عالم المخابرات حلقات يكتبهاالاستاذ قاسم محمد الكفائي تروي قصص عن المناضلين في الخارج والذين تم تصفيتهم على يد المخابرات العراقية بالاشتراك مع المخابرات الاقليمية والدولية .
شهيد هذه الحلقة الصابئي ( سعيد زامل صادق ) من سكنة بغداد - مدينة الثورة ( سابقا ) ، وخريج معهد الزراعة أو طالب كلية الزراعة في أبو غريب ، لا أتذكر بالتحديد مع أنه أخبرني عن نفسه. لا أحد من العراقيين يعرفه بهذا الأسم على الأطلاق ، ولا حتى ديانته وحين استشهادِه أخبرتُ البعض للأمانه . في إيران كان أسمه ( سمير ) ولما وصل الباكستان صار أسمه المتداوَل ( سلام عادل ) . فمن الصعب على كل عراقي أن يعرف ولائه الصابئي أبدا حتى استشهدَ وذهب الى ربه . لهجته كما أعتقد (عمارتليه ) وكل تفاصيل حياته ، وأخلاقه ، وسلوكه ، وفي حديثه مع الآخرين لا يقسم إلا بالقرآن والحسين ولا تظهر عليه أية علامة تشير الى التكلف أو الرياء والمخادَعة .
أفكارُه تميل الى الشيوعية دون أن يفهمَها أو يحمل مخزونا ثقافيّا عنها غير بساطته في سلوكه ، وكبر انتمائه للعراق ، ومعارضته لنظام صدام الى حدٍّ كبير وغير حَذِر . معرفتي به منذ عام 1986 كما أتذكَّر في مدينة ( كرج ) الأيرانية ولما قررتُ الخروج من أيران الى الباكستان صرتُ أبحث عن عراقي آخر أثق به ليكون رفيق طريقي الصعب . ففي تموز عام 1987 التقيتُ ( سمير ) في كوجه مروي المشهورة في طهران وشكى لي أحواله السيئة وتصميمه على الخروج من أيران على الرغم من محاولته الفاشلة من قبل عندما عبر الحدود الأيرانية – الأفغانية وقبضوا عليه بالقرب من – هرات - الأفغانية ومكث في السجن ، وأعادوه الى أيران من جديد . فاتحته بالأمر فوافق على الفور . عزمنا وتوكلنا لكن القوات الأيرانية قبضت علينا على مقربه من الحدود في قرية صغيرة إسمها ( بيشين ) في أقليم بلوجستان ، تابعة الى مدينة زاهدان ، مكثنا في سجنها لمدة 15 يوما . في محكمة – جابهار - وافق القاضي على إبعادِنا ، فعبرنا الحدودَ أحرارا الى أول قرية باكستانية إسمها ( مَنْدْ ) تابعة الى أقليم السند في الباكستان ، صوب كراجي . مشينا على الأقدام أياما والمنايا من حولنا كلما أتذكرها أحس وكأنني أعيشها اليوم . واحدة من المنايا ، كنّا نمشي في وديان ميته لا ماء فيها على الأطلاق ولا شجر، ومخيفة ، وهي ممر لتجار المخدرات أو منفذ للعمل المعارض ضد نظام الجمهورية الأسلامية في إيران . نمشي الليل في وديان الموت هذه فانتهى مائُنا الأحتياطي في أيام تموز الملتهِبة على مشارف – بيشين - حتى شعرنا بالدوران وبداية تعب غير طبيعي أنذرنا بالخطر .
وبعد المسير لاحظتُ على الأرض بعَرَ غنم ، فبشرتُ رفيقي بوجود الماء ونحتاج الى فطنة وصبر. إندهش من كلامي متسائلا : كيف ؟ قلتُ له إتبع هذا الأثر وما عليك . تبعنا البعر الذي ينقطع أحيانا ويظهر أخرى حتى وصلنا الى عين ماء أسِن صغيرة . كانت الفرحة أكبر من وصولنا الى مكتب الأمم المتحده في كراجي بعد أربعة أيام قطعنا فيها طريقنا باتجاه مدينة ( تُرْبَت ) ثم ( هوب ) . على تلك البركة الآسِنة كنّا مسرورين وكنّا نشرب الماء بصعوبة لكثرة أفراخ الضفادع فيها . ومع كل هذا أكلنا الخبز مع الماء وانطلقنا بعد أقل من ساعة . المنية الأخرى هي مصادفتنا لبعير في ذلك الوادي المخيف وكان محمَّلا ببضاعة مخدرات كما أعتقد أنا ، وقد يكون مؤكدا. مسكتُ بسمير وطلبتُ منه الرجوع من حيث أتينا . فعلا تخلصنا من المعضلة هذه . تجار المخدرات في تلك المنطقة يتركون بضاعتهم هناك في النهار ويعودون عندما يجنّ الليل فيعاودون المسير . لو رؤونا فسوف يقتلوننا في مكاننا حتى لا نفشي لهم سرّا . وهناك قصص واجهتنا أنا وسمير لا يمكن سردها هنا . وصلنا الى مكتب الأمم المتحدة في كراجي عاصمة اقليم السند بأعجوبة بالغة لِما تكللت بها الرحلة من مصائب . قبل الدخول الى المكتب سألتُ سمير من باب الأخوّة والحرص : سمير ، هل لديك قصة سياسية تسردها في المكتب عند التحقيق من أجل قبولك ؟ أجابني نعم وطمأنني ، لكنني كررتُ عليه السؤال حتى انزعج وقال ( أنا أفهم اشراح اسوي ) . سمير وكل العراقيين يفهمون مكتب الأمم المتحدة هو عبارة عن مؤسسة إنسانية تتحمل آهات المظلومين والمعذبين في الأرض . بينما تفسيري لها أنها مؤسسة مخابراتية تتحمل مسؤولية ضرب المظلومين والمعذبين في الأرض ( ولنا حديث خاص بها ) . دخلنا المكتب سويا وكان الوقت ظهرا سئلونا عن مصدر رِحلتنا وعن جنسيتنا فأجبتهم بما هو الصحيح . دخلتُ الى التحقيق والتراب يغطي وجهي وملابسي ، كذلك عناء السفر والخوف والمشقة تظهران على كل ملامحي . في التحقيق عرضتُ عليهم قصتي فأخذوها بمحمل الجد .
كان الأهتمام كبيرا وطلبوا مني على الفور صوري الشخصية . فعلا إستلمتُ النتيجة مقبولا كلاجىء سياسي على ذمة المكتب . أما سمير فاعتقد بقى لأكثر من عام حتى تمت الموافقة على قبوله . هو إدعى أنه شيوعي . ظل معذبا مهموما لحالته المأساوية دون قبوله ، كذلك هناك عراقيون يعيشون نفس الحالة بينما هم قبلنا في كراجي بأشهر عديدة ، ينامون في الليل أمام باب المكتب لعدم حصولهم على نتيجة القبول . فكانت معاناتهم كبيرة جدا . كنتُ أقوم بتهيئة ما يحتاجه سمير حسب المستطاع من نقطة إنطلاقتنا في ايران وحتى وصولنا كراجي التي استقبلنا فيها فريقان ، فريق رحب بي وجاملني وووو . أما سمير فضمه اليه فريقٌ آخر ( الى هنا نترك التفاصيل ) . حذرته من مغبة الأستمرار بالعلاقة مع هؤلاء ، ثم كررتُ عليه ، وأكدتُ أخرى لكنّ سمير كان يعتقد بما في تصوره هو. فتوقفتُ عنه لأنني أخشى من أن تنقلب نصائحي الى ابتلاء . فريقي أنا نفذَ عليَّ مهمة ضربي وفلتُّ منها ( سنسردُ التفاصيل لاحقا ) وهربتُ في ليلتها الى إسلام آباد التي تبعد عن كراجي 3 أيام في القطار وكان معي واحد من المنافقين وآخر عراقي شريف. لم أرَ سمير الذي صار أسمه سلام فيما بعد حتى آب عام 1988 في كراجي ضمن محضر خطير ولساعتين تقريبا . رأيته مرة أخرى في بناية مكتب الأمم المتحدة - العاصمة اسلام آباد وقد تغيّرت ملامحه الجميلة تلك الى ملامح الحشاشين من الدرجة الأولى . لا يقدر على الوقوف طويلا ولا يقدر على الجلوس . أصابعه محروقة بسبب السيكارة التي تحترق بين إصبعَيْهِ بعدما تأخذه نشوة المخدرات ( الهروين ) . وجهه شاحب وجسمه نحيف وهزيل . كل شيىء تغيّر حتى ملابسه الرثة .
تبادلنا التحية بفتور ، خالية من روح تلك العلاقة التي توطدت في رحلة الموت المُحقق . كان يحدثني وعقله شاردٌ منه ، أما أنا فكنت أنظر اليه بحسرة وتعجب وذهول . أهو حقا سمير الأمس ؟ في حينها عرفتُ كلَّ شيىء وفسرتُ كل مظاهره بأحلى تفسير فقال نعم . لكنني لم أستفد منه سوى أقل من القليل لأن الموظف نادى عليّ وذهبت اليه . بعد أيام قليلة أخبرنا صديق عراقي ( ش ) أنه رأى سلام أمام باب المكتب وقال بالحرف الواحد ( شفته يرعص ) حتى سقط على الأرض0هكذا تفعل المخابرات في كل العالم بضحاياها لتنقضَّ عليهم عند الحاجة وفي الزمن المناسب الذي فيه تقرر مقتل سلام عادل بعدما خرج العراقيون بتظاهرة أقاموها أمام مكتب الأمم المتحدة في العاصمة أسلام آباد ، كانت ضد نظام صدام وكما أتذكر بمناسبة ذكرى جريمة حلبجة . فبكل اختصار مرَّت سيارة القنصل العراقي من أمامِنا فقام أحدُنا بغبائه وبساطته وتواضع فهمه بفعالية ظنّها كل الحضور بسيطة ( 00 ) لكنني وبنفس الليلة أخذتُ حقيبتي على كتفي لأغيّر مكاني هربا من فاجعة ما سيحدث لنا . ذهبتُ الى مكان ملتقى بعضنا ( جناح ماركت ) فوجدت صديقي ( م 0أ 0 م – وكان معه – ك الحلاق ) فاخبرتهما بوجوب تغيير مكاني ( كوني مُستَهَدَف ) ، أو أسافر الى خارج اسلام آباد : فقالا لماذا ؟ قلت لهما ستقع كارثة علينا ، ما هي الكارثة لا أدري . تعجبا دون أن يأخذا بكلامي لأن العراقيين يسمعون في كل يوم ألف نكتة وقصة . لم أفصح لأيٍّ كان عن السبب حتى مضت على القصة أكثر من عام بعدها بيَّنت سبب مقتل سلام الى ( م أ م ) . لم تمض سوى يومين أو ثلاثة حتى استُخبرنا بوجود جثة تعود لشخص عراقي الجنسية في مستشفى ( راجه بازار) تركها مجموعة من الرجال هناك واختفوا . هرعَ البعض الى المستشفى المذكور فتبيّن أن الجثة تعود الى صديقنا سلام . قتلوه العتات بتحطيم رأسه الشريف ، وضربات أخرى في أنحاء جسمه ودُفِنَ في مدينة راولبندي على الطريقة الأسلامية . كتبتُ بالمناسبة بيانا بأسم العراقيين المقيمين في الباكستان والشعب العراقي موضحا فيه الجريمة النكراء وأبعادَها ، مُحَمِلا عصابات وكر نظام صدام ( السفارة العراقية ) المسؤولية الكاملة .
وزعنا مئات النسخ وعلقناها على الجدران في مناطق متفرقة من إسلام آباد العاصمة ، مطالبين الشعب الباكستاني بحمايتنا من عصابات صدام . أقمنا تظاهرة كبرى وتشييع رمزي بالمناسبة فقمعتها أجهزة المخابرات والشرطة الباكستانية بدفع من سفارة صدام . وتلقى أغلبُنا نحن المتصدين في الخط الأمامي ضربات عنيفة بالعصي الغليظة من قبل الشرطة الحشاشة . وتمّ اعتقال بعضنا لأكثر من ستة ساعات . تناقلت وكالات الأنباء كل الوقائع على الخصوص إذاعة وتلفزيون الجمهورية الأسلامية في ايران ، أما موقف مؤسسات الدول الرجعية في اسلام آباد منها السعودية والكويت هو موقف الشامتين، ويسموننا الكلاب السائبة .
كيف وقعت الجريمة ، ومن قام بتنفيذها ؟الشق الأول من السؤال يمكنني الأجابة عليه من وجهة نظري وبناء على فهمي للواقع الذي عشناه هناك بأن سلام كان يمشي لمسافات طويلة حتى منتصف الليل لوحده شارد الفكر ، فكان الضحية الجاهزة والمعَدَّة لهذا الغرض إبتداءً من أيامه في كراجي . بطريقة الترصد والمتابعة يمكن تنفيذ سيناريو من قبل المجرمين ، وأصعدوه معهم بسيارتهم ثم فعلوا فعلتهم ( 0000) نكتفي بهذا القدر ونطمأن أهلنا وأعزائنا العراقيين وعلى الخصوص عائلته وكل أحبتنا الصابئة بأننا سنجيب على الشق الثاني عندما يكون المجرمون وبمساهمتنا في قبضة العدالة العراقية . دم الشهيد سعيد زامل صادق لم ولن يذهب سدى ، وسنمسك برأس الحبل أو الخيط بكل شجاعة واقتدار . أقولها بمسؤولية وثقة عالية . القصة أعمق وأوسع وأكثر حزنا ووحشة في عالم المخابرات . والى اللقاء في حلقة أخرى لشهيد آخر .تنويه 00
كتب الشهيد سعيد زامل صادق قبل استشهاده بأيام قصيدة ( نثر ) اسمها – عراق – وكانت بخط يده على ورقة عاديه وكان ( م ) يحتفظ بها وسلمها الى شخص لا أعرفه ما بعد استشهاده . فهل بمقدور هذا الرجل الأحتفاظ بها وتسليمها الى ذويه في العراق لعلها تعوض عن جثته المخضبة بساطور صدام التكريتي .
* سردنا مقتطفات من القصة للتاريخ أولا وحتى تتعرف عائلة الشهيد على واقع قد يندثر باهمالنا وعدم حرصنا في فضحه .قاسم محمد الكفائيكاتب عراقي - كنداcanadainautumn@yahoo.com
https://telegram.me/buratha