استهلال فاجعة: في التاريخ مصارع كثيرة... وفجائع مثيرة يذهل الفكر أمامها حائراً.. ولكن فاجعة كربلاء قد أجمع المؤرخون بأنها من أشد الفجائع أثراً في النفوس... واقسى المصارع وقعاً في القلوب ذلك لما وقع على ساحة طف كربلاء من مجزرة بآل النبي وأنصارهم يوم العاشر من محرم سنة إحدى وستين للهجرة .حيث حوصر فيها الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام هو وآله وفتية من بني هاشم وجملة من أصحابه من أهل العراق والحجاز واستشهدوا جميعاً
من قبل الجيش الأموي بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص وبأمر من عبيد الله بن زياد عامل يزيد على الكوفة... لا لذنب سوى تمسكهم القوي بمبادئهم القويمة.. وإحساسهم بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم إزاء السياسة الأموية القائمة...
• استذكار عاشوراء:
لذلك كلما بدت طلعة العام الهجري تذكِّر المسلمون ببالغ الأسى وعظيم الأثر مصارع آل الرسول وأهل بيته وما أمعنه الجيش الأموي فيهم من القتل والتنكيل والتمثيل... وتذكَّروا كيف دكَّت حوافر خيول هذا الجيش جناجن صدورهم وظهورهم بشكل لم يشهد له التاريخ نظير فظاعة وبشاعة... وكيف ساروا برؤوس القتلى على الرماح مع نساء الرسول سبايا الى الكوفة فالشام باسم سبايا الروم ثم الى مدينة جدّهم يثرب عاريات في أحزن منظر... كل هذا والدين الحنيف في أول عهده والإسلام عود ينعٍ فتي.
لذلك حين يحل هذا التاريخ من كل عام. ويهل هلال محرم الحرام يستعد المسلمون في معظم أنحاء المعمورة للتعبير عن شعورهم إزاء هذا الذكرى الدامية وخاصة في يوم العاشر من محرم.. المعروف بيوم (عاشوراء) حيث يحتفل المسلمون فيه بهذه المناسبة الأليمة متذكرين مصارع آل النبي في كربلاء في حزن عميق وشجن عظيم.. يستعرضون مواقف الإمام الحسين ومن استشهد معه بما يناسبها من الإرشاد والتوجيه.. و إظهار شعائر الحزن والأسى تجاه هذه الفاجعة الدامية.. التي أثرت في العالم الإسلامي تأثيراً بالغاً سرمدياً لانهاية له منذ ذلك الحين حين الواقعة والى يومنا هذا.. إلى ما شاء الله من أيام الدهر.
• تصوّر خاطىء:
قد يتصور البعض أن هذه الشعائر والمظاهر التي تقام في العشرة الأولى من محرم الحرام في كل عام من قبل المؤمنين في مختلف أنحاء الأرض وبمختلف أشكالها إنما هي من محدثات العصور الأخيرة في حين انَّ التعبير عن شعور التأثر والتألم تجاه مصرع الإمام الحسين عليه السلام... إنما يرقى تاريخه إلى عهد قديم في الإسلام أو هو قريب العهد من الصحابة والتابعين ... غير أنه كان في أول أمره محدوداً جداً صغير الحجم بمحضر الخواص من الناس بالحسين كالأعلام من ذريته... للتسلية والمواساة... وللتخفيف عن لوعة المصيبة.
مظاهر العزاء لآل البيت عليهم السلام في العصر الأموي
كانت الآفاق العربية يومها تردد صدى هذه الفاجعة المؤلمة.. وقسوة ما اقترفه الأمويون بآل الرسول في كربلاء... وكانت العائلة النبوية تجدد ذكراها صباحاً ومساءاً في حزن عميق وشجن عظيم... وتبكي عليه رجالاً ونساءاً.. وكلما رأوا الماء تذكروا عطش قتلاهم.. فلم يهنأوا بطعام أو شراب ولا بمنام...
كان وجود المسلمين والموالين لآل البيت عليهم السلام يفدون على بيوت آل النبي صلى الله عليه وآله بالمدينة معزّين ومواسين وكان الواحد منهم يعّبر عن مشاعره وأحزانه بأبلغ ما أوتي من روعة القول وقوة البيان وحسن المواساة لهذه المصيبة حتى تركوا ثروة أدبية رائعة في أدب التسلية والمواساة..
• استمرار في تنظيم:
وبقيت بيوت آل البيت مجللة بالحزن والسواد ولا توقد فيها النيران.. حتى نهضت في العراق ثلة من فتيانه الأشاوس ومن زعماء العرب الاقحاح أمثال المختار الثقفي وإبراهيم بن مالك الأشتر النخغي وسليمان الخزاعي والمسيّب الفزاري وغيرهم حيث أخذوا ثأر الحسين وقتلوا جميع قتلة الحسين أمثال ابن زياد وابن سعد وسنان وشمر وحرملة وغيرهم... فخفّت من ذلك لوعة الأشجان في بني هاشم... وهدأ منهم نشيج الزفرات ونزيف العبرات.. فصارت المآتم منهم وفيهم تقام في السنة مرة بعدما كانت مستمرة..
ففي ذلك العهد ـ عهد السلف الصالح ـ يحدِّثنا التاريخ الإسلامي عن أعلام أهل البيت النبوي أنهم كانوا يستشعرون الحزن كلما هلّ هلال محرم الحرام .. وتفد عليهم وفود من شعراء العرب لتجديد ذكرى الحسين عليه السلام لدى أبناءه الأماجد..
وقد ألقوا روائع في فن الرثاء والتسلية والتذكير بأُسلوب ساحر أخاذ مما ابقى شعرهم خالداً رغم كرّ العصور.
• الكميت وقصائد الهاشميات:
كان الشاعر العربي (الكميب بن زيد الأسدي) من شعراء العصر الأموي توفي سنة 126هـ جعل معظم قصائده في مدح بني هاشم وذكر مصائب آل الرسول عليهم السلام.. حتى سميت قصائده «الهاشميات» وكان ينشد معظمها في مجالس الإمام الصادق وأبيه الباقر محمّد وجده علي بن الحسين عليهم السلام.
وتلك القصائد التي ألقاها بين يدي الإمام علي بن الحسين السجّاد عليه السلام قصيدته المشهورة التي مطلعها:
من لقب متيم مستهام غير ما صبوة ولا أحلام
وقتيل الطف غودر عنه بين غوغاء أمة وطغام
فلما بلغ آخرها قال الإمام السجاد عليه السلام له: «ثوابك نعجز عنه.. ولكن الله لا يعجز عن مكافأتك...» فقال الكميت: سيدي إن أردت أن تحسن إليّ فأدفع لي بعض ثيابك التي تلي جسدك أتبرك بها.. فنزع الإمام ثيابه ودفعها إليه ودعا له..
ومن تلك القصائد قصيدته التي ألقاها في مجلس الإمام الصادق عليه السلام والتي مطلعها:
طربت وما شوقاً الى البيض أطرب ولا لعباً منّي وذو الشيب يلعب
وقد نال هذا الشاعر الجوائز الكثيرة من أئمة آل البيت عليهم السلام حتى إن الإمام الصادق عليه السلام أكرمه مرّة على قصيدة ألف دينار وكسوة فقال الكميب: والله ما أحببتكم للدنيا.. ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه... ولكنني أحببتكم للآخرة.. أما الكسوة فأقبلها لبركتها وأما المال فلا أقبله.
• السيد الحميري وقصائد الحزن والرثاء:
ومثله الشاعر السيد إسماعيل الحميري أحد شعراء المشهورين في العصر الأموي فقد جعل معظم قصائده في آل البيت وفي هذا المصاب.. وقد دخل على الإمام الصادق عليه السلام مرّة يستأذنه أن ينشد له من شعره فأذن الإمام فأنشد:
أُمرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكية
يا أعظماً ما زلت من وطفاء، ساكبة روية
فلما بلغ هذا الحد حتى أخذت الدموع من الإمام تنحدر على خديه وارتفع الصراخ من داره... فأمره الإمام بالإمساك فأمسك.. ثم أوصله بهدية ثمينة.. وهكذا كان الشعراء يقصدون مجالس آل البيت النبوي وسائر مجالس الهاشميين في هذا الموسم لإلقاء خيرة ما نظموه حول هذا الموضوع على سبيل العزاء...من مديح وثناء ... وينالون عليه خير العطاء..
مظاهر عزاء الحسين عليه السلام في العصر العباسي
لقد كانت لمجالس الهاشميين دورها الفعّال في جمع الطالبيين والعلويين والعباسيين وأنصارهم الموتورين من الحكم الأموي القائم.. وتنظيم الحملة ضدّهم وانطلقت الألبسة بإعادة الحكم لآل هاشم وتقاضي الحكم الجائر.. وقد حدثنا التاريخ الإسلامي.. أنَّ تأسيس الدولة العباسية كان قائماً على دعوة الهاشميين على أساس الثأر النهائي لقتلى الطف والإنتقام للعلويين بالقضاء على الأمويين... وكان الشعراء لم يعدو فرصة تفلت أو مناسبة تمر إلا ذكّروا بهذا الثأر، الى أن هيأ الله لهم ذلك ومكّنهم من الأمر وقضوا على الحكم الأموي وتربّع أبو العباس السفاح على الحكم كأوّل خليفة هاشمي.. يذكّرنا التاريخ بوليمته المشهورة التي حضرها ثمانون رجلاً من عيون الأمويين وهم على سمط الطعام فدخل شبل مولى بني هاشم على السفاح فأنشد في الحال قصيدته المشهورة والغيض قد أخذه:
أصبح الملك ثابت الأساس بالبهاليل من بني العباس
فقام السفاح في الحال مغتاضاً وقتلهم جيمعاً ثم أباد الأمويين عن آخرهم.. وهكذا اتسع المجال أمام الشعراء في رثاء آل البيت النبوي وذكر مصابهم في قتلى الطفوف.
• دعبل وابراهيم في محضر الرضا عليه السلام:
ومن هؤلاء الشاعران المشهوران دعبل بن علي الخزاعي وابراهيم بن العباس اللذان قصدا من بخراسان.. فقدم الأول على الإمام الرضا عليه السلام علي بن موسى بن جعفر في أيام ولاية عهده في خلافة المأمون العباسي 203هـ فأنشد قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:
تجاوبن بالأناة والزفرات...الى أن يقول:
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات
وقد أجاز الإمام الرضا بعد أن بكى هو وأهله عليهم السلام بعشرة آلاف درهم من المسكوكات باسمه الكريم وخلع عليه جبته.. فكان هذا خير رمز للتقدير والإعجاب.
وقد اشترى القميّون «الجبة» من دعبل أثناء عودته إلى العراق بألف دينار.
وهكذا زميله الشاعر إبراهيم بن العباس فقد أنشد الإمام الرضا عليه السلام قصيدته الدالية المشهورة التي يقول في مطلعها:
أزال عزاء القلب بعد التجلد مصارع أولاد النبي محمّد
فأكرمه الإمام بمثل ما أكرم به زميله الخزاعي.
• جوائز سخية:
وكانت جوائز أئمة البيت النبوي في هذا المجال مشهورة بالسخاء والبركة حتى ذهبت مثلاً: (ما بلغت صرة من موسى بن جعفر لأحد إلا استغنى) لذلك كان الشعراء يتفننون في هذا الباب إلى جانب تأثرهم بروعة فاجعة الطف وفظاعة وقعها.. وكذلك تأثروا بأقوال أئمة أهل بيت النبي في شأن من يرثي الحسين... وماله من فضيلة عند الله سبحانه.. فقد قال الإمام جعفر الصادق لجعفر بن عفان: (ما من أحد قال في الحسين عليه السلام فبكى وأبكى به إلا أوجب الله له الجنة وغفر له...).
وهكذا كان الشعراء يتبارون في الرثاء والمواساة والإبداع فيها بهذه المناسبة، في مجالس آل البيت النبوي ومجالس الطالبيين.
وما من شك أن هذا العزاء كان فيه العزاء لكل مظلوم وكل ذي حق مظلوم بأعظم السلوان تأسياً بالحسين عليه السلام.
• السلطة العباسية ومجالس العزاء:
وكيفما كان في هذا العزاء عرض لتلك المأساة فإنه لم يخل من فرض لجور الحاكمين وتعريض لضروب الظلم الذي أصاب آل البيت النبوي منهم وتهديد الظالمين بالعاقبة الوخيمة لفتكها بأعلام بيت النبوة.. وما ناله الظالمون من سوء المنقلب كل ذلك على لسان الشعراء والخطباء وفي أروع أسلوب مما كان له أثره في جذب النفوس وتقوية القلوب... حتى قال أحد الشعراء:
تالله ما صنعت أميّه فيكم معشار ما صنعت بنو العباس
وكانت السلطات الحاكمة يومها وفي فترة من الزمن وراء هذه المجالس تطارد الملقين وتفتك بالحاضرين ولقي الموالون لأل البيت من الشدة ضروب العذاب..
وأُتلفت معظم تلك القصائد والأشعار وغيرها من الآثار ذات العلاقة بالإمام الحسين عليه السلام، ولو كانت باقية لكانت ثروة أدبية رائعة عن تلك الفترة.
وقد وصف ابن الأثير حوادث دموية مسببة عن ذكرى عزاء الحسين عليه السلام جرت بصورة فظيعة بين الحزب المتشيع لآل البيت وبين الحزب المخالف له ببغداد عاصمة الهاشميين يوم ذاك.. كانت تتسع وتتقلص حسب لون السياسة الحاكمة واجتهاد الحكام ذهبت بسببها ضحايا كثيرة لا لشيء سوى التعصب الممقوت وبسبب الجهل بمكانة آل البيت من الرسول.. وعدم تقديرهم لشعائر الود والمحبة لصاحب الرسالة وأهل بيته.
• استقرار في القلوب:
وكان (عزاء الحسين) رغم جميع هذه الأحوال قائماً كل عام في موسمه من محرم الحرام وإنما يختلف تقلصاً واتساعاً حسب الظروف ولكنه في جميع الأحوال كان يزداد تمكناً في النفوس واستقراراً في القلوب وكان للشعراء الفضل الأكبر في تقوية هذا العزاء وجذب القلوب إليه.. بقصائدهم الغر في تصوير مصاب الحسين وأهل بيته... حتى أن غالبية الموالين لآل البيت كانوا لا يحفلون بقسوة الحكام قدر اهتمامهم للحضور إلى مجالس العزاء كائناً ما يكون المصير...
1/5/13117
https://telegram.me/buratha