المقالات

عندما ترعى الدولة الفساد


قاسم العجرش

في العراق الآن خزين قانونيّ كبير يستهدف إعادة الأخلاق إلى الحياة العامة، من بينها صدور قانون يفرض التصريح عن الممتلكات، وآخر يختص بمحاربة تبييض الأموال. كما صادقت الحكومة المنتهية ولايتهاعلى الاتفاقية الدولية لمحاربة الفساد، ووعدت الحكومة الحالية أمام البرلمان السابق بالعمل على دعم المنظومة الوطنية للنزاهة والأخلاقيات وإعادة تفعيل هيئة النزاهة وأسنادها بمنظومة المفتش العام..لكن، هل يصلح العطّار ما أفسدته عقود طويلة من التسيّب والعبث بالمال العام وبثروات العراقيين؟ بمعنى آخر، هل تستطيع القوانين وحدها أن تحدّ من ظاهرة نهب المال العام؟ فصدور القوانين قد لا تواكبه الإرادة السياسية الحقيقية، ولنا في قانون التصريح بالممتلكات الصادر في الدورة التشريعية المنقضية مثال، فهذا الأخير ولد ميتاً. إذ لم يتم تفعيله رغم امتلائه بالثغرات.ولم يتم الألتزام به من قبل من أصدروه، وتحداه عدد كبير جدا ممن شملهم من المشرعين، وتلك لعمري مفارقة مافيوزية ( المافيوزية نسبة الشخص الى المافيا!)، وتبيّن في ما بعد أن هذا القانون قد شرّع فقط لامتصاص غضب المعارضة الشعبية المطالبة بضرورة سنّ قانون «من أين لك هذا؟».ويحاول القانون أن يغطّي ثغراً سابقة، فنصّ على الجزاءات المترتّبة عن التملّص من التصريح بالنسبة للفئات المستهدفة به، وهي أساساً: أصحاب المناصب العليا من رئيس الجمهورية والوزراء والبرلمانيون والقضاة. وفئات الأدارة العليا ، ورؤساء وأعضاء مجالس المحافظات كما أصبح التصريح يشمل أملاك الزوجة والأولاد. غير أن قوانين التصريح تختص بالمستقبل في حالة تفعيلها. ثم ماذا كان سيؤول إليه الأمر لو طرح سؤال «من أين لك هذا؟» على الجميع. فقانون التصريح الجديد الذي يفترض أن يدخل دائرة التطبيق، يستثني المسؤولين العسكرين والأمنيين. ومعروف أن نهب المال العام استطاع أن يفرز سلوكيّات مشينة، غدت بنية موازية لبنى الدولة، سلوكيات عكست ما أصبح يسمّيه مناهضو الفساد من الأعلاميين وقادة الرأي بـ «الفساد المالي والأداري»، و السلطة هي ذاتها لم تعمل، بالحماسة نفسها، على فتح ملف الماضي الاقتصادي، من أجل الوقوف على الانتهاكات الاقتصادية والاجتماعية التي ترتبت عن اختلاسات المال العام وتبذير الثروات الوطنية.والواقع أن كل فصل بين السياسي والاقتصادي هو تعسف في وجه الحقائق الكاملة. فما كان للفساد الاقتصادي والمالي أن يتم، بل ويستمر، لو لم يجد التربة السياسية المساعدة له والضامنة لاستمراريته. فالناهبون هم المسؤولون الذين استغلوا نفوذهم السياسي والإداري والاقتصادي للاغتناء اللامشروع، وهم بشكل عام النخب المدلّلة للدولة، رفعوا أجورهم إلى حد فاق حجم الميزانيات نفسها، ووظفوا سلطاتهم لعقد صفقات عمومية مشبوهة، وأخذوا قروضاً دون ضمانات بإعادتها، وجعلوا الميزانيات العامة قطاعات خاصة لإرضاء نزواتهم وإرضاء زبائنهم، وأخذوا امتيازات لم ينص عليها القانون...نهب المال العام هو جريمة اقتصادية، والمال المنهوب هو عملية قهرية استهدفت فئات عريضة من الشعب، وبددت ثرواته، فكانت النتيجة اغتناء أقلية على حساب تفقير المجتمع وتعطيل نموه. وكما سبقت الإشارة فإن الدولة التي تعاملت خلال الفترة السابقة بمنطق «دعه يمر...»، كانت تقوم أحياناً بحملات محدودة لمحاربة التلاعبات المالية. لكنها لا يمكنها أن تتوفر على إرادة التغيير وهي كانت الحاضنة وبامتياز لبنية النهب هذه، والراعية للأقلية التي استطاعت أن توجد شبكات ضاغطة باتجاه عرقلة العدالة وأجهزة الرقابة، فترتب عن ذلك حالة من التسيب والانفلات من العقاب، ما زالت مستمرة إلى اليوم.إن ممارسات الفساد المالي والأداري المدعمة بالفساد السياسي، يلزمها «انقلاب» يفوق مجرد الرغبة والقوانين، لأن معالجة الماضي تبدأ منه، ولا سيما إذا كان هذا الماضي لا يزال مستمراً، ولا يزال الناهبون القدامى والجدد يسيرون ضد إرادة مأسسة وتحديث الاقتصاد والدولة والمجتمع، انقلاب أيضاً على نوع من الثقافة السياسية التي غطت عقوداً طويلة من الممارسة السياسية والتي بنيت على منطق المكافآت والامتيازات والزبونية والمحسوبية...وهذا يبدأ من استرجاع الأموال المنهوبة، والتي قدرتها الدولة نفسها بمليارات الدنانير، جزء منها هرب إلى خارج البلاد، علماً بأن تعقيد عملية التحقيقات في الماضي تثبت أنه لا يمكن إنجاز شيء بغياب قضاء مستقل.وتوجد اليوم تنظيمات عديدةمناهضة للفساد ، لكن أهمها الهيئة الوطنية للنزاهة، وبلورت تلك التنظيمات مجموعة من المطالب، على رأسها تأسيس أخلاقية الحياة العامة واستعادة الأموال المنهوبة ومساءلة المختلسين. كما تحركت السلطة باتجاه تقديم بعض ملفات النهب الخاصة بمؤسسات عمومية أمام القضاء، ونطق هذا الأخير بأحكام تدين بعضها، وما زال يحقق في الأخرى،.وتبقى العملية مسؤولية الجميع. فالأحزاب مثلاً، وخلال الحملات الانتخابية الأخيرة، ضمنت برامجها مبدأ أخلاقية الحياة العامة. والمفارقة أن هذه الأحزاب لم تنص في قوانينها الداخلية على مبدأ التصريح بالممتلكات في ما يخص أعضاءها.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
محمد صالح
2010-08-13
الدولة تسيطر على اجهزة الرقابة والنزاهة وهي التي تعينهم فكيف يعملون ضدها ويكشفون الفساديجب اجراء تغيرات في اجهزة الرقابة ورؤسائها وجعلها خاضعة للبرلمان وليس للحكومة... حيا الله الاستاذ قاسم وموقع براثا على الموضوع المهم
صباح محسن
2010-08-13
ألا ترى سيدنا الجليل أنه مع أصابتك بالتحليل إلا أنك أغفلت أو تغافلت عن أن بنية الدولة العراقية التي ترعى الفساد كما وصفتها هو السبب في أستشراءه، وألا ترى أن بانيها الجديد وهو الأحتلال الأ يمكنه أن ينفذ مآربه بالهيمنة علمريكي قد تعمد أن تكون الدولة بهذا النموذج كي يسهل عليه تنفيذ أجنداته، فدولة نزيهة لايمكنه من خلال أجهزتها أن ينفذ مآربه بالهيمنة على مقدرات بلد ثري كالعراق..والهيمنة هي السبب رقم واحد الذي غامر المحتل بأبناءه وأمواله من أجله وليس لسواد عيون حرية العراقيين!
قاسم بلشان التميمي
2010-08-13
الاستاذ الفاضل قاسم العجرش تحية اسلامية واهنئكم بقدوم شهر رمضان الكريم داعيا المولى ان يعيده عليكم وانتم تنعمون بالصحة والعافية كلامك استاذي الفاضل تشخيص دقيق واصبت فيه كبد الحقيقة ولكن يبقى السؤال الازلي هل هناك من ينتبة الى ما يقول الحكماء وانت اكيد احد الكتاب الحكماء تحياتي استاذي الفاضل قاسم بلشان التميمي
العراقي
2010-08-13
المفروض ان يقدم المسؤول كشف مصالحه المالية منذ اليوم الاول لتوليه المنصب وكذلك في اليوم الاخير من ولايته الرسمية وليس فقط عند اقتراب نهاية ولايته لمعرفة الفرق بين رصيده من عقارات واموال عند توليه المنصب و رصيده عند مغادرته المنصب ... ومن ثم يسأل من اين لك كل هذا فقد دخلت معدما وخرجت ملتي ميلياديرا؟؟؟؟
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك