أي سبب لما فعلوه، ولهذا ظل القلق يعتمل في داخلي بل ازداد أكثر مما كان عليه في بدء التعذيب، وزاد الطين بلّة أن مراسل الشعبة حينما سألته عن السبب نفى علمه تماماً.
دخلت إلى قاطع السجن فاستقبلني رئيس العرفاء حكمت بكلمة: نعيماً ممتزجة بضحكة هازئة، وهذه كانت منه لأول مرة معي، رغم سوء أخلاقه الشديد مع بقية السجناء ولكنه كان يهاب العمامة وسمعة العائلة، وهكذا عدت لزنزانتي الانفرادية التي كانت تمثل لي يومذاك الجنة التي أتمناها، أقفل حكمت الباب عليّ وبقيت ساهماً في الذي جرى، وأرهقتني عملية ضرب الأخماس على الأسداس وتقليب الأمر على الوجوه والاحتمالات فكلها كانت بلا نتيجة ولهذا استسلمت للنوم نتيجة للإنهاك.
قريباً من الساعة الثالثة تم استبدال الحراس وجاءت مجموعة رئيس العرفاء يونس الشمري وكان هذا الرجل نادراً جداً في البرّ بالسياسيين المتدينين، وبمجرد أن وصل فتح لي باب الزنزانة كالمعتاد وكان يبقيها مفتوحة طوال اليوم الذي يكون فيه ورأيت على ملامحه التأثر مما رأى عليّ من آثار التعذيب، ساعدني على القيام والوصول الى الحمامات وبعد أن أنهيت تطهير مواضع الدم وتوضأت، سألته عن سبب التعذيب فتبسم واعرب عن عدم علمه، ولكن حينما أوصلني الى الزنزانة قال لي: لقد انتصر صاحبك؟ قلت له: من تقصد؟ فقال لي: صاحبكم انتصر اليوم، والحقيقة مع كل البر الذي أسداه لي هذا الرجل في أيام وجودي في مديرية أمن بغداد في اعتقالي الثالث وهو برّ لا أشك أني ساتشفع إلى الله به لو قيّض الله جل وعلا لي نصيباً منه، غير أن الحذر كان مطلوباً، فقلت له: هل تقصد أن المصريين قتلوا السادات؟ لأن الخائن السادات كان قد وقع اتفاقية العار في كامب ديفيد في تلك الفترة مع مناحيم بيغن وكارتر، فضحك وقال: أقول لك صاحبكم وتقول لي السادات؟ لم أجرأ في أن اقول له هل تقصد الإمام الخميني؟ ولكنه أغلق شباك الباب وقال بصوت هامس مع ضحكة: انتصر الخميني!
يالله… لم أصدق نفسي، كانت الفرحة أعظم من أن توصف، بدأت بالسجود ثم وجدت فرحتي لا تكتفي بالسجود شكراً لله تعالى فرحت اقفز في الغرفة بطريقة تعبّر عن مشاعر غامرة من الشكر لله ومن الأمل الذي توقّد في فؤادي بأن الظلم له نهاية حتى لو كان الظالم مثل الشاه المقبور الذي كان يمثل شرطي المنطقة الكبير والمرعب والذي كان كل حكام المنطقة ينحنون ليديه مقبلين… ومن تلك اللحظة عرفت أي حقد قد تملك قلوب البعثيين وهم يرون سيدهم يسقط تحت أيدي عمامة أهل البيت ع وبإرادة من جماهير الشعائر والمواكب، وبصبر فريد من الشعب الأعزل الذي وحّد نفسه تحت عباءة المرجعية وخلف رايتها…
منذ ذلك الوقت انقلبت دفة الصراع وبدأ النزاع يأخذ منحىً جديداً، فأحقاد التاريخ بدأت تتجمع وتتراكم… وفيما يتعاظم اقتدار أبناء الإمام الخميني قدس سره وتتعاظم أمواج مدرسته تتعاظم دناءة الحاقدين والخائفين من تكرار الدرس الخميني الذي صنعت إشراقته في يوم ١١/ ٢/ ١٩٧٩ في خاتمة عشرة الفجر التي أثمرت فيها دماء المضحين وصرخات المظلومين وانتجت فجر الثاني والعشرين من بهمن كما يسميه الإيرانيون… والحمد لله اولا وآخرا وصلاته وسلامه على رسوله وآله أبداً.
v ملاحظة:
لا اتذكر إن كنت قد كتبت عن هذا الموضوع سابقاً، ولعلي فعلت ولكن تدوين ذلك يمثل لي خواطر عزيزة رغم ألمها ومرارتها، وهي مهمة كي تتعرف الأجيال التي لم تر من عهد البعث المجرم شيئاً ما يعنيه هذا العهد، بعد ان اجتهد ابناء الرفيقات ويتامى الرفاق على تحويله الى الجنة التي كانت بحيث كانوا يسمونها بالزمن السعيد، وراح من بعدهم الرعاع والامعات من ابناء الممظلومين يصدقون الفرية التي يمررها عليهم رجال البعث المشؤوم بعد ان خوّلوا انفسهم إلى وقود في مرجل الأمريكان والصهاينة وغدرة العرب وخونتهم.
https://telegram.me/buratha