( بقلم : عبد الرزاق السويراوي )
لا شك بأنّ الأوضاع المتأزمة في الساحة العراقية , يصعب معها , على المراقب , التكهّن بما ستؤول إليه الأوضاع وما ستفرزه من تطورات لاحقة ’ سلباّ كان أم إيجابا . ولكن هذا لا يمنع من القول وبكل ثقة ,أنّ معظم الذي جرى ويجري من تصاعد في وتيرة الأحداث , هو مرهون بوضع الملف الأمني , وما دون ذلك من الجوانب الأخرى رغم أهميتها وموقعها في سلم قاموس القضية العراقية , فأنها مرتبطة ومتأثرة بشكل أو بآخر بدرجة سخونة هذا الملف وتداعياته . من هنا , فأن مسألة الملف الأمني , ليس بمستغرب إذا ما أصبحت تشكّل هاجسا حساسا ومهمّا يؤرّق ليس عموم المواطنين العراقيين وحدهم فحسب , بل هي أثارتْ قلق وإهتمام جميع الحكومات التي تعاقبت على السلطة بعد السقوط في 2003 وبرز ذلك بشكل أخص في حكومة السيد المالكي . وفي ذات الأتجاه أيضا , فان هذه القضية ــ الملف الأمني ــ فرضت نفسها بقوة وما زالت على أولويات إهتمامات الإدارة الأمريكبة في المنطقة , خاصة إذا ما علمنا بأنّ مجلس الأمن , سبق وأن قام بإصدار قرار ألزم بموجبه القوات المتعددة الجنسيات , بتوفير الحماية اللازمة لأرواح وممتلكات الشعب العراقي وضمان السلامة لأبناءه .
في الواقع أن نظرة بسيطة للواقع الأمني السائد في العراق , تشير بوضوح الى حالة التردي الأمني وتصاعد أعمال العنف التي باتت تهدّد بإزهاق الكثير من الأرواح البريئة . وبالرغم من كل الجهود التي بُذلتْ وتُبذل من قبل الحكومة , للحيلولة دون وقوع المزيد من هذه الأعمال , نجد أنّ كلاّ من الحكومة العراقية وكذلك الإدارة الأمريكية , يلقي بما في حوزته من تبريرات , لما يحدث من تفاقم خطير في الأوضاع الأمنية قد يكون البعض منها مقبولا وله مسوّغاته المقنعة بينما البعض الآخر ليس كذلك بالتأكيد , الأمر الذي يصل أحيانا الى أنّ كلّ طرف , سواء من الحكومة العراقية أو من مجلس النواب وبعض الشخصيات السياسية الأخرى من جهة , أو من الأدارة الأمريكية ومعها القادة الميدانيين للقوات المتعددة الجنسيات من الجهة الأخرى , بات يحمّل الطرف الآخر , تلميحا أو تصريحا , جزءاً من مسؤولية ما يجري من تداعيات أمنية خطيرة , لذا فأنّ الشهر الحالي ( كانون أول) شهد الى جانب هذا التصاعد في أعمال العنف , تحركاً سياسياً واسعاً من أكثر الأطراف , وإنْ كان في الواقع جاء متأخراً ولا يتناسب مع حجم التحديات المهولة . فالرئيس جلال الطالباني قام بزيارة مهمة الى إيران تصب في هذا الإتجاه ونوّهت عنها أوساط مقربة بأن العراقيين سيقطفون ثمارهذه الزيارة في غضون الأسابيع القليلة المقبلة . الحدث الآخر وهو الأهم , والذي أستقطب إهتماما خاصا , هو لقاء القمة بين رئيس الحكومة السيد نوري المالكي وبين الرئيس جورج بوش في الأردن , وقد حمل المالكي رؤية معينة للقضية العراقية طرحها للنقاش وأُعلِن عقب إنتهاء هذه المباحثات أنّ المالكي استطاع إحراز موافقة الأدارة الأمريكية على بعض النقاط المهمة لعلّ أبرزها : تسليم الملف الأمني بيد القوات العراقية وقد يتم ذلك في شهر حزيران من عام 2007 , نقل مهمة تدريب القوات العراقية الى العراقيين , نقل غرفة العمليات الأمنية الى الجانب العراقي مع ضرورة الإشارة الى مناقشة بناء وتطوير الجانب التسليحي للقوات العراقية .
ولكن على ما يبدو أنّ قضية إنسحاب القوات المتعددة الجنسية لم تأخذ إستحقاقاتها المناسبة في هذه المفاوضات , بل على العكس من ذلك , حيث تمّ تمديد بقاء هذه القوات لعام جديد آخر . إضافة الى ذلك فقد توافدت الى الأردن وبالتزامن تقريبا مع تلك المحادثات , بعض الشخصيات القيادية العراقية التي تمثل مختلف الكتل السياسية في العراق .
وبعيداً عن كل هذه التحركات السياسية التي يأمل العراقيون منها حدوث بعض الإنفراج في الملف الأمني , في المستقبل القريب إذا ما وُضعت في حيّز التطبيق , فأن هناك , وعلى مسار آخر يجري الأعداد لتوصيات من قبل لجنة " مجموعة دراسة العراق " أو ما درجت على تسميتها وسائل الاعلام بـ : لجنة بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والتي شكلها الكونغرس الأمريكي من 10 أعضاء : 5 من الديمقراطيين و5 من الجمهوريين مع تخصيص 40 خبيرا ستراتبجيا مختصا يعملون على تقديم المقترحات والدراسات لهذه اللجنة , وقد قام هؤلاء الخبراء في يوم 18 من أيلول الماضي بطرح بعض المقترحات كان من بينها طرح خيارين أمام اللجنة , الخيار الأول يوصي بضرورة توفير الإستقرار في بغداد أولاً مع بذل الجهود المكثفة والواسعة مع " المتمردين " ويدعو الخيار الثاني الى سحب تدريجي للوحدات العاملة . وكانت هذه اللجنة قد بدأت أعمالها في نيسان الماضي مركّزة على سياسة الولايات المتحدة والوضع في العراق . وجدير بالأشارة الى أنّ تشكيل هذه اللجنة تمّ بسياق من خارج الأدارة الأمريكية الحاكمة وإن كان بموافقتها , لذا فأن تشكيل هذه اللجنة ووفقا للسياق المذكور , يُعدّ الأوّل من نوعه في تأريخ الإدارات الأمريكية السابقة ,ويرى بعض المراقبين أنّ هذا يعني بأنّ الإدارة الأمريكية أو الكونغرس الأمريكي قد توصلا الى قناعات تدلل على أنّ معظم ما قامت به الأدارة الأمريكية من إجراءات وممارسات بشأن القضية الأمنية في العراق , أوصلها الى طريق وعرة وغير سالكة , ممّا إضطرها للبحث عن بدائل إخرى للخروج من هذا المأزق , حتى وأن كانت هذه البدائل تتقاطع مع بعض الثوابت التي يتمسك بها المحافظون الجدد , وهذا في حدّ ذاته تبدّل واضح في إتجاهات الخطاب السياسي للمحافظين الجدد ولا تريد الأدارة الأمريكية الإفصاح عنه وتتجنب ذلك بقدر ما تسمح لها به الضرورة والظروف الأخرى .من هنا وإضافة الى ما ذُكر , فأنّ بعض المتابعين يستنتجون مما دار في أعمال هذه اللجنة من مقترحات ودراسات بأنها " تتحرك صوب الموقف الوسطي بالنسبة للقضية العراقية" وتحاول تجنب ما أمكن , الكثير من الآراء المتطرفة فيما يختص بالحوار العراقي , الأمر الذي يرى فيه المحللون , أنّه يثير حفيظة بعض المحافظين الجدد , خاصة إذا ما عرفنا بأن الأربعين خبيرا في لجنة بيكر , ليس من بينهم أكثر من أثنين من المحافظين الجدد , لذا فأن أحد المحافظين صرّح علنا بأنّ هذه اللجنة " إصطفّت ضدهم" .
على العموم , أنّ لجنة بيكر وبالرغم من أن أعمالها أحيطت بنوع من السرية , لكن بعض حواراتها ومقترحاتها بشأن الأمن في العراق قد تسرب بعضها ومن بينها : إنقسام إعضاء هذه اللجنة بخصوص الستراتيجيات المطلوبة من الأدارة الأمريكية , وبالذات المقترح الذي تقدم به الديمقراطيون الذين فازوا في الإنتخابات الأخيرة والذي يرجّح إنسحابا " ممرْحلاً" من العراق , وكذلك ترى هذه اللجنة , وعلى خلاف ما تراه الإدارة الأمريكية , ضرورة إقامة حوار مفتوح مع الحكومتين السورية والإيرانية وتوصي الإدارة الأمريكية على إعادة النظر بهذا الشأن, حيث قامت هذه اللجنة , فعلا بإجراء لقاء مع وزير الخارجية السوري وأيضا إلتقت بالسفير الإيراني لدى الأمم المتحدة . ومن المؤمل أنّ ترفع لجنة بيكر توصياتها في السادس من الشهر الجاري وقد تسرب عن هذه التوصيات بأنها توصي بسحب " السواد الأعظم للقوات الأمريكية بحلول عام 2008 .
أخيراً ربما يكون الحدبث عن توصيات لجنة بيكر قبل صدورها سابقا لأوانه , لكنني أرى بأنّ هذ ا الحديث , ربما سيثير لدى المواطن العراقي الذي يبحث عن الأمان , تساؤلا مفاده ...وماذا بعد ؟؟ أليس من المفروض أنْ تكون مفاتيح هذه الفتنة العمياء وهذه العقدة البغيضة , بيد العراقيين .. وهل يعجز العراقيون حقّا عن بناء بيتهم العراقي ولا يستطيعون الإتيان بحلول ناجعة والتي يفترض بها أنْ تنبع من صميم المشكلة , إنْ كانت هناك مشكلة حقاً , ومن صميم الواقع العراقي , بدلاً من أنْ تأتي هذه الحلول من الخارج , هذا السؤال أطرحه على كلّ العراقيين , وخصوصا مَنْ بإمكانهم الإسهام في ذلك , إذا ما أرادوا فعلا مصلحة العراق والعراقيين , فهم المعنيون بالأمر دون سواهم .
https://telegram.me/buratha