وهذه ليست امنية سياسية بل حقيقة يمكن تحويلها الى واقع سياسي اذا ما تحلى الزعماء الشيعة بنكران الذات الشخصية اوالاسرية او الحزبية من اجل المصلحة الشيعية العليا وأحسنوا توزيع الادوار فيما بينهم واستفادوا من التنوع الفكري والسياسي والطاقات التي لديهم لاسيما الاعلاميين والتكنوقراط وصهروا ذلك كله في بوتقة واحدة لنتجت قوة شيعية عملاقة قادرة على ان تحقق لشيعة العراق تطلعاتهم وتضمن لهم مستقبل مشرق. ( بقلم : محمد حسن الموسوي )
في مقالي السابق ( لا تخسروا علاويا) اشرت الى ان سياسية استعداء الدكتور علاوي كانت واحدة من الاخطاء الإستراتيجية التي أرتكبها البعض وذلك تماشيا ً ورغبة اقليمية هذا من ناحية ولأنه _ اي الاستعداء_ لم ينشأ من فراغ بل كانت له مبررات _من وجهة نظر البعض_ خلقتها اخطاء علاوي ذاته من ناحية أخرى. وأيا كانت اسباب الاستعداء فأنه خطأ لايمكن قبوله بأي حال من الاحوال ولاسيما ان احداثا كبيرة حصلت طوال هذه المدة تحتم على الشيعة تلافيها وتصحيحها وأعادة علاوي الى البيت الشيعي الذي كان فيه وقد آن آوان ذلك.
واذا كانت هنالك من اسباب لإستعداء علاوي وخسارته فإنه لا توجد اسباب منطقية على الاطلاق لخسارة الجلبي واستعدائه هو الاخر لا سيما وانه _ اي الجلبي_ لم يخرج بحركاته او سكناته عن الخط الشيعي العام ولم يبتعد قيد انملة عن المصلحة الشيعية العليا بل يُسجل له السبق في تأسيس البيت الشيعي ومن ثم المجلس الشيعي الذي تمخض عن الائتلاف العراقي الموحد حيث خاض الجلبي الانتخابات الاولى تحت مظلته ودخل حلبة المنافسة على رئاسة الوزراء وضرب المثل الاعلى في الإيثار من اجل مصلحة ابناء المقابر الجماعية وانسحب من التنافس في حينها من اجل وحدة الائتلاف.
والغاية من التذكير بهذه الامور هي للاستفادة من تجارب السنوات الثلاث المنصرمة وتلافي الاخطاء التي احاطت بحركة الشيعة خلالها وذلك من اجل تكوين جبهة شيعية قوية تستوعب كل الطاقات ومنها بالتأكيد كلا من علاوي والجلبي والبقية الباقية من الشخصيات والقوى الليبرالية الشيعية لكي تكون قادرة على مواجهة الايام القادمة ومؤهلة لقيادة العراق مع شركائنا ألآخرين وايصاله الى بر الامان واقامة دولة عصرية ديمقراطية فيدرالية وكذلك من اجل تحصيل حقوق الشيعة كاملة وتأمين مستقبل آجيالهم القادمة. وامامنا التجربة الكردية ماثلة للعيان بالتحالف الكردستاني حيث الثنائي الكردي ممثلا بالبرزاني والطالباني وحيث محمود عثمان جسر بينهما الامر الذي نتطلع لتكراره في الوسط الشيعي حيث الثنائي الشيعي الحكيم وعلاوي وما يتخندق ورائهما من قوى دينية واخرى علمانية وحيث الجلبي الذي يتوقع ان يلعب دور عثمان الكردي عند الشيعة ليجسر الهوة بين علاوي والحكيم.
والسؤال هو هل يستطيع الجلبي القيام بدور السياسي الكردي محمود عثمان ولكن في الوسط الشيعي؟
وقبل الخوض بتفاصيل الاجابة لابد لنا من اعطاء صورة مقتضبة عن الواقع الكردي لكي يتضح دور صديقنا الاستاذ محمود عثمان فيه حتى نستطيع فهم الدور المراد للجلبي القيام به في الوسط الشيعي . وتأسيسا على ذلك نقول ان الوسط السياسي الكردي منقسم في ولائه بين البرزاني مسعود والطالباني جلال. الاول يتزعم ( البارتي) او الحزب الديمقراطي الكردستاني وهو سليل إقطاعية عشائرية ورث الزعامة السياسية عن أخيه المرحوم إدريس والذي ورثها بدوره من ابيه الزعيم الكردي الخالد الملا مصطفى البرزاني ويتكون حزبه من تآلف عشائري يعتمد بالاساس على عشيرة البرزانيين وعشائر المنطقة البهدنانية. تشكل في اربعينيات القرن الماضي ومن هنا فهو حزب تاريخي محافظ.
اما الثاني _ اي الطالباني_ فهو يتزعم ( اليكتي) او الاتحاد الوطني الكردستاني الذي أ ُنشئ بعد انشقاق الزعيم ابراهيم احمد والد زوجة الطالباني الذي اسس معه في السبعينيات الاتحاد على اسس يسارية اذ يضم بين جنبيه بشكل عام النخبة المتعلمة والمثقفة ذات الميول اليسارية من ابناء المنطقة السورانية ويمكن القول انه حزب ذو ميول يسارية وسطية ولذلك فهو عضو في الاممية الثانية أي الاحزاب الاشتراكية الدولية. وكلا الحزبين يتقاسمان الساحة الكردية بشكل عام.
اين يقف محمود عثمان من الحزبين ؟
لا اجانب الحقيقة اذا ما قلت ان عثمان بوضعه السياسي الخاص يمثل حالة البرزخ بين الحزبين ويتلخص دوره في تجسير الهوة بين الغريمين اللذين لم تخل علاقتهما احيانا كثيرة من المناكفة السياسية التي وصلت حد التحارب والتقاتل بينهما في اواسط التسعينيات الماضية. وتنبع اهمية دور عثمان من كونه يشكل تيارا ً ثالثا ً بين التيارين الكرديين المتنافسين. فدوره يشير الى دور المستقلين هذا من الناحية الحزبية التنظيمية وكذلك يمثل منطقة الوسط او المنطقة الرمادية التي تلتقي عندها طروحات الحزبين المذكورين. وبكلمة آخرى فإنه وبعد التجارب المريرة التي عاشتها القوى الكردية وصلت الى حالة من التكامل الظاهري من خلال تبنيها لإستراتيجية تبادل الادوار فيما بينها ولست متاكدا ً فيما لو كانت هذه الإستراتيجية نابعة عن تخطيط مسبق ام انها تحصيل حاصل لسنوات طويلة من الصراع بين الاشقاء الاكراد انفسهم ومع غيرهم؟
وعلى اية حال تتشكل إستراتيجية تبادل الادوار الكردية بالنسق التالي :
البرزاني ومن ورائه الـ (بارتي) يمثل يمين الحركة الكردية والتيار المحافظ والمتشدد والاكثر راديكالية فيما يتعلق بالحقوق الكردية والاكثر تمسكا ً بالتراث الكردي ويميل اغلب الاحيان الى تبني تكتيك رفع سقف المطالب الى الحدود العليا من اجل الحصول على الحدود المعقولة. الطالباني ومن خلفه الـ (يكتي) يمثل يسار الحركة الكردية والتي تتبنى في العادة طروحات براغماتية تتحلى بالمرونة السياسية واعتناق الافكار العصرية والمظاهر (التقدمية) من وجهة نظرهم.
بين هذين الاتجاهين يبرز دور او اتجاه عثمان الذي يعمل في اغلب الاحيان كجسر ورابط بينهما. يساعده على ذلك تاريخه النضالي وجهوده الكبيرة في دعم الحركة الكردية حيث بدأ نشاطه السياسي مع الزعيم الكبير ملا مصطفى البرزاني لينتهي به المطاف مستقلا ً وليكمل بإستقلاليته وبأفكاره إستيراتيجية تبادل الادوار الكردية. وموقفه عادة هو موقف بين موقفين . وبذلك يزيد من تماسك الجبهة الكردية وإغنائها بالتنوع الفكري والسياسي وهذا هو في اعتقادي احد اهم اسباب نجاح المفاوض الكردي الذي أستغل في السنوات الاخيرة هذا التنوع بنجاح لصالح قضيته.
نعود الى الجبهة الشيعية لنجد تشابها كبيرا بينها وبين شقيقتها الكردية حيث يمكن رصد اتجاهين رئيسيين فيها الان. الاول الاتجاه الديني الاسلامي الذي يمثله الائتلاف العراقي بزعامة عبد العزيز الحكيم والذي يشابه بخلفيته السياسية مسعود البرزاني . فهو _ اي الحكيم _ ورث الزعامة السياسية عن اخيه الشهيد محمد باقر الحكيم والذي استمد زعامته بدوره من ابيه المرجع الراحل محسن الحكيم ومن محاسن الصدف ان والد عبد العزيز افتى بحرمة قتل والد مسعود واتباعه وذلك في السيتينيات الماضية حينما اراد الرئيس السني عبد السلام عارف ابادة الاكراد وحصل على فتوى بقتلهم من مشيخة الاسلام السنية ولكن لم يحصل على غايته عند الشيعة الذين كان يمثلهم في ذلك الحين الامام محسن الحكيم .هذا الموقف الانساني الذي لم ينسه الاكراد للشيعة عامة ولآل الحكيم خاصة وهو واحد من اسرار التحالف ألإستراتيجي بين الأكراد والشيعة.
ونستطيع القول ان الحكيم ومن ورائه الائتلاف العراقي يمثل في طروحاته يمين الحركة الشيعية ويتبنى روؤى محافظة ومتشددة فيما يتعلق بتحصيل الحقوق الشيعية المهضومة اذ تجد طروحاته صدى واسعا لدى اغلب شيعة العراق خصوصا فيما يتعلق بفيدرالية المناطق الشيعية لكن ضمن العراق الواحد تمتد مبدئيا من الفاو حتى تخوم بغداد على ان تكتمل في المستقبل لتشمل بقية الجغرافية الشيعية.
وفي مقابل هذا الاتجاه يقف علاوي ومعه العروبيون واليساريون الشيعة حيث يمكن القول انه بات يمثل يسار الحركة الشيعية هذا اذا جاز لنا استخدام مطلح الحركة على نحو التوصيف اذ يمثل علاوي اتجاها تتجلى فيه نزعة عروبية_وربما هذا هو السبب في اعراض دولة غير عربية جارة للعراق عنه ومحاربته سياسيا واعلاميا في داخل العراق_ وكذلك فإن علاوي لا يتفاعل مع اطروحة الفيدرالية الشيعية في الوقت الراهن ويتطلع الى سيطرة الليبراليين الشيعة على العراق برمته دون الاستقواء بالمرجعية الدينية وزجها بالعمل السياسي حفاظا على حياديتها واستقلالها على حد رأيه.
وعلى ذلك يبدو الحكيم أكثر تشددا ً من علاوي تجاه الحقوق التأريخية للشيعة لكن كليهما يعمل لصالح الشيعة وفق اجتهاده السياسي الذي يعتقده مناسبا كما يفعل بالضبط البرزاني والطالباني في الوقت الحاضر مع فارق جوهري وهو ان الزعيمين الكرديين يفعلان ذلك بأتفاق ووفق إستراتيجية تبادل الادوار السالفة الذكر اما الزعيمان الشيعيان فيعملان ذلك من دون ادنى تنسيق يذكر بينهما فهما والحالة هذه يشابهان البرزاني والطالباني قبل عقد من الزمن تقريبا. ويدركان جيدا اهمية تلافي الانزلاق الى حرب بينهما على غرار ما حدث مع الاكراد ورغم هذا الوعي لكنهما _ اي علاوي والحكيم_ يفتقران الى آلية لتوحيد جهودهما بما يخدم المصلحة الشيعية العليا. وبكلمة أخرى انهما بحاجة الى من يستطيع أختزال التباعد في طروحاتهما والى تجسير الهوة بينهما وتقريب وجهات نظريهما. وهنا يأتي الدور المرتقب للدكتور الجلبي اي الدور العثماني ( نسبة الى محمود عثمان) بخاصة وان الجلبي مرًّ خلال السنوات الثلاث الماضية بظروف مشابه لظروف عثمان في السابق.
فالجلبي كان من مؤسسي الائتلاف العراقي الاساسيين ان لم نقل انه الاب المادي له والامام السيستاني الاب الروحي ولكنه تركه لأسباب لايسع المقام لذكرها ولم يلتحق بصنوه علاوي بل فضل ان يشق له طريقا بين الحكيم وعلاوي اسميته فيما مضى بـ (الطريق الثالث) غير انه ولاسباب باتت معروفة للجميع تعثر في الوصول الى البرلمان كما فعل عثمان الذي دخل مع التحالف الكردستاني كجبهة قوية واحدة ولم يفرط به الاكراد.
وفي اعتقادي ان الفرصة لاتزال سانحة امام القوى الشيعية الرئيسية اذا احسنت هذه القوى بيمينها ويسارها استغلالها. وبإمكان الجلبي رجل التحالفات النهوض بدور تجسير الهوة بين اليمين واليسار الشيعيين اي بين الائتلاف بزعامة الحكيم والعراقية بزعامة علاوي وبذلك يمكن ايجاد إستراتيجية شيعية تقوم على اساس تبادل الادوار وتنوع المحاور التي يجيدها الاكراد وليس عيبا في الحياة السياسية الاستفادة من تجارب الاخرين لانها تجارب انسانية وتراكم في الخبرة البشرية أولاً وآخرا.
ووفقا لهذه الإستراتيجية سيكون للحكيم دور ولعلاوي دور ومابين الدورين يأتي الجلبي بدور. علاوي بما يمثله من عمق شيعي بإتجاه دول غرب العراق إقليميا وغرب بغداد محليا والحكيم بما يمثله من ثقل لدى دولة شرق العراق اقليميا وكردستان العراق محليا والجلبي بما يملك من ثقل عالميا. هذا الثلاثي الشيعي اذا ما توحدت جهوده في جبهة واحدة وقوية فأن اي قوة اقليمية او دولية لن تستطيع زعزعة الشيعة في العراق.
وهذه ليست امنية سياسية بل حقيقة يمكن تحويلها الى واقع سياسي اذا ما تحلى الزعماء الشيعة بنكران الذات الشخصية اوالاسرية او الحزبية من اجل المصلحة الشيعية العليا وأحسنوا توزيع الادوار فيما بينهم واستفادوا من التنوع الفكري والسياسي والطاقات التي لديهم لاسيما الاعلاميين والتكنوقراط وصهروا ذلك كله في بوتقة واحدة لنتجت قوة شيعية عملاقة قادرة على ان تحقق لشيعة العراق تطلعاتهم وتضمن لهم مستقبل مشرق.
خطوات نتطلع ان يعمل زعماء الشيعة على تفعيلها والاستفادة من الجلبي ليلعب دور همزة الوصل بينهم اذ علينا العمل جاهدين على تقوية الجسد الشيعي بالعناصر الفاعلة والمؤثرة بخاصة تلك التي تمتلك علاقات طيبة مع الاطراف الدولية والتي تستطيع بخبرتها الواسعة مخاطبة العامل الدولي بإعتباره لاعبا اساسيا في الساحة العراقية اليوم وعليه فنحن بحاجة ماسة الى تطعيم الجسم الشيعي بالعناصر المقبولة دوليا واقليميا من اجل نسج شبكة واسعة من العلاقات وعلينا ان نتذكر دوما ان الانكشاريين الطائفيين والكولمند(أي العبيد) الذين حكموا العراق بالحديد والناراكثر من ثمان عقود عجاف انهم وصلوا الى دفة الحكم بصفقة دولية وسيسعون بإيديهم وأرجلهم اليوم للحصول على هذه الصفقة ثانية وبمساعدة اقليمية واضحة لأسباب طائفية غير ان الامور قد تغيرت كثيرا ولم يعد في نفس الغرب من هوى تجاه الانكشاريين الذين ملئوا العراق بالمقابر الجماعية واستطال شرهم حتى وصل الى بلدان من اوصلهم للحكم .
وبإمكان الشيعة فعل الشئ ذاته لاسيما وان الدول المعنية بالملف العراقي مرتاحة نوعا ما للاداء الحضاري لشيعة العراق في الحكم لحد الان ويزيد على ذلك انها المرة الاولى في تاريخ ابناء المقابر الجماعية ان تقف المرجعية الدينية بثقلها التأريخي خلف الزعامات الشيعية السياسية ومن هنا يكون وجود زعامات كعلاوي والجلبي وبقية القوى المدنية والليبرالية الشيعية عنصر قوة يوفق بين الارادة الدولية والرغبة المحلية الشيعية. ويبقى السؤال هل يتقبل الجلبي القيام بدور عثمان ؟ وهل يرضى علاوي والحكيم هذا الدور خصوصا وان الجلبي لا وجود له تحت قبة البرلمان التي ناضل من اجل ان يرى الشيعة تحتها سادة وقادة؟ اسئلة اترك الى الزعماء الشيعة الاجابة عليها لا بالاقوال بل بالافعال وثقتنا بهم عالية.
محمد حسن الموسوي
https://telegram.me/buratha