( بقلم قاسم محمد الكفائي )
آمل من أخي القارىء الصبر عند قراءة حلقتنا وقد قدّمناها بأشد اختصار ، فستغنيك عن الكثير .في أيام ظهوره علينا بطلا وحتى مقتلِهِ لم أجِد وكالةَ أنباءٍ ، أو فضائية ، أو كاتبا واحدا كتبَ في صحيفةٍ بصدق ووضوح عن – أبي مصعب الزرقاوي - غير الذي أجدهُ وعلى المواقع موصوفا بالأرهاب والجهاد والنذالة والشجاعة واللواط والعفة أوالتسيّب ورجل المسؤولية الكبرى . إنه وصف غير دقيق ولن يدلنا على حقيقته كما هي فيضيع حابله بنابل جهلنا به ليفلت المهندس الحقيقي ، والمصصم الأساسي له . فلو انكشفت تلك الحقائق سنجدُه وبالتفصيل في دائرة المباحث السعودية ، والبريطانية والأمريكية أو الكويتية ، ناهيك عن المباحث العامة في الأردن التي هي أرضه الأم . بَيْدَ أنَّ هؤلاء لم يكشفوا المستور وينشروه على المَلأ وكما هو ، إنه أمرٌ مُحال . ليس مطلوب منا أن نُشخصَ هنا طفولة الزرقاوي أو صِباه فهذا لا يعنينا وليس بالأمر المهم أو الهيّن كونه نكرة بالأمس القريب ليصبح اليوم معرفة وعَلم من أعلام الجهاد على طريقة حز الرقاب بفتوى ما أنزل اللهُ بها ولا رسولُه . لقد عاش ( أحمد فضيل الخلايله ) ومنذ أن كان فتاً يافعا فقيرا سقيما في نَغَص عَيشِه ، يبحثُ عن أتفه الأشياء ولا يجدها . عاش مكبوت المشاعر ، سقيم الحال ، يبحث عن الأستقرار في عمل مناسب أو بيت يردّ عليه وحشة الحرمان ، ليجدَ – الخلايله - بابَ ما يسمى ( بالمسجد ) مفتوحا على مصراعَيه والمؤذِن يدعو للصلاة ، إمامُ وخطيبُ المسجد في مدينته الزرقاء ، يُذكرُ المصلين بتقوى الله ، ويُذكرُهم بالحُسنى ، وإقامةِ الصلاة في أوقاتِها ، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المُنكر ، ويحدثهم عن أهل الشرك والبدع من المسلمين ، وزيارة القبور ، والكفر والكفار ، كما ويذكرُهم بطاعة أولي الأمر منهم . هذا الخطيبُ يقرأ عليهم خطبته في كل يوم جمعة حال استلامِها عن طريق موظف تابع لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية في حكومة المملكة الأردنية . أحمد فضيل الخلايلة لا يجدُ ما يملأ فكرَه وقلبه أو يقضي على بطالتِه غير سماعِه هذه ( الطرّهات ) فأحسَّ بالدِفىء ، ونالت رِضاه . لم يستمر على سماع هذا البوق طويلا حتى أعلنتْ الحربُ أوزارَها في أفغانستان ما بين الأسلام والشيوعية ، أي المجاهدين وحكومة دولة أفغانستان الكافرة . بدأتْ الحربُ وبدأت معها الفتن بالوانِها ، وصار الخلود في الجنة يمر بالجهاد الأفغاني ، والشهيدُ ينفحُ شذى عبقا من جثته المُسجات بفعل الرصاص السوفيتي أو العسكر الحكومي على صخرةٍ جبال ( نورستان ) الشاهقة أو في مغارةٍ من مغارات ( قندهار ) التي كانت تعيش فيها الذئاب والكلاب السائبة . في خِضَمِّ أوجاع الفقر والفاقة التي لحقت بالأردني أحمد فضيل ، ومع دروس الفقه والعقائد في التوحيد والشرك التي يتلقاها كل يوم على يدِ إمامِه ( المقدسي ) إذ نادى المنادي عَبر كل المذياعات الرجعية إبتداء من السعودية وانتهاء بالأردن حيَّ على الجهاد ، الجهاد ، الجهاد . ما كان بوسعه أن يفعل غير إطاعة وليَّ أمره ( الحكومة ) والأمام الذي يُعَدُ مَرجعه في كل أمور دينه الذي أبلغه بمضمون الفتوى التي أصدرها الأعمى عبد العزيز بن باز – مفتي الديار الوهابية – في الديار السعودية . التحق ( الخلايله ) بكوكبة المجاهدين الذين سبقوه بالأيمان فوصلوا مدينة ( بيشاورعاصمة أقليم سَرْحَدْ ) الباكستاني والمحاذي الى حدود أفغانستان . لقد حَطوا الرِحالَ ، وحطوا معها مئات ملايين الدولات ، تنفقها حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ( آنذاك ) تحت غطاء غير رسمي هو أسامة بن لادن . إستقرَّ بهم الحال في بيشاور وفتحوا لهم فيها مقرَّين الأول أسمه ( الخدمات ) ، أما الثاني أسمه ( الأنصار) . هاذان المقران يستقبلان المجاهدين العرب القادمين من كل دول العالم وعلى الخصوص الدول العربية فالأول تديرُه عناصر من المباحث الأردنية والثاني تديره عناصر من المباحث السعودية . إضافة الى عناصر أخرى تساهم في إدارتهما برتب ومسؤولية أدنى . الجو مشحون في هذين المقرّين بشيىء من الحذر والريبة ، وازدحام عناصر المخابرات من كل الدول العربية خصوصا المصرية تحت مسميات الجهاد الذي مازال يتعاظم . أما الطرف الدولي ، فقد جنّدت أمريكا كوادر طبيّة وفنيّة ومؤسسات إنسانية متكاملة غرضها مساعدة المجاهدين الأفغان على محنتِهم ، ووقف نزيف الدم الذي يسيل بفعل الرصاص الشيوعي بحيث وصلت كوادرُها الى أرض المعركة وخصوصا الكادرالطبي ، أطباء وممرضات ( مخابرات) . أما الدول الأخرى مثل السويد واستراليا وايطاليا وانكلترا وما شاكلهم فقد وضعوا العديد من إمكاناتهم بخدمة ( الجهاد ) ، يمكن لنا أن نقول كان شعارهم ( كل شيىء من أجل المعركة ) . حتى المواد الغذائية المخلوطة بدواء عقم الرجال كانت قد وُزِّعَت على المجاهدين الأفغان ليتم كشفها من قبل أطباء عرب . ضجَّت بيشاور بتوافد المجاهدين الذين تأثروا بوسائل إعلام بلادهم ( حيَّ على الجهاد ) ، أو تأثروا بنداء خطبائهم ، وبالفتاوى التي تصدرها هيئة علماء المذهب الوهابي برئاسة الأعمى عبد العزيز بن باز في المملكة ( المهلكة ) السعودية ليصبح الجهاد فيها – فرضُ عين - . وهناك الأمام عبد المجيد الزنداني في اليمن الذي زار الباكستان واستقبلهُ رئيسها ضياء الحق بحرارة بالغة ، ثم زار مقرات المجاهدين في بيشاور لأكثر من مرّة . فتح المجاهدون العرب معسكرات للتدريب باشراف الكثير من الفلسطينيين على الحدود مع أفغانستان من جهة مدينة خوست . وكانوا جميعا بأمرةِ الدكتور ( عبد الله عزّام - أبو حذيفة ) الذي اغتالته المباحث السعودية في بيشاور بتفجير سيارته ومعه ولده الصبي محمد ، بعد إنتهاء دراما الجهاد . عزّام كان القائد الروحي والميداني للمجاهدين ، ومسألة قتلة في ذلك الوقت كانت حَكيمة حسب رأي القاتل. عزام لو كان على قيد الحياة سنرى واقعا آخرا ومشاهدَ أخرى للأرهاب أو السلام ، لأنه بحق كفوءٌ وذو عقل ورزين ، في شره أو خيره . المعسكر عبارة عن خِيام ( جادر ) يستريح فيها المقاتلون ، كل خيمة ممهورة بعبارة ( الهلال الأحمر السعودي ) . في هذا المعسكر المنضوي على أرض سهلة تقريبا تحيطها الهضاب المرتفعة نسبيا والوديان يتم التدريب والأعداد البدني والروحي لأفواج الشباب العرب ، ولا يحق للأفغان الوصول اليهم والأختلاط بهم . فكان الوهابيون السعوديون لهم الغلبة دائما في العدد ، يتبعهم المصريون والسوريون ثم اليمنيين والفلسطينيين والكويتيين وغيرهم . كلّ شيىء كان بخدمتهم ، وسائل الأعلام العالمية ، والدفع المعنوي والمادي العربي والعالمي . والذي يشكك بالجهاد والمجاهدين يُقطع لسانُه . حتى المصابين منهم لهم مستشفى خاص ومن الدرجة الأولى في بيشاور هما المستشفى الكويتي ، وفوزان السعودي . كلّ ما تقدمنا به كان أشد اختصار ومن أجل أن أطرح المعنى الصحيح لظاهرة الزرقاوي ومن أي مخلفات هو . نبتدأ من بيشاور حيث مكتب الخدمات هناك والذي يشرف عليه الأردني الجنسية عبد السلام الخيالي ( أبو محمد ) . مثلا عند مراجعة أي شاب عرقي من أجل التطوع للجهاد أو لكسب المال أو لغرض الأحتماء بهم من شر السفارة العراقية في إسلام آباد ، أول سؤال يتلقاه ذلك العراقي هو : أنت سني أم شيعي ؟
فلو كان جوابه شيعيا ما عليه إلا أن يسرع للخروج من الباب لأن الموجودين في المكتب لا يسعهم رؤياه ، ولا حتى تبادل الحديث معه . كذلك بين فترة وأخرى يظهر في المكتب مجاهد أمريكي أو اوروبي يتحدث عن اعتناقه للأسلام وأنه درس بالتفصيل والرَويّة كل المذاهب الأسلامية ما قبل اعتناقه فوجدَ أن التشيّع هو مذهب الضلال والشرك ومذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب التوحيد والحق بينما يصيح البعرانُ الحضور( الله أكبر ) . العاقل والحليم يفهم اللغز ويخزنه في ذاكرته على أن ما يجري هو إعداد لِغدٍ خطير ، وقد قلنا مرارا في مواقع كثيرة في الثمانينات كيف أن المخابرات العالمية كانت تعدّ الشر لنشره على الأرض إبتداء من محطة الجهاد في أفغانستان . اللغط الثقافي الجهادي في داخل معسكرات المجاهدين كان يتكرر في كل يوم وساعة أن الجهاد الأكبر هو تحرير الأرض من الروافض ( الشيعة ) ما قبل تحرير القدس ، فهم ( شرّ مَن وطىءَ الحصى ) ، وأنَّ الأمام الخميني ( تقدَّست روحُه ) هو فتنه شيعية يجب دحرها. العلماء الوهابيون السعوديون يتحملون عناء السفر من دولتهم الى أفغانستان ، وعناء الأسراف في الأموال لشؤون الجهاد فقط من أجل إلقاء محاضرة قيِّمة عن التوحيد والشرك والروافض ، وكيفية التعامل معهم ، وردهم وردعهم ، فيرجع العالم الى وطنه الأم وهو مسرور الضمير والذات لما تقدم به من عمل جيد ومثمر في أوساط الشباب العرب . في معسكرات المجاهدين تسمع هذا اللغط بأسراف وعفونه وحماقة وجلافة عند الوهابيين السعوديين بَعدَهُم الكويتيين ، والفلسطينيين ، والسوريين ، وأقلهم حرارة هم الأماراتيون والبحرانيون ، وأقل هؤلاء هم اليمنيون ثم المصريين . فالمعسكر الجهادي كما قلنا ممهورة خيامه بأسم الهلال الأحمر السعودي ، وزيارة العلماء والخطباء السعوديين وعلى مدى سنين الجهاد لمعسكرات المجاهدين كانت بأوامر رسمية في حقيقتها ودَفعها كونهم مرتبطين بوزارة أوقاف ومؤسسة دينية ممهورة منذ ولادتها بولاءها للحكومة ، كذلك المال المكلف للزيارة والتبرعات كله من الحكومة . في هذا الجو الشاحب والمتشنج والمقزِّز ترَعرَع ( أبومصعب ) ، وتعمّقت ثقافتُه الدينية وترسّخت في نفسِه وذاته . فما زال أبو مصعب وحتى نهاية هذه المرحلة نكرة لا يعرفه غيرُ المقرَّبين منه كواحد من بين آلاف المجاهدين . الى لقاء آخر قي حلقة ( باء ) القادمة .
قاسم محمد الكفائي
كاتب عراقي - كندا
canadainautumn@yahoo.com
https://telegram.me/buratha