( بقلم : كريم علي فياض )
ألشعائر الحسينية..والتحدي الكبير بوجه الطغاة...تروي كتب التاريخ أن أول زائر لقبر الحسين(ع) هو عبد الله بن الحر الجعفي لقرب موضعه منه، قصد الطف ووقف على الأجداث ونظر إلى مصارع القوم فاستعبر باكياً، ورثى الحسين بقصيدة معروفة:يقول أمير غادر وابن غادر ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمهفواندمي ألا أكون نصرته ألا كل نفس لا تسدد نادمه(أهم مراراً أن أسير بجحفل إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه) وجاء في بحار الأنوار أن أول من قرأ الشعر على مصيبة سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) غير عبد الله بن الحر الجعفي المذكورة قصيدته آنفاً هو الشاعر عقبة بن عمرو السهمي من قبيلة بني سهم:إذا العين قرّت في الجنان وأنتم تخافون في الدنيا فأظلم نورهامررت على قبر الحسين بكربلاء ففاض عليه من دموعي غزيرهافما زلت أرثيه وأبكي لشجوه ويسعد عيني دمعها وزفيرها وذكر الشيخ الطوسي في رجاله: (إن أول زائر لقبر الحسين (ع) في كربلاء هو جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي الخزرجي، ويظهر من استقراء الروايات الواردة في هذا الباب أن جابر بن عبد الله هو أول زائر للقبر في يوم الأربعين) لقد أثرت هذه الزيارات وأبيات الشعر تأثيراً فاعلاً في نفوس القائمين بها والمحيطين بهم.. لاسيما وأن مدينة كربلاء قبلة حجة للزوار، وعلى مدى الأشهر القليلة استقطبت الكثير منهم، والذين بادروا إلى نقل مشاهداتهم ورواياتهم عن تلك الواقعة المرعبة إلى ذويهم وأبناء قراهم ومدنهم، مما ساعد على تأجيج الحماس وإذكاء نيران الحقد ضد الطاغية يزيد، وهيجت مشاعر الناس البسطاء وأنصار آل البيت (ع) ، فعبروا عن غضبهم بشتى السبل. فقال بعضهم شعراً أو نثراً أو خطاباً.. وهذا كثير بن كثير السهمي الشاعر يعجب لما وقع فيقول:يأمن الظبي والحمام ولا يأ من آل الرسول عند المقاموهذه سيدة تخرج إلى الناس سائلة على لسان النبي (ص):ماذا تقولون إن قال النبي لكم: ماذا فعلتم، وأنتم خيرة الأمم؟بعترتي وبأهلي عند مفتقدي منهم أسارى وقتلى ضرّجوا بالدمما كان هذا جزائي إذْ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحميولم يقتصر الأمر على هؤلاء، بل كان لتدخل كبار الشعراء وعتابهم المرير على المتقاعسين عن نصرة الحسين، الأثر الكبير في تأجيج النيران ضد بني أمية وفي تحريك الثوار..يروى أن الفرزدق قال لما قتل الإمام الحسين (ع): (إن غضبت العرب لابن سيدها وخيرها، فاعلموا إنه سيدوم عزها وتبقى هيبتها، وإن صبرت عليه ولم تتغير، لم يزدها الله إلى آخر الدهر إلا ذلاً.. وأنشد:فإن أنتم لم تثأروا لابن خيركم فألقوا السلاح واغزلوا بالمغازل) وقال عبيد الله بن الزبير الأسدي معاتباً:فإن أنتم لم تثأروا لأخيكم فكونوا بغايا أرضيت بقليل وبعد هذا كله وغيره نشطت وبصورة ملحوظة دعوات الثأر للحسين وصحبه، وكثرت المجالس التأبينية والمآتم.. وتجمع كتب التاريخ على أن أهل البيت وشيعتهم، كانوا يجتمعون يوم عاشوراء في كل عام في بيت من بيوت الأئمة من أهل البيت ويقيمون (النياحة)، حيث يستحضر أحد الشعراء مأساة الطف.. وكان هناك شعر غزير مملوء بالعواطف، ملتهب الوجدان، لم يسمح للشعراء آنذاك الجهر به سمي بشعر (المكتمات) الذي منع من التداولولقد أتى هذا النشاط البسيط بمردود كبير لا يمكن نكرانه:(في ربيع الأول من عام 65هـ وفي عهد عبد الملك بن مروان قصد كربلاء جماعة من التوابين من أهل الكوفة يقارب عددهم الأربعة آلاف نسمة بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي يطالبون بثارات الإمام الحسين، فازدحموا حول القبر كازدحام الناس عند لثم الحجر الأسود في الكعبة، ولم يكن إذ ذاك ما يظلل القبر فكان ظاهراً معروفاً) ومكثوا في كربلاء يوماً وليلة، بكوا وناحوا ثم رحلوا إلى (عين الوردة) فقاتلوا الأمويين فيها وقتل رأسهم سليمان بن صرد الخزاعي فتشتت شملهم. ولهم في رثاء الحسين خطب وقصائد ورد ذكرها في (تاريخ الطبري) وغيره، كابن الأثير الذي يقول عن التوابين: (ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فلما وصلوا صاحوا صيحة واحدة، فما رؤي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون عليه وعلى أصحابه) لقد اعتبرت تلك البادرة التي قام بها التوابون في القرن السابع الميلادي إحدى أهم الشعائر الرمزية وأول حركة معارضة إسلامية شعبية بعد ثورة الحسين، وأول دعوة علنية للأخذ بالثأر والانتقام، وهي تبين حقيقة شعور أهل الكوفة بالندم المرير والحسرة البالغة لمقتل الإمام الحسين.. ولقد كونت تلك الحركة النواة الرئيسية لتجديد ذكرى الطف (حينما كان التوابون يجتمعون في بيت من بيوت أهل البيت (ع) في الكوفة ثم يذهبون إلى كربلاء للتجمع حول قبر الإمام الحسين وبصورة خاصة يوم عاشوراء للبكاء وطلب المغفرة، لتقاعسهم عن نصرته في واقعة كربلاء) ولقد شجع ذلك أنصار ومحبي آل البيت على إقامة المآتم في بيوتهم وكان هناك قارئ يقرأ واقعة الطف، وقاص يقص ما حدث (رسالة أهل الكوفة للحسين ومن ثم غدرهم)، ونادب يندب ابن رسول الله وصحبه وقائل يقول المراثي ويلقي الخطب..استمرت حركة الدعوة لإحياء ثورة الحسين دون توقف وغدت أكثر تنظيماً وفعالية بمرور الأيام، وأصبح الكميت بن زيد الأسدي أبرز الدعاة وكان خطيبا وشاعراً وعالماً بمختلف علوم عصره، وقد وظف قدراته بإخلاص وتفان في سبيل نصرة حركة الثورة على الأمويين، فأنتج أدب دعوة جديد، يعدّه الباحثون المحرض الأول على التجديد الشعري الثوري، الذي عرف فيما بعد باسم الشعراء المحدثين، وهكذا كان الكميت شاعراً محرضاً على ثورة سياسية واجتماعية وأدبية..وقد عرفت قصائد الكميت الداعية إلى الثورة باسم (الهاشميات) ولم يصلنا منها سوى جزء يسير نشر في كتاب اسمه (الروضة المختارة) إلى جانب القصائد العلويات السبع لابن أبي الحديد المعتزلي.ألا هل عم في رأيه متأمل وهل مدبر بعد الإساءة مقبلوهل أمة مستيقظون لرشدهم فيكشف عن النعسة المتزملكلام النبيين الهداة كلامنا وأفعال أهل الجاهلية نفعلفتلك ملوك السوء قد طال ملكهم فحتى م حتى م العناء المطوّلذلك الأمر شجع أنصار الحسين على المضي قدماً في تقديم أوضح الصور عن مأساة الطف، (وكان أول من مثّل واقعة كربلاء وأشاع التمثيل فيها هو العلامة المجلسي الذي كان أكثر العلماء إطلاعاً على الأخبار وكلمات الفقهاء، وكل من جاء بعده من علماء البلاد أمضى فعله ولم ينكر عليه) وكان الإمام الصادق (ع) قد حدد الطريق إلى إقامة مراسم العزاء الحسيني، وأظهر بعض التخصص فيها، فقال للفضيل: (بلغني أن قوماً يأتون قبر جدي الحسين (ع) من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ونساءً يندبنه وذلك في النصف من شعبان فمن بين قارئ يقرأ وقاص يقص ونادب يندب وقائل يقول المراثي، فقلت: نعم جعلت فداك، قد شهدت بعض ما تصف. فقال: الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا) لقد عدّ بعض الباحثين والمتخصصين في المنبر الحسيني قول الإمام الصادق بدايات نشوء المأتم وبروز دور البعض في إدارة ما يشبه مجالس العزاء الحالية من حيث الشكل والاشتراك، فلقد سعى الإمام الصادق لتنظيم أمر هذه المجالس وانتشارها، وبجهوده ظهرت في تلك الفترة الحرجة من عداء زمرة العباسيين المواضيع المكتوبة التي تتلى في هذه المجالس والأحاديث التي تروى عن المعصومين في فضل الالتزام بالزيارة والبكاء على الحسين الشهيد (ع).وفي عهد الإمام الصادق أيضاً (انتشرت حالات تجمع الشيعة للحديث عما جرى من مصائب في كربلاء وسرد ما وقع وآخر يندب الإمام بالرقة ليثير العواطف حسب طلب الإمام من أبي هارون المكفوف حين ورد على الإمام الصادق (ع) وأنشده بعض الأبيات في رثاء الحسين (ع) فقال له: أنشدني كما تنشدون في الرقة.قال: فأنشدته (أمرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكية) فبكى) وهي قصيدة الشاعر المعروف السيد الحميري الذي هجا بها زياد بن أبيه وبنيه، وبسببها حبسه عبيد الله بن زياد وعذبه.وكان استنكار العالم الإسلامي لفعلة يزيد النكراء سبباً في التغاضي عن تظاهر الشيعة بالحزن على الحسين وعن اجتماعاتهم لتلك الغاية (وقد اغتنمت الشيعة تلك الفرصة فراحوا يكثرون الاجتماعات ويذكرون الحسين وما جرى عليه في كربلاء ويبثون ذلك بلغة الشعر والنثر) ومرت على المآتم الحسينية فترات ضعف وقوة تبعاً للظروف ففي العهد العباسي كانت المآتم تمنع تارة ويسمح بإقامتها تارة أخرى، وإن هذه المجالس كانت تقام علناً أيام المأمون) فلقد تساهل المأمون كثيراً في مسألة المآتم وسمح للشيعة وأنصار آل البيت ومحبيهم بإقامتها دون حرج (وكان الإمام الرضا (ع) يحتفل بهذا اليوم) غير أن (النياحة) التي كان يقيمها أهل البيت لم تصبح شعائر ثابتة إلا في القرن الثالث للهجرة حين ظهر اسم النائح الذي يرثي الإمام الحسين (ع) بشعر ملحن (وكان الناشئ الأصغر على أغلب الاحتمالات أول من عقد مجالس النياحة على الإمام الحسين في بغداد) وقد تطورت النياحة إلى قراءة (مقتل الحسين) لابن نمائم ابن طاووس وهي أول كتب المقاتل، ومن ذلك الحين أطلق على من يقرأ النياحة في عاشوراء اسم (قارئ المقتل) أو (القارئ) وهو وريث المداح العربي القديم و(القصخون) وقارئ المقامات الذي صوره الواسطي في لوحاته الغنية في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي..ثم ألفت عدة كتب خاصة كانت بمثابة المادة التي يلقيها الخطباء، ولعل من النماذج التي تذكر في هذا الباب كتاب ابن نما الحلي (ت645هـ) المعروف ب(مثير الأحزان) وكتاب (اللهوف في قتلى الطفوف) لابن طاووس الحلي (ت664هـ).وتدريجياً، أصبحت كربلاء مزاراً يؤمه الكثير من المسلمين بالرغم من محاولات المنع والتقييد والاضطهاد التي قام بها الأمويون ومن بعدهم العباسيون، وقد أصبح قبر الإمام الحسين (ع) مركزاً لتجمع الشيعة القادمين من كل مكان على مدار السنة وبخاصة يوم عاشوراء، ولهذا السبب عمل المتوكل العباسي على منع إقامة المآتم الحسينية ومنع زيارة قبر الحسين (ع) ، وكان بذلك أول شخص فعل ذلك، ولم يكتف المتوكل بهذا المنع بل تطرف في عدائه للحسين، ويذكر ابن الأثير في حوادث سنة (236هـ = 850م) فقال: (في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي(ع) وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يبذر ويسقى موضع قبره) علماً(بأن المنصور الدوانيقي هو أول من هدم قبر الحسين، وجاء من بعده هارون الرشيد سنة (193ه) فهدم القبر وحرث الأرض وقطع شجرة السدر التي كانت قرب القبر ليمحوا نهائياً آثار القبر الشريف) ، والثالث كان المتوكل وإن ذكر أبو الفرج الأصفهاني: (إن المتوكل هو أول من خرب القبر وهدمه على يد اليهود الذين كانوا معه سنة 233هـ) لم يمنع إرهاب المتوكل الشيعة من المضي في إقامة العزاء أو القيام بمراسيم زيارة قبر الحسين (ع) بل استمروا في ذلك بتحدٍ مباشر أو بصورة غير علنية..في تلك الفترة الحرجة ألفت عدة كتب كان أهمها كتاب (روضة الشهداء) للشيخ حسين الكاشفي السبزواري (ت910هـ) وكان يتلى في المجالس الحسينية، وترجم إلى عدة لغات.. لذلك سمي قارئ المأتم باللهجة العراقية (روزخون) لأنه كان يتلو كتاب (روضة خوان)!.وبعد انهيار الدولة العباسية وصعود البويهيين إلى السلطة في القرن العاشر الميلادي، جاء معز الدولة البويهي (936 - 967م) وكان مع وزيره ابن المهلبي من الشيعة. قال ابن الجوزي مع المبالغة في التصوير:(جرت في العاشر من محرم عام (963م = 352هـ) ولأول مرة في التاريخ احتفالات رسمية وفريدة في يوم عاشوراء حيث أغلقت الأسواق وسارت النادبات في شوارع بغداد وقد سودن وجوههن وحللن شعورهن ومزقن ثيابهن وهن يلطمن وجوههن ويرددن مرثية حزينة) (وأول من جعل اليوم العاشر من المحرم يوم حزن لذكرى موقعة كربلاء بصفة رسمية هو معز الدولة البويهي) وإثر ذلك تنفس الشيعة الصعداء، وأصبح الإعلان عن شعائرهم بذكرى عاشوراء الدم أمراً متاحاً. وأخذوا يمارسون طقوسهم بحرية تامة وبصورة علنية، وينقل المقريزي أيضاً: (جرت شعائر الحزن والعزاء يوم عاشوراء أيضاً أيام الإخشيديين في مصر واتسع نطاقها أيام الفاطميين، حيث توقف البيع والشراء وتعطلت الأسواق وذهب الناس إلى مشاهد أم كلثوم ونفيسة في القاهرة وهم باكون نائحون) وذهب الفاطميون إلى إظهار الحزن على الإمام الحسين (ع) في عاشوراء بصورة ملحمية مؤثرة في النفوس (فكانت مصر في دولتهم في اليوم العاشر من المحرم تبطل البيع والشراء وتعطل الأسواق ويجتمع أهل النوح والنشيد ويطوفون بالأزقة والأسواق ويأتون إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة وغيرهما وهم نائحون باكون ويمضون إلى الجامع الأزهر أو إلى دار الخليفة، ولربما حضر الخليفة وهو حاف وعليه شعار الحزن فيقرأ مقتل الحسين (ع) ثم ينشد الشعراء ما قالوه في الحسين وأهل البيت (ع) إلى أن ينتصف النهار فيدعى الناس إلى مائدة الخليفة، ولا تكون المائدة كموائد الأعياد من فرش أحسن البسط واختيار أنفس الأطعمة وتوفر الألوان وغير ذلك من مظاهر الملوكية وأبهة السلطة، بل تفرش الحصر ويمد سماط الحزن ويغير لون الخبز عمداً، ويجعلون على السماط ألباناً وجبناً وعسلاً وأمثال ذلك، ثم يخرجون بعد تناول الطعام على تلك الهيئة التي كانوا عليها من النوح والبكاء ويستمر الحال إلى ما بعد العصر) ولقد نشط قرّاء المقتل في عملهم، يدفعهم عشق الولاء لأهل البيت (ع) والحب لخدمة الحسين (ع) مستفيدين من جيل الرواد الذين سبقوهم، ومحاولين في الوقت ذاته تحسين مستوى خطابهم والإطلاع على أحوال آل البيت واكتساب المعرفة من أحاديثهم والإلمام بثقافة القرآن والسنة النبوية، لمواجهة الدعايات المضللة التي راحت تشنها القوى الحاقدة إذ أخذت تجوب شمال إفريقيا بالذات لبث سمومها وتشويه صورة الإسلام الناصعة.وعلى أثر مجيء الصفويين إلى الحكم في إيران في بداية القرن السادس عشر الميلادي وإعلان المذهب الشيعي الإثنا عشري مذهباً رسمياً للبلاد (قامت الاحتفالات بيوم عاشوراء في كل عام ثم تطورت مراسم العزاء خلال القرن التاسع عشر وانتشرت في جميع أنحاء إيران) وبعد إيران التي تأثرت مجالسها بمراسم العزاء في العراق انتشرت مجالس العزاء الحسيني وبكثافة وامتدت إلى الهند وآذربيجان التركية والأناضول... لكن ذلك لم يكن أمراً سهلاً وهيناً إذ واجه المنبر الحسيني عراقيل وصعاب ليس في البلاد البعيدة فحسب، بل في العراق أيضاً (خلال حكم السلاجقة والعثمانيين حيث أصدر الولاة في العراق مراسم لمنع أو تحريم أو التضييق على مراسم العزاء الحسيني مما أجبر شيعة بغداد على أن يقيموا مجالس التعزية في بيوتهم ولكن بصورة سرية، خوفاً من السلطات العثمانية خصوصاً في بغداد والكاظمية) ومع حقد الأتراك وتطرفهم ومحاولتهم فرض السطوة على الفكر الشيعي، قاوم المسلمون في العراق ببسالة، ومضوا يمارسون الشعائر الدينية وإقامة العزاء في شهري محرم وصفر على نفس الوتيرة السابقة أو أقل منها أحياناً.. وكردّ فعل مباشر على كل تلك المضايقات قام الشيخ فخر الدين الطريحي (ت1085هـ) بتأليف كتاب (المنتخب) متبعاً أسلوباً جديداً من أجل تطوير المنبر الحسيني وتحديد مهامه وتوزيع المجالس حسب الليالي.. إذ أورد في كل ليلة أو مجلس قصيدة شعرية تناسب المقام وتتناول مصيبة تلك الليلة، وما يزال الخطباء يرجعون إلى ذلك الكتاب حتى يومنا هذا.ولقد ساعد على تطوير مراسم العزاء الحسيني وتشجيع أنصار الحسين على المضي قدماً في إقامة طقوسهم وكسر الحصار المفروض عليهم، تقاعس الأتراك عن حمايتهم، وظهر ذلك جلياً إثر هجوم زمرة الوهابيين الحاقدة على الإسلام والمسلمين على كربلاء والنجف (1802- 1804م) واستباحتهما وإضرام النار في ضريح الإمام الحسين (ع) ونهب ما فيه من نفائس وكنوز ثمينة، مما ترك آثاراً كبيرة وأليمة، ألهبت حماس الخطباء والشعراء وألهمتهم خطباً وقصائد ومراثي عبرت عن شعورهم بالغضب..(وكان بعض الشعراء والخطباء قد اعتبروا هجوم الوهابيين على كربلاء يماثل ما جرى في كربلاء من قتل وتشريد حين هجم جيش الأمويين على الإمام الحسين وأهله وصحبه يوم عاشوراء، وإن هذه الحادثة هي إعادة لمأساة كربلاء من جديد.. ) وطوال خمسة عشر عاماً تابع المنبر الحسيني نشاطه دون توقف رغم كل محاولات السلطة العثمانية من منعه أو التقليل من مجالس العزاء، وخلال حكم الوالي العثماني داود باشا (1817-1831م) جرت محاولات عديدة للتضييق على مراسم العزاء الحسيني أو منعها، لاعتقاده بأن العزاء الحسيني هو إحدى وسائل الدعاية التي تقوم بها الدولة الإيرانية ضد الدولة العثمانية (وفي تلك الفترة اضطر شيعة بغداد إلى إقامة مجالس التعزية في السراديب بعيداً عن العيون والرقباء والأسماع كما اضطروا إلى ترك امرأة تدير الرحى في صحن الدار لكي لا يسمع المارة في الشارع صوت من يقرأ التعزية) وبقي الحال كما هو عليه حتى انعقاد صلح عام (1821م) بين داود باشا والحكومة الإيرانية، فانتهز البعض هذه المناسبة فأقاموا مجالس العزاء علناً.. وكان الشيخ موسى كاشف الغطاء أول من اقام مجلس عزاء في داره بالنجف الأشرف. وكان الشيخ محمد نصار النجفي المتوفي عام (1824م) أول خطباء وشعراء المنبر الحسيني الذي أقام في داره مجلس العزاء الحسيني وقرأ بنفسه التعزية.(ويعتبر الشيخ نصار النجفي من أشهر شعراء المراثي الحسينية في وقته وقد بقيت مراثيه التي كتبها باللغتين الفصحى والعامية الدارجة حتى وقت قصير تتداول في مجالس التعزية في العراق من قبل الخطباء والقراء، كما أصبحت نموذجاً فلكلورياً قلّده عدد كبير من شعراء المنبر الحسيني فيما بعد) وفي سنة (1831م) أصبح علي رضا والياً على العراق وكان بكداشياً متصوفاً يميل إلى التشيع، فمنح انصار الحسين (ع) الحرية في إقامة طقوسهم الدينية، وجرّاء ذلك تطورت مراسم العزاء ونمت بسرعة وأخذت تقام بصورة علنية ومكثفة (وحضر الوالي شخصياً أحد مجالس التعزية الذي أقامته إحدى العوائل الشيعية في بغداد يوم عاشوراء (21/3/1831م) كما كان يستمع إلى الشاعر صالح التميمي وهو يلقي عليه قصائد يرثي بها الإمام الحسين (ع) في شهر محرم من كل عام) انتشرت مجالس العزاء في العراق وتنوعت، وكان للمنبر الحسيني دوره المتميز والفاعل في تأجيج المشاعر وإلهاب النفوس، وشحذ الهمم والدعوة إلى مقاومة الظلم والعدوان، والثبات أمام كل التحديات.. وإذا اقتصرت مجالس العزاء الحسيني على شهري محرم وصفر من كل عام وبخاصة يوم عاشوراء، فإن المنبر الحسيني ظل وما زال طوال العام مستمراً بشتى المناسبات الدينية والاجتماعية لشرح مأساة الطف الدامية، التي شكلت في الحقيقة أول مأساة في الإسلام باعتبار كل يوم هو عاشوراء وكل أرض هي كربلاء.ولأن الحسين الشهيد (ع) كان وسيبقى يمثل الصراع الدائم بين الحق والباطل كانت المنابر الحسينية وما تزال الهاجس المرعب الذي يقض مضاجع الطغاة والظالمين، لذا ما أن حل الوالي الجديد لبغداد مدحت باشا حتى فرض أوامره الصارمة بمنعها، لكنه جوبه بالرفض التام من قبل قطاعات الشعب الفاعلة ورجال الدين الذين أفتوا ضده فلم يجد بداً من التراجع (حاول الوالي مدحت باشا منع مواكب العزاء وهدد بمعاقبة كل من يقيمها، غير أنه اضطر إلى إلغاء ذلك المنع بسب الاحتجاجات العديدة التي أبداها أهل بغداد وتدخل الباب العالي.. ) ولم تعد مراسم العزاء الحسيني وطقوسه ظاهرة دينية شعائرية فحسب، وإنما غدت ظاهرة اجتماعية سياسية شعبية لها خصوصية وفرادة في العالم الإسلامي.. ولأنها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمأساة الطف وبتاريخ الحزن والشهادة اتخذت بمرور الزمن معنى وخصوصية لدى أبناء العراق وسمة من سمات شخصية المسلم في الوسط والجنوب وغدت من أهم التقاليد والموروثات الدينية لديهم.. وبسبب إدراكه أهميتها، كونها لعبت وتلعب دوراً هاماً وفعالاً في المعتقدات الروحية للإنسان المسلم، حيث تخلق أجواءً دينية وثقافية يمكن توظيفها اجتماعياً وسياسياً في المناسبات الدينية، عمل الشيخ كاظم السبتي (ت1374هـ) في أواخر القرن الهجري الماضي على وضع منهجية جديدة للمنبر الحسيني لتواكب مسيرة تطوره وتحافظ على خصوصيته.. وذلك بتحديد وتثبيت الأسس المتينة في بناء المدرسة المنبرية الحديثة، ولقي منهجه صدىً طيباً لدى الخطباء..ومنذ احتلال الإنكليز للعراق عام (1917م) تغير الموقف، وحل في نفوس القائمين على المواكب الحسينية الشك والريبة في خطط ونوايا المستعمر، الذي أظهر وجهين متناقضين في آن واحد، ففي الوقت الذي أخمد انتفاضة الشيعة، وثورة العشرين الباسلة، بالحديد والنار وحاصر مدينة النجف، وأعدم قادة الثوار فيها، ونفى آخرين إلى مستعمراته البعيدة، وجد نفسه مضطراً للانحناء أمام العاصفة (اتبع الإنكليز سياسة الترغيب والتحبيب فأخذوا برعاية المواكب الحسينية بصورة خاصة وأجازوا إقامة المآتم والسبايا) ولم تكن الجماهير الثائرة بحاجة إلى إجازة ورعاية، إذ شهدت مدن العراق الرئيسية وبغداد بالذات قيام مواكب العزاء بوتيرة عالية وثوب جديد.. (وأخذت مواكب العزاء تقيم مراسمها في ساحة الصحن الكاظمي وفي جامع الخلاني ببغداد) إن الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني للعراق كان قد ساعد على رفع روح التضامن والأخوة بين الفرق والطوائف الدينية في العراق وبصورة خاصة بين الشيعة والسنة (بحيث أخذت بعض العوائل السنية تقيم مجالس التعزية في بيوتها) وفي عام (1921م) وعند تأسيس الحكومة العراقية الأولى أعلن يوم عاشوراء عطلة رسمية لأول مرة احتفاءً بذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) وسمح بإقامة مراسيم العزاء الحسيني..وفي العام (1935م) حاولت الحكومة العراقية منع مواكب العزاء غير أنها فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً.. إذ إن وحدة الرأي وتكاتف أنصار الحسين الذين تتلمذوا على يديه، وأخذوا من مدرسته المعين الذي لا ينضب عطاؤه دروس الفداء والاستقامة والصبر والشجاعة، وجعلتهم تواقين إلى الحرية والإباء ولا يخضعون لأي حكم ظالم، أفشلت كل قرارات المنع، وجعلت لواقعة الطف الحضور الدائم في حياة العراقيين الثقافية والاجتماعية والنفسية..إن وجود خطباء من الطراز الأول يعملون على مدار السنة يغذون الأبناء بحب آل البيت (ع) ويذكرونهم بفداحة المصاب وعظم الرزية وبوحشية بني أمية، جعلت من حادثة الطف التاريخية واقعاً حياً ملموساً وكأنها تحدث كل عام، وحفزتهم على الاقتداء بالحسين وأصحابه الذين استشهدوا معه، وعلى استيعاب معاني الثورة الحسينية واستلهام روح النضال والكفاح والتضحية منهم..ولما كان المنبر الحسيني من أهم العوامل المؤثرة في شخصية العراقي، لاستنهاض هممه، إذ وفر للكثير من الشباب والكبار فرصة ذهبية لتلقي الثقافة الدينية والتاريخية وفي إبراز فضائل الأئمة (ع) ومناقبهم، والتذكير بما حل بهم من مآسي والتعرف على أبطال الإسلام وعظماء الرجال، وكان له الفضل الأكبر في حفظ تماسك المجتمع، وإشاعة روح الفضيلة والإصلاح والتقوى في نفوس المسلمين.. كان الواجب يقتضي دائماً التفكير في تطويره ودفعه قدماً إلى الأمام.وفي عام (1965م) حاولت حكومة عبد السلام عارف منع إقامة العزاء الحسيني، ومصادرة كلمة الحسين غير إنها جوبهت بإرادة حديدية وعزيمة قوية، أفشلت خططها، وفي عام (1966م) سمحت حكومة عبد الرحمن عارف بإقامة العزاء الحسيني، وأظهرت تسامحاً في ذلك (وبثت إذاعة بغداد صبيحة يوم عاشوراء نصاً كاملاً لمقتل الحسين (ع) بصوت القارئ الشهيد عبد الزهراء الكعبي في محاولة لاستمالة الجمهور واحتواء مشاعره) لعب المنبر الحسيني الدور الأبرز في تاريخ العراق الحديث وفي فترات الاضطراب السياسي والقلق الاجتماعي، حيث تدخل الخطباء والجماهير الحسينية في دعم القوى الوطنية الفاعلة، وكذلك الحركات والأحزاب الدينية والسياسية، وكان يحرك الشارع ضد الطغاة من الحكام، لذلك عمل النظام ومنذ سيطرته على الحكم في انقلاب (1968م) على تحدي الشعور الديني والشعبي، وحاول الالتفاف على العزاء الحسيني ومنعه، واتخاذ إجراءات حازمة وقاسية ضد كل من يخالف أوامره، وجرى الضغط على القائمين بمراسيم العزاء وقام بتدابير وإجراءات غاية في الوقاحة والتعسفية لتقييد حريتها، ومنع المسيرات الشعبية، وبلغت ذروتها في عام (1977م) حين تحدت الجماهير أوامر السلطة واتجهت إلى كربلاء مشياً على الأرجل (وسرعان ما تحولت المسيرة إلى تظاهرة شعبية عارمة واصطدمت مع الشرطة، وعندما وصلت المسيرة إلى منتصف الطريق الذي يربط بين النجف وكربلاء اصطدمت بالجنود الذين صوبوا بنادقهم نحوها، مما أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى واعتقال مئات الأشخاص، كما ألقي القبض على عدد من علماء الدين.. ) ومع كل ما حصل لم يتوقف المنبر الحسيني عن أداء دوره في السنوات السابقة رغم التضييق والحصار وأحكام الإعدام التي طالت العشرات من رجاله.وهكذا انتشرت المنابر الحسينية ولأول مرة في التاريخ بشتى أنحاء المعمورة ابتداءً من استراليا حتى الولايات المتحدة بفضل أبناء الرافدين المهجرين والمهاجرين، وعلى عكس ما سعى يزيد وأئمة الكفر إلى محو صورة آل البيت وطمر تراث الحسين، فبقي وزالوا، ومُدح وذموا.كريم علي فياضاشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha