صدرت حديثاً عن قسم الشؤون الفكريّة والثقافيّة في العتبة العبّاسية المقدّسة موسوعةٌ شاملة لإعراب نهج البلاغة، وهي أوّل موسوعةٍ تخرج على الصعيد النحويّ للسِّفر الخالد كتاب (نهج البلاغة) للإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام).
الموسوعةُ التي ألّفها الأستاذ محمد خليل عبّاس الحسناوي وحقّقتها وأخرجتها طباعيّاً وحدةُ التأليف والدراسات في قسم الشؤون الفكريّة والثقافيّة وطُبعت في مطبعة دار الكفيل هي عبارة عن دراسةٍ لغويّة جاءت على صيغة إعرابٍ لهذا السفر الخالد في عشرة أجزاء، وتعدّ صورةً من صور اهتمام المؤسّسات الدينيّة والفكريّة الشيعيّة بكتاب نهج البلاغة، فإنّ نصّ أمير المؤمنين(عليه السلام) نصٌّ مقدّس يستحقّ الدراسة والبحث والاهتمام، وهذا هو الكتاب الثالث في سلسلة المعاجم الإعرابيّة لتراث أهل البيت(عليهم السلام)، وقد عولج ما ورد في هذا السفر العظيم (نهج البلاغة) من خطبٍ ورسائل وحكم معالجةً نحويّة تسهم في فهمٍ أفضل لمراد الإمام(عليه السلام) ومبتغاه وصولاً الى الكشف عن كنوز هذا التراث الإسلاميّ العظيم، وفي ظلّ الظروف العصيبة التي تمرّ بها أمّتنا الإسلاميّة وما يتعرّض له الأساسُ العقائديّ والفقهيّ وما أصاب المنظومة الأخلاقيّة من خللٍ وعطبٍ نتيجة الغزو الثقافيّ لحضاراتٍ دخيلة لا تمتّ الى الإسلام وتعالميه بصلة، لهذا وغيره أصبح (نهج البلاغة) ضرورة وحاجة ملحّة.
وبحسب ما بيّنه المؤلّف في مقدّمته فإنّه “خطوةٌ في الاتّجاه الصحيح لتسليط الضوء على هذا الصرح العظيم من جانبٍ لم يسبق له أحد، فإعرابه أرضٌ بكر لم تطأها قدمٌ قبل”، وغايته الوقوف على مراد الإمام (عليه السلام) ومبتغاه واستخلاص الدروس والعبر من تلك المعاني التي يقودنا الإعراب للكشف عنها، لما له من قيمة وأثر في الإفصاح والإبانة عمّا في النفس من معنى فيكون تبيينها محقّقاً لما في نفس المتكلّم من معنى. وقد اختار المؤلّف هذه الجنبة من هذا الكتاب لأسبابٍ منها:
على مدى ألف سنة مرّت من عمر هذا السِّفر القيّم (نهج البلاغة) دُوّن عليه أكثر من (300) شرحٍ وترجمة بأساليب ومحتويات علميّة وأذواق متباينة، وبالرغم من تلك الشروح الكثيرة ذات الجوانب المتعدّدة فلم أعثر على مصنّف واحد يتناوله من الجانب النحويّ (الإعرابيّ) بشكلٍ تفصيليّ، حيث لم أجد إلّا نتفاً هنا وهناك لا تسقي العطشان ولا تروي الظمآن، وهذا ما أثار دهشتي وأبقاني مذهولاً متحيّراً، في حين نجد عشرات المصنّفات قديماً وحديثاً قد كُتِبَت في إعراب القرآن الكريم، ذاكرين لذلك العديد من الفوائد اللغويّة والأدبيّة التي يُمكن أن تُقال وتجري في حقّ (نهج البلاغة).
الريادة الإبداعيّة والأرضيّة الخصبة والصالحة التي تميّز بها (نهج البلاغة) في الكثير من الفنون والموضوعات وفي مقدّمتها الدراسات اللغويّة، إذ لا يمكن أن تظهر دراسة لغويّة إلّا ولها تطبيقات في تراث أهل البيت العريق لأنّه يمثّل رافداً ثرّاً من روافد العربية لما حواه من فنون الفصاحة ووجوه البلاغة التي حاز فيها أعلى ذروة السنام، ولأنّهم أمراء البلاغة والفصاحة ومنهم تنحدر عروقها، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (وإنّا لأمراء الكلام وفينا تنشّبت عروقه وعلينا تهدّلت غصونه).
توافره على مقتضيات البلاغة والفصاحة، فلم يترك غرضاً من أغراض الكلام إلّا أصابه ولم يدع طريقاً للفكر إلّا مضى فيه، وكذلك لوفرة مادّته اللّغويّة علاوةً على أنّه نصٌّ إبداعيّ تجلّت فيه خصائص الإبداع الفنّي كافّة في الأدب الراقي الممتاز، فقد روعيت فيه دقّة اختيار الألفاظ وجودة سبكها ورقيّ مضمونها، حيث اشتملت عباراته على دلالاتٍ رائعة شهد له فيها أربابُ الفصاحة والبيان.