الصفحة الفكرية

القدوة بين الأسطورة والحقيقة

2712 08:34:42 2016-03-21

بقلم: طاهر القزويني

القدوة كمفهوم حضاري نجد له أمثلة لدى كافة الأمم والحضارات البشرية بما فيها تلك التي لا تاريخ لها مثل الحضارة الأمريكية التي أقامت أعمدتها فوق أرض الهنود الحمر؛ الذين يطلق عليهم بالسكان الأصليين، فقد تشكلت فوق أرضهم دولة اجتمع أفرادها من أصقاع الأرض ولا يربطهم تاريخ مشترك أو ثقافة مشتركة، لكن هؤلاء لا يريدون أن يعيشوا بدون تاريخ أو بدون قدوة فصنعوا لأنفسهم قدوات خيالية وشخصيات أسطورية مثل (سوبرمان) وجعلوا لها قدرات تفوق التصورات البشرية وقوة فائقة لا تعرف المحدودية.
نحن لا ننظر إلى مجموعة أفلام سوبرمان والأخرى المشابهة لها على أنها مجرد أفلام للتسلية بل هي أفلام توجيهية وتحاول أن توصل رسالة للمشاهد وأن ترسم صورة للأمريكي المفعم بالقوة والقادر على تحقيق جميع أهدافه بما يملكه من قدرات خارقة، تحاول السينما الأمريكية تصوير القوة في الحياة بأنها قوة مادية خالية من المعنويات والروحانيات ولم تستمر هذه الفكرة طويلاً حتى انكسرت أمام حقائق الواقع وتحول البطل (سوبرمان) من إنسان قادر على صنع المعجزات إلى رجل مقعد وعاجز عن الحركة وعلى القيام بالأعمال التي يستطيع أن يقوم بها أبسط إنسان.
شخصية (سوبرمان) هي مجرد أسطورة والذي ينفذ دورها هو إنسان محدود القدرات والإمكانيات وقد انهارت هذه الأسطورة بعد أن سقط صاحبها أسير ضعفه وعجزه عن الحركة والمسير على قدميه بعدما بارز الله في قوته وجبروته من خلال أعمال جبارة يقوم بها في الفيلم.
المشكلة ليست بالرجل الذي مثل دور سوبرمان إنما بالحضارة التي حاولت تصوير قدراتها المادية أنها تفوق قدرات الغيب، فواجهت الحقيقة الصادمة أن حضارة الإنسان مهما ارتفعت فإنها ستكون محدودة أمام قدرات السماء، وإن القدرة العليا هي للأخلاق وليس للقدرات المادية.
هنالك الكثير من الأمم تلجأ إلى الاساطير لبناء ذاكرتها الثقافية، تعالوا لنرى ماذا قدم الإسلام كنموذج للاقتداء؟
الإسلام لا يقدم لنا أسطورة بل يقدم قدوة من لحم ودم وعظام بشرية، يقدم لنا نموذجاً بشراً مع تجربة بشرية كاملة وهذا أصعب شيء يمكن أن تحققه أية حضارة في العالم!
الإنسان؛ عجينته الضعف والعجز، والحضارة التي تستطيع ان تخرج هذا الإنسان من عوامل عجزه وضعفه وتحوله من إنسان شرير وجبار وقاس يسفك الدماء ويدس أبناءه بالتراب إلى إنسان رحوم وعطوف هي بلا شك الحضارة الأرقى والأسمى.
حتى لو صدقنا بوجود الإنسان السوبر وبالقدرات المادية الخيالية التي يملكها فلا فخر في ذلك وإنما الفخر وكل الفخر بالقيم الإنسانية النبيلة التي يمكن أن يبثها هذا الإنسان في الحياة؛ والحضارة الفاخرة هي التي تقدم نموذجاً سامياً في الأخلاق للمجتمعات الإنسانية.
وأن تقدم تلك الحضارة شخصية عظيمة مثل السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، لتسطر أروع الصور الإنسانية في الأخلاق والإيثار وحب الخير للآخرين، وترسم للبشرية صور نكران الذات، والتضحية باحتياجاتها الخاصة من أجل حاجات الآخرين؛ مثلما فعلت في ذلك اليوم: عندما آثرت الجوع لها ولأبنائها ولزوجها ولمدة ثلاثة أيام من أجل إطعام مسكين مسلم ويتيم من أبناء المهاجرين وأسير من المشركين حتى نزلت فيها وزوجها وأبنائها هذه الآية الشريفة (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) الدهر 8-10
وكانت بمستوى عال من العلم والتواضع إلى درجة انها تجيب عن المسائل الكبرى من دون كلل حتى اتتها امرأة فقالت : ان لي والدة وﻗﺪ ﻟﺒﺲ (1)ﻋﻠﻴﻬﺎ في أﻣﺮ ﺻﻼﺗﻬﺎ ﺷﺊ ، وﻗﺪ ﺑﻌﺜﺘﻨﻲ إﻟﻴﻚ أﺳألك ، ﻓأﺟﺎﺑﺘﻬﺎ ﻋﻦ ذﻟﻚ ، ﺛﻢ ﺛﻨﺖ ﻓأﺟﺎﺑﺖ ، ﺛﻢ ﺛﻠﺜﺖ ، إلى ان عشرت (2) فاﺟﺎﺑﺖ ، ﺛﻢ خجلت من الكثرة ، وﻗﺎﻟﺖ : ﻻ أﺷﻖ (3)ﻋﻠﻴﻚ ﻳﺎ ﺑﻨﺖ رﺳﻮل ﷲ . ﻗﺎﻟﺖ ﻓﺎﻃمة ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺴﻼم : هاتي سلي عما بدا لك ، ارايت من اكترى (4) يصعد يوماً إلى سطح بحمل ثقيل وكراه (5) مائة الف دينار ايثقل عليه ؟ قالت : لا فقالت اكريت انا لكل مسالة بأكثر من ملء مابين الثرى (6) إلى العرش لؤلؤاً ،فأحرى ان لا يثقل علي، سمعت ابي صلى الله عليه وآله يقول : ان علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع (7) الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في ارشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم الف الف خلعة من نور ………) (8)
ليس فقط لم تنزعج فاطمة عليها السلام عن اجابة عشرة مسائل بل خففت عن المرأة السائلة وجعلتها في مقام المتفضل وليس المحتاج وهذا من اعظم الاخلاق وفيه دروس كثيرة للعلماء وللنساء عامة، فهي تحث العلماء ان لايطردوا اصحاب المسائل عن ابوابهم والنساء لايتخلين عن طلب العلم وانه بامكانهن ان يصلن إلى مراتبه العليا ويصبحن معلمات ليس للنساء فقط بل حتى للرجال ، فقد كانت السيدة فاطمة سلام الله عليها معلمة الصحابة شهد بذلك كبار الصحابة وبينهم سلمان الفارسي رضوان الله عليه الذي قال انه تعلم من الزهراء دعاء النور وكانت عليها السلام تقرأه غدوة وعشية (9) ، قالت له: إن سَرك أن لايمسك أذى الحمى ما عشت في دار الدنيا فواظب عليه فقال سلمان: فتعلمتهن، فو الله ولقد علمتهن أكثر من ألف نفس من أهل المدينة و مكة ممن بهم علل‏ الحمى فكلٌ بري‏ء من مرضه بإذن الله تعالى.(10)
القدوة هي التي تقدم العلاجات الاخلاقية لبني البشر وليست التي تفتك بهم وتقتلهم باسلحتها المدمرة!
=====================================================
(1) لبس : اشكل
(2) عشرت : سألتها المسالة العاشرة
(3) لااشق : لااتعبك
(4) اكترى : استأجر
(5) كراه : أجره
(6) الثرى : الارض ، التراب
(7) الخلعة : المنحة والهدية
(8) العاملي – زين الدين – (معروف بالشهيد الثاني) – منية المريد في اداب المفيد والمستفيد
(تحقيق رضا المختاري) الصفحة 15
(9) غدوة وعشية : صباحاً ومساءا
(10) ابن طاووس، مهج الدعوات ص 17 ـ 19 واما دعاء النور فهو (بسم الله النور، بسم الله نورالنور، بسم الله نور على نور، بسم الله الذي خلق النور من النور، الحمدالله الذي خلق النور من النور، وأنزل النور على الطور، في كتاب مسطور، في رق منشور، بقدرمقدور، على نبي محبور، الحمدالله الذي هو بالعز مذكور، وبالفخرمشهور، وعلى السراء والضراء مشكور، برحمتك ياأرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين)

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
آخر الاضافات
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك