سعد منصور
ما زالت الأزمة السياسية الراهنة التي يمر بها العراق تصنف ضمن الابتلاءات الضارة النافعة ، ووجه النفع فيها كونها اداة ممتازة لكشف المزيد من العلل الجوهرية الخطيرة في المسيرة السياسية التي يمكن ان تصنع أزمات اخرى فيما اذا خرج العراق سالما من الازمة الراهنة ، أحد القضايا الجوهرية التي كشفتها الازمة هو تغييب واضعاف وتركيع أحد اكثر الاحزاب العراقية مصداقية وعراقة وجماهيرية وهو حزب الدعوة الاسلامية الذي التصق اسمه بالشهيد الصدر وحشد من العلماء الاجلاء والمثقفين الرساليين ، بل اصبح تاريخه ملخصا لحقبة نادرة من العطاء والاقدام والتضحيات في حياة الشعب العراقي ، وقد مر الحزب في المهجر بحالات من الخلافات والانشقاقات والتدابر بين اشخاص معروفين الا ان تلك التطورات كانت مفهومة ولها ظروفها ، ولكن بعد سقوط نظام صدام ودخول حزب الدعوة الى دائرة التجريب السياسي اصبح كل شيء في هذا الحزب تحت طائلة الامتحان العسير ، الرموز القيادية والاهداف الرسالية والوسائل والسياسات والقدرة على ادارة السلطة ، وقد اسفر هذا الامتحان الذي مازال مستمرا عن حالات كثيرة غير متوقعة من الرسوب والتلكؤ والعجز ، واذا كانت الانشقاقات المهجرية محتملة ومبررة لأن الحزب واقع تحت ظروف قاهرة فان حالات الفشل الحالية غير مبررة لأنه يعيش حرا طليقا حاكما غير محكوم ، ويمكن تقسيم حالات الفشل الدعوي الى مرحلتين مرحلة التعامل مع السلطة ومرحلة التعامل مع الانتخابات ونتائجها ، ففي امتحان السلطة وقع الحزب تحت هيمنة المجموعة ، التي تعاملت مع السلطة كهدية شخصية دون الشعور بوجود الشركاء وبذل جهود كبيرة لزج اتباع الحزب ومؤيديه او من يعتقد انهم مؤيدون في مختلف الدوائر التي يجب ان يتبع فيها التوازن والتكافؤ في تقسيم المواقع والوظائف ، ومن اللحظة الاولى اصبح بوسع من يتابع تلك التصرفات ان يكتشف بصمات المجموعة الصغيرة تهيمن على القرار الحزبي ، فالمعروف ان الحزب العريق الذي يعتز بقواعده وشركاءه وتاريخه لا يمكن ان يتحول الى طرف يفكر بمكاسبه الاسمية ويتهافت عليها بطريقة استحواذية غير لائقة تنسف وقاره القديم وتحول انوار تاريخه الى ظلام دامس ، تلك الطريقة في الهيمنة واقصاء الآخرين دلت بشكل مؤكد على ان حزب الدعوة لم يكن منذ سنة 2003 وحتى الآن حزبا يعمل بمعايير تنظيمية ، فالمعروف ان الحزب الحقيقي لديه رسالة وأهداف وسياقات عمل ولديه آليات ومواقع قيادية واضحة مثل الأمين العام والامانة العامة واللجان العاملة ، ويمتلك الحزب عادة آليات للمراقبة والمحاسبة ، ولديه دورات انتخابية داخلية لاتزيد الدورة عن ثلاث سنوات يتم فيها انتخاب امين عام جديد واعضاء امانة عامة ويتم فيها التجديد والتأكيد على الانظمة الداخلية والادبيات . وفي حزب الدعوة اتضح عمليا عدم وجود هذه المواقع والاليات والانظمة ، فلم نسمع ان الحزب دعا جمعيته العامة لاي انتخابات ، ولم نسمع ان ولاية امين عام انتهت ليبدأ امين عام جديد ، ولم نطلع على بيانات اونشاطات تنظيمية توضح فعاليات الحزب او قراراته . وقد اتضحت هذه الامور اكثر وتحولت الشكوك الى يقينيات بعد الانتخابات التشريعية وما اعقبها من أزمة سياسية وخلافات ونقاشات حيث ان تمسك السيد نوري المالكي كمرشح وحيد لرئاسة الحكومة المقبلة ادى الى مضاعفات خطيرة تهدد العراق ، ولو كان هناك حزب حقيقي يقف وراء الرجل لما سمح له بالذهاب اكثر في هذا اللجاج الخطير ، وقراءة بسيطة لكيفية تعاطي السيد المالكي مع موضوع الترشيح تكشف ان الصراع يقوده شخص اتخذ قرارا فرديا ويصر على عدم التنازل ، شخص وحيد وسط صحراء قاحلة مخيفة من التفرد والتشدد والاصرار وفقدان الرؤية اللازمة لتشخيص الآثار الخطيرة لموقفه المعاند من التدهور الامني وعودة العراق الى المربع الاول ، وشق الصف الشيعي وتحويل هذا المكون من التمثيل السياسي الموحد الذي يضمن انسيابية في تشكيل الحكومة وتكوين تحالف قوي الى حزبين غير متفقين حيث يقود المالكي بنفسه عملية تحريك نقاط خلاف لا نهاية لها مع الائتلاف الوطني ، كما شجع هذا السلوك التدخل الاجنبي بحجة مساعدة العراقيين على حل مشاكلهم ، ناهيك عن فقدان النخبة الشيعية كثيرا من ثقلها الجماهيري بسبب هذا النوع من الاداء المتوتر الحافل بالخلافات والعناد وعدم التسامح ، هذا المظهر المأزوم يدل على ان الذي يقف وراءه شخص وليس حزبا فالمعروف ان الاحزاب التي تصل الى السلطة بآلية الانتخاب والمشاركة تستوي عندها عملية تشكيل الحكومة أو عدم المشاركة في تشكيلها ،
بالعكس قد يهرب الحزب من المشاركة في الحكومة لانه يريد الانتقال الى مقاعد المعارضة البرلمانية وكثير من الاحزاب العريقة المجربة في الغرب تستغل فترة العمل في المعارضة من اجل اعادة نشاطها التنظيمي في اوساطها الجماهيرية وانعاش ثوابتها الستراتيجية ومنازلة احزاب السلطة عبر الرقابة البرلمانية والنقد والمحاسبة وتأكيد دور المنافح عن مصالح الشرائح المختلفة بحيث يعيد الحزب بناء الثقة في اوساطه وتحديث آلياته استعدادا لمعركة انتخابية مقبلة ، أما ان يصر حزب على مرشح لرئاسة الوزراء اصرارا يؤدي الى كل هذه التداعيات الخطيرة انما هو دليل واضح على عدم وجود حزب بالمعنى المعروف لما تعنيه كلمة حزب انها مجموعة أصدقاء يحيطون بشخص صاحب قرار ويباركون قراراته ويتقاسمون الغنائم ، قبل اشهر قيل أن هناك اتجاها معينا داخل حزب الدعوة له رؤية مختلفة بشأن مواقف السيد المالكي واصراره ، وقد كان الخبر سارا ليس لأنه يتعلق بموضوع المالكي بل لأنه يؤكد ان حزب الدعوة يعمل بآليات صحيحة وهو حي لم يمت بعد ولكن بعد حين تبين ان ماقيل ليس صحيحا فعادت مشاعر الخيبة تهيمن على المفجوعين بفقدان الدعوة ، ولو كان حزب الدعوة موجودا بالفعل للمس الناس وجود قرار سياسي متنوع له طابع الاعتدال والبراغماتية و عدم الاصرار على وضع معين واحترام الحلفاء والشركاء وسعة الافق . سيظل العراقيون يراقبون جولات السيد نوري المالكي في الملاكمة السياسية وهم يسألون بلهفة : ولكن اين حزب الدعوة ؟؟؟
https://telegram.me/buratha
