( بقلم الأستاذ أحمد النمر )
قبل عدة سنوات في أثناء موسم الحج خلال تواجده بالمدينة المنورة لغرض زيارة النبي محمد (ص) و آل بيته الأطهار التقى أحد أقاربي بأحد الحجاج الفلسطينيين و دار بينهما حديث قصير خلال انتظارهما للمصعد الكهربائي في أحد الفنادق– أي أن الحديث لم يتجاوز خمس دقائق تقريبا – وكان الحديث حول معاناة الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي وكانت المقارنة بين المقاومتين نجاح المقاومة اللبنانية و تراجع المقاومة الفلسطينية.!
اختصر قريبي الحديث مع هذا الحاج الفلسطيني في آخر الحديث بقوله " افتقاد الفلسطينيين للنموذج التاريخي المثالي للمقاومة والرفض هو السبب الرئيسي لفشل الحركات والمنظمات الفلسطينية على مدى هذه العقود من الزمن من المقاومة" ثم انتهى اللقاء العابر بينهما.
ولقد أثبتت الأيام صدق هذه المقولة بالفعل وخصوصا مع بروز المواجهات بين المسلحين الفلسطينيين، ولعل تناقض الهيئات القيادية أو شخوص القادة في الذهنية الفلسطينية تؤكد ذلك كصورة ياسر عرفات أو منظمة التحرير الفلسطينية فبين مادح وقادح مع ما يمثلانه من تاريخية في حركة المقاومة الفلسطينية و قيادة الصراع مع الاحتلال.
بالأمس القريب ومع اجتياح الفرحة مساحة شاسعة من العالم الإسلامي بهلاك أحد خوارج هذا الزمن الرديء وقع الإعلام ومتتبعيه في حيرة شديدة جراء تضارب الأنباء حول " نعي حركة حماس للزرقاوي" ثم صدور نفي لذلك الأمر.!وفي هذا الصدد كان المسلمون الشيعة أكثر حيرة من غيرهم لاعتبارات عدة الذي ظهر من هذا الموقف الإعلامي – المشين من حركة حماس - لأسباب متنوعة لعل أهمها وحدة موقف المسلمين الشيعة والداعم المادي والمعنوي للقضية الفلسطينية منذ حدوثها رسمياً وشعبياً بدءاً من كبار مراجع الشيعة في النجف الأشرف إلى قم المقدسة ومروراً بمواقف أحزابهم في لبنان أو في إيران منذ زمن الشاه وانتهاءً بمواقف أفراد مجتمعاتهم المتعددة المنطلقات في دول الخليج والعراق و الهند وباكستان و دول آسيا والتي تصب كلها في الاتجاه ذاته..!
إن ردة الفعل الطبيعية لمثل ما حدث من الشيعة تجاه – حركة حماس ذات التوجه الإسلامي - هو الاستغراب والاستنكار وهذا يعني موقفاً يُلزم أصحابه بشيء ما تجاه ما حدث في أكثر من اتجاه :الاتجاه الأول : الموقف الاستراتيجي ما كشفه التاريخ السياسي والاجتماعي بمداه القديم والحديث إن القضايا المركزية للمسلمين بتعدد طوائفهم ومذاهبهم السياسية- حتى مع الاختلاف في جزئيات كبرى أو صغرى - هي قضايا المسلمين الشيعة استناداً إلى الموقف الاستراتيجي الذي أرساه الإمام علي (ع) بمواقفه الداعمة لرمز الدولة الإسلامية مع تحفظه المعروف على من سبقه في الخلافة و أثر هذا الموقف في المعتقد الشيعي بدعم المركزية الاسلامية و إن اختلفت النظرة حول الشخصية التي تمثل قمة الهرم في الدولة الإسلامية، كما يؤكد هذه الإستراتيجية تاريخ الحركة الاجتماعية والسياسية للمسلمين الشيعة في البلدان الإسلامية و هذه إستراتيجية في المنهج لم يختلف عليها اثنان من الشيعة أنفسهم، و سنسحب هذا الموقف مبدئيا على القضية الفلسطينية بغض النظر عن تأييد الفلسطينيين أنفسهم للزرقاوي مع ما يمثله من نهج تكفيري وخصوصاً ما تبجح به ودعا إليه من جرائم ارتكبها بحق المسلمين بكافة مذهبهم وطوائفه في العراق من المسلمين السنة والشيعة والأكراد ومن غير المسلمين و دون تفريق بينهم في العراق، وهذه أحد الدلائل التي تؤكد الحَول – الحمساوي – والأنانية التي رأت أن مجرد دعوى محاربة الزرقاوي للاحتلال الأمريكي تكفي لترميزه نموذجا لدعم مظلوميتهم أمام العدو الصهيوني، كما أكد هذا الموقف أن هناك انحرافا منهجيا في بناء الثقافة الإسلامية لحركة حماس و أهمها عدم التفكيك بين الغاية والوسيلة، ولا أظن هذه الجزئية كانت حاضرة في قاموس – حركة حماس – للحفاظ على صورة أمريكا البغيضة من خلال سكوتهم عما يحدث – وحتى الآن- في العراق وتحت عنوان طائفي بغيض بكل صلف وصراحة مع أن الدعم الرسمي و الذي تلقته حركة حماس – ولا زالت – من الجهات الشيعية أكثر المواقف رسمية في الشارع الإسلامي من بقية الأطراف و أقرب إلى منهج و أداء حركة حماس بالخصوص، وقد نجم من ذلك أمران هما : 1. خيبة الأمل في الشارع :لقد خابت آما ل المسلمين الشيعة بالخصوص من الصمت الفلسطيني بتعدد حركاته السياسية تجاه الجرائم الكبرى التي تعرض لها العراقيون من الإرهاب البعثي إبان حكم البعث الطاغي والرئيس المخلوع صدام حسين على مدى ثلاث عقود من جرائم ضد الإنسانية تقل أمامها ما ارتكبه الصهاينة تجاه الفلسطينيين أنفسهم وهم أكثر من غيرهم قدرة على فهم ما تمثله تلك المعاناة عندما تحل بشعب كامل وما ينتج عنها من كوارث اجتماعية و يكفي أن يكون المهجّرون والمهاجرون العراقيون ربما يتساوون إن لم يتفوقوا بأعدادهم على سكان المخيمات الفلسطينية المنتشرة في الدول العربية، إلاّ أن العداء لأمريكا بمساندتها للاحتلال تحوّل إلى قاعدة تتحكم بسياسة القرار الفلسطيني و أصبح هو المعيار الوحيد للتعاطي مع القضايا الأخرى في الذهنية الفلسطينية و ينسحب ذلك على حركة حماس التي غضت النظر عن الأعمال الإجرامية التي ارتكبها وتبناها التكفيريون والإرهابيون في العراق بكل صراحة ودون مواربة بزعامة الإرهابي الزرقاوي ولم يبدر من الحركة أي موقف صريح تجاه بياناته التي تفوح منها الروائح النتنة الداعية إلى الفتنة وتفريق الأمة، ومما لا شك فيه أن الفتنة و تفريق المجتمعات الإسلامية أمر لا يخدم القضية الفلسطينية في كل حال و هذا ما لا يتفق مع السياسة المعلنة لحركة حماس والتي ظهر انسجامها مع مواقف حزب الله - الشيعي - في لبنان وكذلك مواقفها من سياسة حكومة إيران – الشيعية - منذ نشأة هذه الحركة والتي تعتبر القضية الفلسطينية هي قضيتها الأولى أيضا مما يعني أن القرار القيادي لحركة حماس في نظر المسلمين الشيعة مصاب بالخلل ولا يمكن التعويل عليه في قضية إستراتيجية كقضية فلسطين المركزية مما يوجب إعادة النظر في كيفية التعامل معها كحركة إسلامية مقاومة في ملف القضية المركزية لكي لا تتحول تلك القضية بيد الحركة إلى أداة طعن في كرامة الملايين من المسلمين الشيعة بحجة أنها قضية المسلمين الأولى و لأن تلك القضية سوف تبقى قضية المسلمين الشيعة المركزية أيا كان موقف حركة حماس من الزرقاوي أو منهجه التكفيري.!2. إحباط الدوائر السياسية :بعد خيبة الأمل بصمت حركة حماس أصيب الدوائر السياسية ومن ذلك الدوائر الشيعية بالإحباط مع انتشار خبر نعي حركة حماس ووصفه بـ " شهيد الأمة " ولم يكن صدور نفي على لسان أحد المتحدثين باسم حركة حماس بعدم صحة بيان النعي من قبل الحركة كافيا لإزالة اللغط والإشكال الحاد من هذا الموقف – المشين – لوجود قابلية في أدبيات حركة حماس لمثل ذلك ولوجود بعض المؤيدين بين رموزها وقياديي الحركة للنهج التكفيري و الزرقاوي صراحة وخصوصا بعد ظهور ملصق كبير ويحمل صورته في أحد المهرجان المعدة في قطاع غزة لتأبين أحد قادة الحركة الذي اغتالته إسرائيل، ويضاف إلى ذلك تكرار رفع صور الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين في عدد من المظاهرات المتعاطفة معه قبل وبعد سقوطه، وهذا ما سيقلل تعاطف المسلمين الشيعة ولو بصورة جزئية بنوع و آخر مع الفلسطينيين وليس مع القضية المركزية لكافة المسلمين. الاتجاه الثاني : الموقف الشرعيسيؤدي هذا الموقف إلى إشكال شرعي لدى المراجع الشيعة بحد لا يستهان به عند الحديث عن تقديم أي دعم لحركة حماس مستقبلاً، كما لا يمكن التقليل من شأن الضغط الشعبي للشارع العراقي وغير العراقي من الشيعة في العالم الإسلامي على القادة السياسيين الشيعة ودوره في صياغة و تشكيل هيئة و نمط العلاقة المستقبلية مع حركة حماس.ويمكن القول أنه قد ظهرت بوادر ذلك من خلال ردود الفعل الغاضبة والمستنكرة من عدد من النواب العراقيين والقادة السياسيين وعلماء الدين الشيعة في العالم الإسلامي لموقف حركة حماس كموقف السيد عبدالعزيز الحكيم في العراق وهو زعيم سياسي وديني وشعبي و في قمة هرم ائتلاف سياسي حاكم في العراق بما يمثله روحياً لدى الشيعة في العالم و أزعم بأنه لا شك في ذلك، بملاحظة ما سيشكله العراق الجديد في المعادلة السياسية للمرحلة المقبلة بغض النظر عن سياسية الاحتلال الأمريكي فيه، فمهما يكن فإن العراقيين هم المتحكمين بسياسته الخارجية في المدى البعيد وعلى أقل تقدير قبل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فكيف ستكون انعكاسات هذا الإحباط على الساحة في المدى المنظور؟الاتجاه الثالث : الظرف السياسيلا يخلوا الموقف الحمساوي بعد قراءة الرأي العام في الشارع وخصوصاً الاتجاه الإسلاموي والعروبي و القومي الذي تُعوّل عليه الحركة بدعمها من مراعاة لهذا العمق الطبيعي للحركة من ردود الفعل حزينة في صورتها العامة على مقتل الزرقاوي و مع ذلك ففي تلك القراءة أيضاّ غفلة واضحة عن الأثر السلبي جداً لهذا الموقف بالنظر إلى الجهد المبذول بوصم الحركة بالإرهاب لتحجيم دورها من خلال عدة اتجاهات هي :أولاً : من الداخل الفلسطيني وتتمثل بالخصومة السياسية والمواجهة المسلحة في الشارع الفلسطيني والضغط الاقتصادي بمنع التحويلات المستحقة من حكومة الاحتلال.ثانياً : الجوار الجغرافي في الأردن وهو العمق الجغرافي بعد اتهام الحركة رسميا من قبل الحكومة الأردنية ومحاولة تأزيم العلاقة.ثالثاً : المحيط الإقليمي الرسمي من خلال الدعم المعلن للرئيس محمود عباس أو من خلال المشاركة بتنفيذ التوصيات الدولية التي يمكن الالتفاف عليها قانونيا بإيصال المساعدات إلى الحكومة الفلسطينية عن طريق حكومة حركة حماس.رابعاً : المحيط الدولي بإصدار القرارات الصريحة واتهام الحركة بالإرهاب بإصدار القرارات المعلنة لحصار الحركة وتقليص فاعليتها.فمع وضوح الصورة الإرهابية الصريحة لمنهج الزرقاوي التكفيري بالإضافة إلى تلك الاتجاهات الأربعة كلها كانت تفرض - انطلاقاً من الحنكة السياسية - تفادي تأكيد إرهابية الحركة وعدم إبراز هذه الحقيقة أمام الملأ حيث لم يكن هناك اتفاق لأكبر عدد من الدوائر الاجتماعية أو السياسية المحلية أو الإقليمية كما حدث هذا الاتفاق حول إرهابية الزرقاوي بمثل ما حدث من نعي أو إبراز الأسى لمقتل رمز من رموز الإرهاب..
https://telegram.me/buratha