( بقلم د. حامد العطية)
الرسالة الإسلامية في جوهرها دعوة إلى المعرفة: تعلم المعرفة الحقة، وتنميتها والعيش والعمل بموجبها، وقد رفضت الغالبية العظمى من قريش والأعراب في البدء هذه الدعوة، واختارت التمسك بالأنماط الفكرية والسلوكية لأسلافهم، التي تؤكد على مسلمات متوارثة، تشكل في مجموعها منظومة بدائية من العقائد والقيم والمؤسسات الإجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية، تتمحور حول قاعدة أولوية وهيمنة القوة في كافةالعلاقات الداخلية والخارجية للقبيلة وأفرادها، واعتبروا الإسلام بدعوته إلى إعتماد المعرفة بدلاً من القوة تهديداً خطيراً لإسلوب حياتهم وبالأخص مصالح الأقوياء منهم، لذا فقد سعوا جاهدين للقضاء عليه، ليس بوسائله، أي المعرفة، مثلاً من خلال اختلاق كتاب ينافسون به القرآن الكريم، لأنهم أساساً لا يمتلكون المعرفة اللازمة، وإن لم يكن تنقصهم المهارات اللغوية، والدالة عليها القصائد الشعرية والخطب الجاهلية، وعندما حاول مسيلمة مدعي النبوة الكذاب في اليمامة تقليد الكتاب المنزل كانت النتيجة سجع مبتذل خال من المعرفة، لذا فإن التركيز على الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم فحسب، وبحسن نية بالطبع، صرف للأنظار عن الإعجاز الأكبر المتمثل في تأسيسه لأولوية المعرفة في الخلق والتدبير الآلهي على المستوىالكوني، وفي تنظيم وتطورالحياة البشرية على الأرض.حارب عرب الجاهلية الإسلام بوسيلتهم الوحيدة، التي يتقنونها، وهي الحرب، وما يرتبط بها ويتوافق معها من مكر وتآمر، ومنذ ذلك الحين نشأت جدلية المعرفة ضد القوة داخل المجتمع القبلي في الجزيرة العربية، وفي البدء رجحت كفة القوة، ولكن الإيمان بالمعرفة والثقة بنتائجها الحتمية لدى القلة من المؤمنين قلبت الموازين ضد القوة الفجة، حتى عند أوجها، وكما تشهد بذلك وقائع معركة الخندق، وكان حفر الخندق استثماراً للمعرفة في المعركة ضد القوة، كما أن بطولة الأمام علي عليه السلام وتغلبه على بطل الكفار الأكبر سناً والأكثر خبرة في فنون القتال أقوى دليل مادي على تفوق القوة المعززة بالمعرفة الإيمانية.
عندما فقد مشركو قريش وغيرهم من الأعراب الأمل في الانتصار على المسلمين بالعدد والعتاد لجأوا إلى الوسائل الأخرى، وهي النفاق والتسلل إلى داخل المجتمع الإسلامي، وهكذا تمكنت القوى القبلية القريشية وحلفاؤها من الانقضاض على جبهة المعرفة من داخل الكيان الإسلامي، وسجلت القوى القبلية الجاهلية المتخفية وراء أقنعة إسلامية أول نصر واضح لها على جبهة المعرفة بانتهاء خلافة الإمام علي عليه السلام واستلام الأمويين للحكم من بعده.
ليس غريباً اقتران البحث عن المعرفة في العصر العباسي، أو ما يعرف بالعهد الذهبي للمعرفة بخلفاء لم يلتزموا تماماً بقاعدة الاحتكام إلى القوة، وأبرزهم المأمون، ولكن في أغلب الأوقات كان العلماء المسلمون مضطهدين ومطاردين من السلطة، وكان مصير العديد منهم الإعدام أو الحبس أو التشريد والنفي أو إحراق المؤلفات، وأحرزت جبهة القوة المتمثلة في اعتماد إرث السلف على مذهب الأشاعرة قمة انتصاراتها الظلامية في إيصادها باب الاجتهاد وحظر الاحتكام للعقل على طريقة المتكلمين لدى الأكثرية وتهميشها أنصار المعرفة الحقة المنفتحة على البحث والتفكير الحرمن أتباع آل البيت.
العرب معجبون بشعر أبي تمام الذي يرد فيه: السيف أصدق أنباءً من الكتب، ويعتبرونه حكمة خالدة، ويرددونه مراراً وتكراراً، في مناسبة وغير مناسبة، ويكشف هذا البيت من الشعر اتفاق معظمهم مع أبي تمام في اعتقاده بأن الصراع بين السيف (القوة) والكتب (المعرفة) قد انتهى داخل أنفسنا، وفي مجتمعنا، بانتصار القوة على المعرفة، ولنتذكر هنا القول المأثور الأنكليزي: القلم أقوى من السيف، ،The pen is mightierthan the sword ، وهو نقيض شعر أبي تمام، حتى يتبين لنا رداءة فكر شاعرنا وتخلف عقله وتردي نفسه إلى هاوية الأهواء.
هل ختم على عقول العرب جميعاً بحيث لم يلاحظ أحد منهم مسبة القرآن في هذا الشعر، أو ليس القرآن الكريم كتاب الله؟ وأبو تمام لم يستثني كتاباً، بل أطلق حكمه على كل الكتب، والواضح بأنه وجميع من على شاكلته، ومنذ عصرالجاهلية حتى الزمن الحاضر، مبرمجون ثقافياً وتربوياً على قاعدة أولوية القوة، وبأنها وحدها الفاصل بين كل الأمور، وبأن لا حق بدون قوة، بل أن القوة تصنع الحق، لذا هي دعوة لنبذ الكتب، وما تحتويه من معرفة وتوجيه الاهتمام إلى القوة، وهذا فكر جاهلي بحت، تمثل في القدم بأجلى صوره في مدينة سبارطة اليونانية، وهو امتداد للفكر السفياني القريشي، الذي طبقه الأمويون في احتكامهم للسيف في بسط سطوتهم على المسلمين وفي حل كل الخلافات، سواء العقائدية مع أتباع أهل البيت او المصلحية مع فئات أخرى من المسلمين، وحتى المعارضين لهم مثل الخوارج، وعلى عكس أتباع آل البيت، اعتمدوا القوة فقط في صراعهممع الحكام على السلطة.
ابتدع الحكام المتسلطون ووعاظهم قاعدة التكفير لكل من خالفهم في تفسير وفهم النصوص الدينية، وما هي في الحقيقة سوى وسيلة بدائية لإقصاء ودحرالمخالفين بالطريقة الوحيدة التي يعرفونها، وهي القوة، ولو كانوا مؤمنين بالمعرفة لما اختاروا سلاح التكفير سيفاً مسلطاً على رقاب المعارضين لحكمهم وتفرد وعاظهم بالمناصب والحظوة لدى السلاطين، وبهذه الطريقة أسكتوا صوت العقل وعطلوا الإرادة الحرة، وأسسوا لدولةالإرهاب السياسي والديني.
غالبية العرب اليوم على مبدأ مذهب الأحمق أبي تمام في اعتقادهم بغلبة السيف أو القوة على الكتاب أو العقل ، وقد ظنوا بأن التدجج بالسلاح كفيل بحفظ أمنهم الخارجي والداخلي، وأثبتت وقائع المئة سنة الأخيرة من تاريخهم بطلان اعتقادهم، فقد شكل العسكر الذين أوكلوا لهم مهمة حفظ أمنهم الداخلي أخطر تهديد لاستقرار نظمهم السياسية، وعطلت هيمنة القادة العسكريين على بعض الدول العربية مسيرة التنمية الشاملة فيها، ودفعتهم أطماعهم التوسعية على طريق أسلافهم إلى مغامرات عسكرية فاشلة، وأدت سياساتهم التسلطية الخرقاء إلى تعميق الهوة بين الفئات العرقية والطائفية في مجتمعاتهم والتسبب في حروب أهلية، وبالتالي فقد كان حصاد القرن الماضي من تاريخنا مسلسلاً متواصلاً من الفشل المر.
والإرهابيون وشيوخهم الدجالون المنافقون هم بحق ورثة القادة العسكريين، في فكرهم المنغلق، واعتقادهم بغلبة القوة، ونزعتهم التسلطية، وليس مستغرباً أن يشنوا حربهم الشعواء على كافة أنصار العقل والفكر وبالأخص أتباع آل البيت، وهم يرون في حملة الأقلام الحرة من هؤلاء الصفوة ألد الأعداء، لذا ينفذون حملة إغتيال منظمة للعلماء والمفكرين والصحفيين، ولن يكون الأخ احمد الشمري المعروف بمقالاته الصريحةوالجريئة ودفاعه المتواصل عن جبهة آل البيت الحضارية والعادلة أخر اهدافهم، فطوبى له بهذا الوسام الرفيع، وإلى مزيد حتى ترتفع راية الكتاب خفاقة ويتيقن الجميع وعلى الرغم من أبي تمام وأمثاله بأن الكتاب والقلم أصدق أنباءً من سيوف البغي .
https://telegram.me/buratha