خاف هذا اليهودي من الاقتراب من مرقد الأمام علي عليه السلام لما دخل في قلبه من التأثر بالحكمة والقيم الإنسانية في أقوال ووصايا الأمام التي كان يرددها جيرانه من الشيعة، .................. ( بقلم د. حامد العطية )
لا يعرف التاريخ بلداً مثل وطننا العراق، في تنوع أعراقه، وتعدد أديانه، واختلاف مذاهب أهله، وعلى مر الأزمنة تجاور فيه العربي والكوردي والتركماني والكلداني والأشوري من دون أن تضطرهم الضغوط الاجتماعية المباشرة وغير المباشرة للانصهار في بوتقة واحدة على الطريقة الأمريكية، وفي العراق وحده لم تجبر الأقليات الدينية مثل المسيحيين واليهود والصابئة على العيش في "جيتو" خاص بكل منهم كما حدث لليهود في دول أوروبا لقرون طويلة وحتى تاريخ قريب، ومن المؤكد لم تتعرض الأقلياتالمذهبية مثل السنة لاضطهاد الأكثرية الشيعية على الرغم مما حل بالشيعة من جور وحيف على أيدي السنة في دول إسلامية عديدة.
وإذا وجد مثل هذا التسامح والتآلف في أي بيئة إجتماعية لاستنتج المنصفون بأنه قيمة إجتماعية لدى غالبية سكانه، إذ من البداهة أن الأكثرية السكانية لا الأقليات هي مصدر القيم الاجتماعية المهيمنة، وغير خاف على الجميع بأننا نحن الشيعة غالبية سكان العراق، ولا تشكل الأقليات فيه سوى أقل من ثلث عدد السكان، ولا تتعدى نسبة أكثرها عدداً العشرين بالمائة، لذا يعود الفضل لنا نحن الشيعة وحدنا في إيجاد هذه البيئة الاجتماعية الإنسانية المتحضرة والمتقدمة على معظم شعوب الأرض. أقوى اختبار لاعتقاد وتمسك الجماعة أو الفرد بالقيم هو الاصرار عليها وممارستها في أيام الضعف قبل القوة، والدليل على تسامي قيمنا الشيعية وتمسكنا بالعدالة والمساواة الإنسانية حتى من موقع الضعف كأكثرية محرومة ومظلومة تحريم مراجعنا الدينية المشاركة في حملات الحكومات السابقة القمعية ضد شركائنا في الوطن من الأكراد، على الرغم من الاختلاف في العرق والمذهب.
أما المارقون على هذه القيم والممارسات الحضارية من العراقيين فهم على الدوام من غير الشيعة، بل كان شيعة العراق ضحايا التعصب والتطرف المذهبي لقرون عديدة آبان الحكم العثماني ومن ثم النظم العسكرية القومية التي توالت على حكم العراق بعد 1963.
اتسع جنوب ووسط العراق حيث يسكن أكثرية الشيعة لكل القوميات والأديان والمذاهب، على الرغم من ضيق العيش الذي عاناه معظم أهلنا، وفي المدينة الصغيرة على ضفاف الفرات الأوسط التي قضيت فيها سنوات صباي عاشت الأقليات من السنة واليهود والمسيحيين والصابئة في آمان ورغد، واندمجوا بمجتمع الأكثرية الشيعية من دون اقصاء أو تمييز. كان أثرى تجار الحبوب في مدينتي من السنة، وطبيبها مسيحي، وصاغتها صابئة، أما اليهود فقد امتلكوا الأراضي والبيوت الفارهة ومطاحن الحبوب والبساتين والمصانع الصغيرة والمتاجر، وأقرضوا رؤساء العشائر والفلاحين بالربا الفاحش، المعروفبالأخضر.
ليس من عادتي اللعن والشتم، وإن كنت أرى بأن أعداء الشيعة مستحقون لأقذع الشتائم وأخس النعوت ومن ثم أشد القصاص، وأن لا تأخذنا بهم رحمة ولا شفقة، وأبرأ إلى الله من كل من دعا إلى التآخي بيننا نحن الشيعة وأعدائنا من المنافقين الأشد كفراً ونفاقاً، وما يرد في عنوان المقالة من تفضيل لمداس يهودي على أعداء وكارهي الشيعة ليس بشتيمة بل حكم شخصي بنيته على وقائع وتحليل عقلاني، فاليهودي المذكور فيه شخص حقيقي وليس كل اليهود، و لا بد من سرد الوقائع لبيان مصادرهذا الاستنتاج، وأترك هذه المهمة للمرحوم خالي.
كان خالي سيداً علوياً، تيتم في الصغر، وامتهن الزراعة في أول شبابه، ثم اضطرته الظروف القاسية إلى التحول إلى مهنة إدارة وتشغيل مكائن طحن الحبوب والعمل كربان للسفن النهرية البخارية، سكن في الخمسينات من القرن الماضي بيتاً طينياً على مشارف المدينة حيث مقرعمله، وشهد له الجميع بطيبة أخلاقه وورعه وحبه للناس، وفي زمن ما قبل انتشار وسائل الترفيه كان أفضل لهو عند أهلنا في الوسط والجنوب قص القصص، واستخلاص العبر منها، وقد روى لي في أحد الأيام وقائع قصة اليهودي: (توفي أحد معارفنا الأفاضل من أهل المدينة، وعلى عادتنا استأجرنا سيارة لنقل جثمانه إلى النجف الأشرف، وبينما كنا نهم بمغادرة المدينة إذا بأحد اليهود يستوقفنا ليطلب مرافقتنا في تشييع ودفن صاحبنا، لم نرفض بالطبع، وكان من المعتاد مشاركة اليهود وغيرهم من سكان المدينة من غير الشيعة في مجالس عزائنا، أفسحت له مكاناً بجواري في المقعد الخلفي، وتوكلنا على الله، ثم انطلقت بنا السيارة نحو النجف الأشرف، بعد عبورنا على جسر أبي صخير القديم شعرت بتململ اليهودي، لم أكترث في البدء، وعزوته لوعورة الطريق الترابي أو حزنه على صديقنا المتوفى، لكن سرعان ما تحول التململ إلى ارتعاش وارتجاف، تفصد العرق على جبينه، واضطرب تنفسه، وخفنا عليه من الهلاك، ولما سألناه احتار في الجواب، وما أن لاحت القبة الذهبية للأمام عليه السلام حتى صرخ بأعلى صوته: أوقفوا السيارة! أعيدوني إلى المدينة! نظرنا بحيرة إلى الرجل المهتاج، وتساءلت مع نفسي: ما الذي دهاه وأخرجه عن طوره؟ حاولنا طمأنته، لكن هياجه تصاعد، سألناه عن سبب ذعره فلم يحر جواباً، أخبرناه بأن ليس بالإمكان العودة من حيث أتينا ولا خيار لدينا سوى الاستمرار حتى دفن الفقيد فتوسل إلينا أن ننزله من دون إبطاء، وأمام إصراره وصراخه المتعالي اضطررنا إلى إيقاف السيارة وأنزلناه على قارعة الطريق الصحراوي، ومضينا في سبيلنا.. وبعد عودتنا من التشييع والدفن تأكدنا من رجوع اليهودي سالماً)
خاف هذا اليهودي من الاقتراب من مرقد الأمام علي عليه السلام لما دخل في قلبه من التأثر بالحكمة والقيم الإنسانية في أقوال ووصايا الأمام التي كان يرددها جيرانه من الشيعة، وما شاهده من إيمان قوي لديهم بعظمته ومكانته الرفيعة وإعجاب ببطولاته في مقارعة أعداء الإسلام في عهد الرسالة من الكفار وأسلافه من اليهود، وللأسباب نفسها امتنع مسيحيو نجران من مباهلة الرسول وأهل بيته الأطهار، ويعكس الذعر الشديد لليهودي شدة إيماننا بائمتنا العظام قبل حوالي نصف قرن من الزمن، ولولا ضعف هذا الإيمان اليوم لما تجرأ أسوء خلق الله على تفجير ضريح الإمامين العسكريين، وها نحن قد أثبتنا لهم ذلك بصمتنا المشين، وبعد أليس في قلب هذا اليهودي خشية من الله وأولياءه الصالحين أكثر مما في قلوب أدعياء الإسلام الإرهابيين وحاضنيهم من أعداء الشيعة وهو بالتالي أفضل منهم؟
مداس هذا اليهودي أو أي مداس في العالم، غال الثمن أم رخيص، جديد أم بالي، مصنوع من الأرض، التي كونها الله لمنفعة مخلوقاته، وأولهم البشر، وللمداس منافع، أما الزرقاوي اللعين ورهطه ومن أعانه أو اعتقد بفكره الظلامي فشرور خالصة مستطيرة، ومداس اليهودي أو أي مداس أشرف وأفضل منهم جميعاً، فهل اقتنعتم الآن بمنطق عنوان هذه المقالة، وبعد فما حجة من يقول بأن أعداء الشيعة يعبدون الله ويؤمنون بقرآنه ويتبعون خاتم رسله؟ كلا بل هم شر البرية، اللهم هل بلغت فاشهد.
د. حامد العطية
https://telegram.me/buratha