المقالات

خواطر عراقي حاير – الجزء الأول


جاسم السعيدي

يتعجب المرء من كل هذه الأحداث القاسية والأليمة التي تقع على العراقيين منذ بداية القرن الماضي على الأقل ولحد الآن، وهنا لا أريد أن أقول بأننا فقط من يقاسي من بين شعوب المنطقة أو العالم ، ولكننا قد نكون من أكثرهم معاناة ،، لدرجة أننا لم تشفع لنا الطفرة النفطية الهائلة التي تنعمت بها شعوب المنطقة لنحيى بها مثل ما تحيى تلك الشعوب من ترف وبذخ ورفاهية ،، بل انكفئنا وتقهقرنا وعدنا كثيرا إلى الوراء اجتماعيا واقتصاديا ودينيا واخلاقيا ،، ولكن هل تسائلنا يوما بتجرد وموضوعية عن الأسباب وراء هذا الواقع الأليم والتقهقر المستمر ،،

إن أول خطوة بهذا الاتجاه تتطلب منا مكاشفة أنفسنا بتركيبتنا الاجتماعية والدينية والأخلاقية والنفسية على الأقل ، أما الخطوة الثانية فهي مقارنة مجتمعنا بالمجتمعات المحيطة بنا لاكتشاف مكامن الضعف والقوة ، أما الخطوة الأخيرة فهي معالجة أو تصحيح أسباب هذا الواقع المرير،،

وليس خافيا على أحد أن المجتمع العراقي مكون من قوميات عديدة وطوائف كثيرة ، وكان يمكن لهذا التنوع أن يكون عامل قوة لا عامل ضعف ، ولكن لماذا تحولت هذه الميزة إلى نقمة وبلاء ، بدلا من أن تكون سبب نعمة وتقدم ورخاء ، وهنا يجدر أن نذكر ما يلي:

1. كانت مكونات المجتمع العراقي متناغمة متجانسة تكاد لا تشعر بتناقضاتها بسبب انسجامها العالي ، حيث كان يمكن ملاحظة ذلك في المناطق المتداخلة طائفيا ودينيا مثل بغداد والبصرة والموصل وكركوك وغيرها ، رغم أن الارث التاريخي للعراق يناقض هذا الانسجام نظرا لكثرة ما وقع بين هذه المكونات من الأحداث التاريخية التي لم تكن تسمح بهذا الانسجام العالي ، وقد يكون مرد هذا الانسجام إلى حالة البؤس والفقر المشتركة التي كنا نعانيها أو بعض الرفاه المشترك الذي أصابنا يوما ما ،، ولكن ما كان غائرا في القلوب لم يكن لتمحيه هذه المشتركات المادية ، فالفتنة نائمة لعن الله من أحياها كما قال الرسول محمد صلى الله علية وآله وسلم ، ولنكن صريحين مع أنفسنا فقد كان العربي يشعر في صميمه بالتفوق على الكردي والكردي يشعر بتفوقه على العربي المتخلف والشيعي يشعر بالغبن والظلم التاريخي من السني والسني يكفر الشيعي وكان الجميع يسخر من الجميع بل حتى داخل الطائفة الواحدة ترى نزعة التفوق والسخرية من الأدنى ، ولم يكن المجتمع حقيقة يشعر بالمساواة ولم تكن الطبقات الأعلى من هذا المكونات لترتضي أن تساوى بالأدنى كما ان الأدنى لم تفعل شيئا لتزيل عن نفسها الظلم والحيف والتخلف الذي أصابها وتجذر فيها ، وهكذا ما إن وجد من استخدم التمييز الطائفي والعرقي للمحافظة على سلطانه حتى تفتقت جروح الماضي الغائرة لدى البعض حتى وصل بهم الأمر الآن أنهم مستعدون للتحالف مع الشيطان لمحو وسحق الآخر أو إخضاعه كما هو حال الأخوة السنة تجاه الشيعة وتجاه الكرد لاحقا "كما أتوقع" ، أو محاولة الهروب والتخلص من الآخر كما يفعل الأخوة الأكراد ، أو التفكير بالانفصال الجزئي كما يحاول الشيعة.

2. الارتباط العقائدي لهذه المكونات بالخارج وتأثير هذا الخارج على هذه المكونات بل واستخدامها وتوظيفها وتوجيهها لخدمة مصالحه واهدافه وسياساته ، فالسعودية بما تحمله تركيبتها الوهابية تريد فناء الشيعة وقتلهم لعدة أهداف منها ما هو مرتبط بالسعودية كنظام وعقيدة ومنها ما هو مرتبط بأجندة أقليمية أو عالمية تعمل السعودية على تنفيذها وهي لهذا الغرض تستخدم أهل السنة في العراق كرأس حربة لها ، وقد التقت مع بعض هذه أهداف الأردن التي تعمل لتحقيق أجندة صهيو-أميريكية ، وتركيا بجناحها السني المتشدد وسياساتها الخارجية التي تبحث عن دور إقليمي أكبر لتعويض عدم انضمامها إلى المجموعة الأوربية و لتأمين نفوذ يضمن سوقا مفتوحة لصناعاتها و لمنع استقلال الأكراد، وسوريا التي تعيش تناقضا بين شعاراتها القومية وممانعتها للتسوية مع إسرائيل وبين بحثها عن دور أكبر من حجمها الحقيقي ولو على حساب الحفاظ على الأواصر القومية وعمقها الاستراتيجي الذي يقوي منعتها وموقفها امام العدو ، ومصر التي بحثت عن دور القيادة والوصاية على شقيقاتها في صراعها مع العدو الإسرائيلي ثم مالبثت أن تنكرت لذلك الدور تماما وغيرت اتجاهها 180 درجة لتؤدي دور عراب التخاذل والاستسلام ، أما الكويت وقطر والبحرين والإمارات فما بين حقد دفين وشعور بالنقص "ليس ضد العراق وحده" ومحاولة لعب دور أكبر من الحجم الطبيعي ، وإيران التي تعمل على أجندة خاصة لا تسمح بإضغاف الشيعة وتجمع ما بين نفوذ اقتصادي وديني وسياسي مباشر بالعراق يسمح لها تعزيز موقفها في المواجهة مع أعدائها الإقليميين والدوليين.

3. جنوب العراق في مجمله يعيش حالة من الكبت توارثه عبر الاجيال مستمد من واقعة كربلاء مضاف إلى كم كبير من المعاناة الناتجة من ارتفاع درجات الحرارة صيفا ونقص متعمد للخدمات وحالة مقصودة من الجهل والتجهيل خلال القرن الماضي ، ووسط العراق يرزح تحت تخلف شديد تبعته طفرة مادية كبيرة نتيجة استيلاء السنة على السلطة وتكريسهم لجميع خيرات البلاد والعباد والسلطات والصلاحيات والامتيازات والمناصب بأيديهم وصلت لدرجة استعباد أهل الجنوب والشمال وبقدر ما ساعدت تلك الطفرة المادية و"السيادية" أهل السنة على تثقيف وتطوير أنفسهم فإنها بذات الوقت كرست فيهم الشعور بالاستعلاء والتفوق العنصري والطائقي على الغير وولدت عندهم عدم استعداد لقبول المساواة مع الآخر في الوطن إلا اذا كانت القيادة لهم وحدهم ،، وشمال يعيش حالة اضطهاد وقهر وتهجير وحرب زرع في داخله الشك وعدم الوثوق بشريكه في الوطن هذا اذا كان فعلا يعتبر نفسه جزء من الوطن وهو ما تدل عليه محاولاته التي يعرفها الجميع في الاستقلال بعد ان يضم لدولته المزمعة مايمدها بسبل البقاء والازدهار مثل كركوك وبعض مناطق الموصل وديالى.

4. تركيز رجال الدين من أهل السنة وأهل الشيعة على إبراز جونب الاختلاف مع الغير ومحاولتهم إظهار أحقية كل منهم وصوابه على حساب تثقيف وإرشاد ومعالجة أمراض المجتمع من رشوة وسرقة وخمر ومخدرات وغير ذلك مما يعاني منه المجتمع ، فالشيعي منهمك في لطمياته وزياراته والسني غارق في تنظيم نفسه دينيا ليس دفاعا عن الدين بل وقوفا بوجه التنظيم الشيعي الذي يبدو أنه قد تحلل وتهلهل وتآكل ، والحق يقال أن بعض من أهل الشيعة وكثير من أهل السنة لاتربطهم بالدين رابطة وليس الدين عندهم إلا ستار وغطاء ، فما علاقة البعث بالدين وما علاقة الذبح والحرق وانتهاك الأعراض وإخراج الناس من ديارهم بالدين ، فما يهم الكثير من هؤلاء هو الدينار والسلطة وليس غير ذلك.

5. عدم فهم المحيط الاقليمي بشكل يمكن من التأثير فيه على الأقل لجهة منع الضرر والتدخل ، وقصور في تعريف المحيط الاقليمي بخصوصيات وسمات العراق من خلال التواصل المباشر عبر الندوات واللقاءات ووسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة ودحض المفاهيم المغلوطة التي يحاول "العدو" ترسيخها لدى هذا المحيط مستفيدا من قدرته المادية والاعلامية الهائلة ، بل إن كل ما شهده العراق في الخمس سنوات الأخيرة من أعمال انتحارية قادمة من الخارج لم تقابل إلا بدعايات تلفزيونية يرثى لها بإمكانيات فنية فقيرة لم تترك أي تأثير على المشاهد العربي تمنعه أو تشرح له حقيقة الموقف في العراق رغم العدد الهائل من الضحايا والتوظيف المدمر والخطير لهذه المجموعات الانتحارية التي كان يمكن تجنبها من خلال اسلوب إعلامي علمي رصين وممنهج يخاطب العربي ويحاول كسبه أو على الأقل تحييده في معركة كسر العظم التي يفرضها علينا محيطنا.هذه بعض الاسباب في ما نعيشه الآن ، ويبقى السؤال ماذا نفعل أمام كل هذه الترسبات والتناقضات وكيف ننهض من جديد بالانقاض التي يراد لها أن تزداد ،، وللرد هلى هذا السؤال اعتقد أن البعض يؤيد ما يلي:

1. يمكن أن يكون الحل بتفعيل الفيدرالية في العراق فيأخذ أهل السنة حقهم ليس أكثر ومثلهم أهل اشيعة والأكراد ، فينعم كل منهم بخيراته ويمارس حبه للسلطة على ذاته ويطور كل منهم نفسه ويثقف شعبه وبستثمر إمكانياته بنفسه ، دون أن ينسب للآخر ما يصيبه من خير أو شر، وترفع عنها شعورها بالاضطهاد وتعالج تدريجيا السيكلوجية السوداوية المترسخة عند الكثير منا تجاه الآخر.

2. إعادة كتابة الدستور بشكل عصري يسمح لهذه الفيدراليات بممارسة قدر كبير من الصلاحية والحرية في إدارة شؤونها الداخلية وفي إقامة علاقاتها مع الجوار الإقليمي والخارج في سياق سياسة خارجية موحدة مبنية على المصلحة العليا للبلد ولاتشذ عنه، ومحاولة استخدام وتوظيف العلاقات الطائفية لبعض مكونات المجتمع مع المحيط الإقليمي لما فيه مصلحة البلد.

3. العمل بشكل جدي وفاعل على تثقيف المجتمع وتكريس روح الوطنية وحب الآخر في الوطن والقضاء على مظاهر التخلف والجهل من أي جهة كانت من خلال الاعلام الهادف والمدروس ودور رجال الدين في المجتمع ورصد ميزانية كبيرة لهذه الغاية ، ويدخل في هذا الاسياق الاهتمام بشرائح المجتمع وإعطاء كل ذي حق حقه والاهتمام بالعملية التعليمية وتوفير فرص عمل للمواطنين من خلال إيجاد مشاريع مخطط لها بعناية تستوعب الأعداد الكبيرة من العاطلين وتساهم في تحقيق قدر من التقدم والاعتماد على الذات، ومحاولة اللحاق بالركب العلمي والحضاري.

4. الدخول في مشاريع مشتركة مع دول الجوار مبنية على المصالح المشتركة بعيدا عن الشعارات الرنانة تساهم في إيجاد علاقات متكافئة وطبيعية وتكاملية مع الجوار بحيث يكون العراق جزء أساسيا من المنظومة الإقليمية ، وإعادة الهيبة والاحترام للشخصية العراقية التي ساءت سمعتها كثيرا في الآونة الأخيرة.

5. القيام بحملة اجتماعية ودبلوماسية كبيرة ومركزة موجهة للخارج وبخاصة الجوار الإقليمي والدول المصدرة للإرهابيين لوضع الجميع بالصورة الحقيقية ورفع الغشاوة عن أعين الكثيرين ممن تأثروا بالأفكار التي تسعى بعض الدول والفضائيات المدعومة من قبلها لنشرها ، والوقوف بوجه هذا الفضائيات ومحاربتها وفضحها أمام الرأي العام كونها السلاح الأهم الذي يعتمد عليه "العدو".

جاسم السعيدي

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك