قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به)) ((شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه
زيِّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب)) والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا واللَّه عنده حسن المآب* قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للّذين اتّقوا ربهم جنات تجري من تحتها الأنّهار ((خالدين فيها وأزواج مطهّرة ورضوان من اللَّه واللَّه بصير بالعباد
وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه)) ((خلق لكم ما في الأرض)) (( جميعاً
( (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرّشد من الغي))
: الحرّية عاطفة أصيلة
مفهوم الحرّية من تلك المفاهيم التي تلتقي عندها مشاعر الناس جميعاً، وهذه الصلة العاطفية التي تربط الإنسان بالحرية ليست ظاهرة حديثة في تاريخ الإنسانية، ولا من نتائج الكيانات الحضارية التي يعيشها الإنسان الرأسمالي والإشتراكي اليوم، وإن استغلّت بعض الحضارات الحديثة عاطفة الإنسان تجاه الحرّية إلى أبعد حدود الاستغلال. وإنما تعبّر هذه الصلة العاطفية عن عاطفة أصيلة في النفس البشرية تشعّ من كل ثنايا التاريخ حتى تبدو قصة الإنسان نفسه، وكأنها معركة تحرّر وتحرير يخوضها على مرّ الزمن منذ أعماق التاريخ إلى يوم الناس هذا، بالرغم من اختلاف أشكال المعركة وألوانها وأهدافها وأساليبها باختلاف القيم الفكرية التي ترتكز عليها.
وهذه الظاهرة العاطفية العامة نجد تفسيرها في جانب ثابت من تكوين الإنسان وهو الإرادة، فالإنسان مجهز ضمن تركيبه العضوي والنفسي بالإرادة، وهو لذلك يحبّ الحرّية ويهواها، لأنّها تعبير عملي عن امتلاكه لإرادته وإمكان استخدامها لمصالحه، وكما يسوء الإنسان أن يُعطّل أيّ جهاز من أجهزته عن العمل، يسوءه بطبيعة الحال أن يشلّ جهازه الإداري بانتزاع الحرية منه.
: تحديد الحرّية
غير أنّ الإنسان آمن منذ البدء بأنّ الحرية المطلقة لا يمكن أن تُوفّر للفرد الاعتيادي الذي يعيش ضمن مجتمع مترابط، لأن الحرية المطلقة لكل فرد في المجتمع تصطدم بحريات الآخرين، وبالتالي يستقطب التناقض في الجهاز الإجتماعي، حتى يتفسخ، فلكي يحتفظ كل فرد بنصيب من حريته بعيداً عن تدخّلات الآخرين، لا بدّ له أن يتنازل عن شيء منها، وينعكس هذا التنازل على الصعيد الإجتماعي في القوانين التي تشرّع لتنظيم المجتمع وضبط تصرفاته.
وهكذا تصبح الحرية المطلقة فكرة خيالية، حين يبدأ الإنسان حياته الإجتماعية، ويصبح الشيء المهم هو تحديد النصيب الذي يجب أن يحتفظ به لكل فرد من الحرية.
: الحرّية في الحضارات الغربيّة
وقد حرصت الحضارات الغربية الحديثة على تقليص هذا التحديد- تحديد الحرية- إلى أبعد الحدود، وتوفير أكبر نصيب ممكن من الحرية لكل فرد في سلوكه الخاص، وهذا النصيب هو القدر الذي لا يتعارض مع حرّيات الآخرين، فلا تنتهي حرية كل فرد إلا حيث تبدأ حرّيات الأفراد الآخرين.
وليس من المهم بعد توفير هذه الحرية لجميع الأفراد طريقة استعمالها والنتائج التي تتمخض عنها وردود الفعل النفسية والفكرية لها، مادام كل فرد حرّاً في تصرفاته وسلوكه وقادراً على تنفيذ إرادته في مجالاته الخاصة، فالمخمور مثلًا لا حرج عليه أن يشرب ما شاء من الخمر، ويضحّي بآخر ذرّة من وعيه وإدراكه، لأن من حقه أن يتمتع بهذه الحرية في سلوكه الخاص، ما لم يعترض هذا المخمور طريق الآخرين أو يصبح خطراً على حرياتهم بوجه من الوجوه.
وقد سكرت الإنسانية على أنغام هذه الحرية، وأغفت في ظلالها برهة من الزمن، وهي تشعر لأوّل مرة أنها حطّمت كل القيود، وإن هذا العملاق المكبوت في أعماقها آلاف السنين قد انطلق لأول مرة، وأتيح له أن يعمل كما يشاء في النور دون خوف أو قلق.
ولكن لم يدم هذا الحلم اللذيذ طويلًا، فقد بدأت الإنسانية تستيقظ ببطءٍ وتدرك بصورة تدريجية ولكنها مرعبة أنّ هذه الحرية ربطتها بقيود هائلة، وقضت على آمالها في الإنطلاق الإنساني الحر؛ لأنّها وجدت نفسها مدفوعة في عربة تسير باتجاه محدّد، لا تملك له تعبيراً ولا تطويراً، وإنما كل سلوتها وعزائها وهي تطالع مصيرها في طريقها المحدد. إن هناك من قال لها: أنّ هذه العربة عربة الحرية بالرغم من هذه الأغلال وهذه القيود التي وضعت في يديها.
أما كيف عادت الحرية قيداً، وكيف أدّى الإنطلاق إلى تلك الأغلال التي تجرّ العربة في اتجاه محدد محتوم؟! وكيف أفاقت الإنسانية على هذا الواقع المُرّ في نهاية المطاف؟! فهذا كله ما قدّره الإسلام قبل أربعة عشر قرناً، فلم يكتف بتوفير هذا المعنى السطحي من الحرية للإنسان الذي مني بكل هذه التناقضات في التجربة الحياتية الحديثة للإنسان الغربي، وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك، وجاء بمفهوم أعمق للحرية، وأعلنها ثورة تحريرية كبرى للإنسان، ولكنها ليست ثورة على الأغلال والقيود بشكلها الظاهري فحسب، بل على جذورها النفسية والفكرية، وبهذا كفل للإنسان أرقى وأسمى أشكال الحرية التي ذاقها الناس على مرّ التاريخ.
: الحرّية الإسلامية
ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرّر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والأغلال- كما سنعرف- فإنّ الحرّية الرحيبة في الإسلام على العكس فإنها تبدأ من العبودية المخلصة للَّهتعالى، لتنتهي إلى التحرّر من كل أشكال العبودية المهينة:
تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ)) ((بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه
أرأيت كيف يقيم القرآن التحرر من كل العبوديات على أساس الإقرار بالعبودية المخلصة لله تعالى؟!
أرأيت كيف يجعل من علاقة الإنسان بربّه الأساس المتين الثابت لتحرره في علاقاته مع سائر الناس ومع كل أشياء الكون والطبيعة؟!
: التحرير الداخلي للإنسانيّة
يبدأ الإسلام عمليته في تحرير الإنسانية من المحتوى الداخلي للإنسان نفسه لأنه يرى أنّ منح الإنسان الحرية ليس أن يقال له: هذا هو الطريق قد أخليناه لك فسر بسلام، وإنما يصبح الإنسان حرّاً حقيقة حين يستطيع أن يتحكّم في طريقه ويحتفظ لإنسانيته بالرأي في تحديد الطريق ورسم معالمه واتجاهاته، وهذا يتوقف على تحرير الإنسان قبل كل شيء من عبودية الشهوات التي تعتلج في نفسه لتصبح الشهوة أداة تنبيه للإنسان إلى ما يشتهيه لا قوّة دافعة تسخّر إرادة الإنسان دون أن يملك بإزائها حولاً أو طولاً؛ لأنّها إذا أصبحت كذلك خسر الإنسان حريته منذ بداية الطريق ولا يغيّر من الواقع شيئاً أن تكون يداه طليقتين مادام عقله وكل معانيه الإنسانية التي تميزه عن مملكة الحيوان معتقلة ومجمدة عن العمل.
ونحن نعلم أن الشيء الأساسي الذي يميّز حرّية الإنسان عن حريّة الحيوان بشكل عام أنهما وإن كان يتصرفان بإرادتهما غير أن إرادة الحيوان مسخّرة دائماً لشهواته وإيحاءاتها الغريزية، وأما الإنسان فقد زوِّد بالقدرة التي تمكّنه من السيطرة على شهواته وتحكيم منطقه العقلي فيها، فسرّ حريته بوصفه إنساناً إذن يكمن في هذه القدرة، فنحن إذا جمدناها فيه واكتفينا بمنحه الحرية الظاهرية في سلوكه العملي ووفّرنا له بذلك كل إمكانيات ومغريات الاستجابة لشهواته، كما صنعت الحضارات الغربية الحديثة فقد قضينا بالتدريج على حرّيته الإنسانية، على حرّيته في مقابل شهوات الحيوان الكامن في أعماقه وجعلنا منه أداة تنفيذ لتلك الشهوات حتى إذا التفت إلى نفسه في أثناء الطريق وجد نفسه محكوماً لا حاكماً ومغلوباً على أمره وإرادته.
وعلى العكس من ذلك إذا بدأنا بتلك القدرة التي يكمن فيها سرّ الحرية الإنسانية فأنميناها وغذّيناها وأنشأنا الإنسان انشاءاً انسانياً لا حيوانياً، وجعلناه يعي أنّ رسالته في الحياة أرفع من هذا المصير الحيواني المبتذل الذي تسوقه إليه تلك الشهوات، وإنّ مثله الأعلى الذي خلق للسعي في سبيله أسمى من هذه الغايات التافهة والمكاسب الرخيصة التي يحصل عليها في لذاته المادية، أقول:
إذا صنعنا ذلك كله حتى جعلنا الإنسان يتحرّر من عبودية شهواته وينعتق من سلطانها الآسر ويمتلك إرادته فسوف نخلق الإنسان الحرّ القادر على أن يقول:
لا أو نعم دون أن تكمّم فاه أو تغلّ يديه هذه الشهوة الموقوتة أو تلك اللذة المبتذلة. وهذا ما صنعه القرآن حين وضع للفرد المسلم طابعه الروحي الخاص وطوّر من مقاييسه ومُثُله وانتزعه من الأرض وأهدافها المحدودة إلى آفاق أرحب وأهداف أسمى، فلنستمع إليه يقول:
زيِّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب)) والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا واللَّه عنده حُسن المآب* قل أؤنبّئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا ربهم جنات تجري من تحتها الأ نهار ((خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوانٌ من اللَّه واللَّه بصيرٌ بالعباد
هذه هي معركة التحرير في المحتوى الداخلي للإنسان، وهي في نفس الوقت الأساس الأول والرئيس لتحرير الإنسانية في نظر الإسلام، وبدونها تصبح كل حرّية زيفاً وخداعاً وبالتالي أسراً وقيداً.
ونحن نجد في هذا الضوء القرآني إنّ الطريقة التي استعان بها القرآن على انتشال الإنسانية من ربقة الشهوات وعبوديات اللذّة هي الطريقة العامّة التي يستعملها الإسلام دائماً في تربية الإنسانية في كل المجالات، طريقة التوحيد، فالإسلام يحرّر الإنسان من عبودية الأرض ولذائذها الخاطفة بربطه بالسماء وجنانها ومثلها ورضوان من اللَّه، وهكذا نعرف أنّ التوحيد هو سند الإنسانية في تحرّرها الداخلي من كل العبوديات.
ويكفينا مثل واحد لنعرف النتائج الباهرة التي تمخض عنها هذا التحرير ومدى الفرق بين حرّية الإنسان القرآني الحقيقية وهذه الحريات المصطنعة التي تزعمها شعوب الحضارات الغربية الحديثة، فقد استطاعت الأمة التي حرّرها القرآن حين دعاها في كلمة واحدة إلى اجتناب الخمر أن تقول: لا وتمحو الخمر من قاموس حياتها بعد أن كان جزءاً من كيانها وضرورة من ضروراتها، لأنّها كانت مالكة لإرادتها، حرّة في مقابل شهواتها ودوافعها الحيوانية، وبكلمة مختصرة كانت تتمتع بحرية حقيقية تسمح لها بالتحكم في سلوكها.
وأما تلك الأمة التي أنشأتها الحضارة الحديثة ومنحتها الحرّيات الشخصية بطريقتها الخاصة فهي بالرغم من هذا القناع الظاهري للحرّية لا تملك شيئاً من إرادتها ولا تستطيع أن تتحكّم في وجودها؛ لأنّها لم تحرّر المحتوى الداخلي لها وإنّما استسلمت إلى شهواتها ولذاتها تحت ستار من الحرية الشخصية حتى فقدت حرّيتها إزاء تلك الشهوات واللذات، فلم تستطع أكبر حملة للدعاية ضد الخمر جنّدتها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أن تحرّر الأمة الأمريكية من الخمر، بالرغم من الطاقات المادية والمعنوية الهائلة التي جنّدتها السلطة الحاكمة ومختلف المؤسسات الإجتماعية في هذا السبيل، وليس هذا الفشل المريع إلا نتيجة فقدان الإنسان الغربي للحرية الحقيقية، فهو لا يستطيع أن يقول، لا كلما اقتنع عقلياً بذلك، كالإنسان القرآني، وإنما يقول الكلمة حين تفرض عليه شهوته أن يقولها، ولهذا لم يستطع أن يعتق نفسه من أسر الخمر؛ لأنه لم يكن قد ظفر في ظل الحضارة الغربية بتحرير حقيقي في محتواه الروحي والفكري.
: تحرير الإنسان في النطاق الاجتماعي
وخاض القرآن بعد معركة التحرير الداخلي للإنسانية- بل وإلى صفها أيضاً- معركة التحرير في النطاق الإجتماعي. فكما حطّم في المحتوى الداخلي للإنسان الأصنام التي تسلبه حرّيته الإنسانية، كذلك حطّم الأصنام الإجتماعية وقضى على عبادة الإنسان للإنسان ((قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله)) فعبودية الإنسان للَّه تجعل الناس كلهم يقفون على صعيد واحد بين يدي المعبود الخالق، فلا توجد أمّة لها الحق في استعمار أمّة أخرى واستعبادها، ولا فئة من المجتمع يباح لها اغتصاب فئة أخرى وانتهاك حريتها، ولا إنسان يحقّ له أن ينصب نفسه صنماً للآخرين.
ومرّة أخرى نجد أنّ هذه المعركة القرآنية الثانية من معارك التحرير قد استعين فيها بنفس الطريقة التي استعملت في المعركة الأولى وتستعمل دائماً في كل ملاحم القرآن، وهي التوحيد. فمادام الإنسان يقرّ بالعبودية للَّه وحده فهو يرفض بطبيعة الحال كلّ صنم وكلّ تأليه مزوّر لأيإنسان وكائن، ويرفع رأسه حراً أبياً، ولا يستشعر ذلّ العبودية والهوان أمام أي قوّة من قوى الأرض أو صنم من أصنامها؛ لأنّ ظاهرة الصنميّة في حياة الإنسان نشأت عن سببين: أحدهما عبوديته للشهوة التي تجعله يتنازل عن حرّيته إلى الصنم الإنساني الذي يقدر على إشباع تلك الشهوة وضمانها له، والآخر: جهله بما وراء تلك الاقنعة الصنميّة المتألهة من نقاط الضعف والعجز. والإسلام حين حرّر الإنسان من عبودية الشهوة، وزيّف تلك الاقنعة الخادعة كان طبيعياً أن ينتصر على الصنميّة ويمحو من عقول المسلمين عبودية الأصنام بمختلف أشكالها وألوانها.
: الحرّية في مجال السلوك العملي
وبعد تحرير الإنسان داخلياً من عبوديات الشهوة وتحريره خارجياً من عبوديات الأصنام، سواء كان الصنم أمّة أم فئة أم فرداً يجيء دور الحرّية في مجال السلوك العملي للفرد، وهنا يختلف الإسلام عن الحضارات الغربية الحديثة التي لا تضع لهذه الحرية العملية للفرد حداً إلا حرّيات الأفراد الآخرين، فالإسلام يهتم قبل كل شيء- كما عرفنا- بتحرير السلوك العملي للفرد من عبودية الشهوات أو عبودية الأصنام ويسمح مجال التصرف للفرد كما يشاء، على أن لا يخرج عن حدود اللَّه، فالقرآن يقول: ((خلق لكم ما في الأرض جميعاً))((وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه)) ، وبذلك يضع الكون بأسره تحت تصرف الإنسان وحرّيته، ولكنها حرّية محدودة بالحدود التي تجعلها تتفق مع تحرّره الداخلي من عبودية الشهوة وتحرّره الخارجي من عبودية الأصنام، وأمّا الحرّية العملية في عبادة الشهوة والالتصاق بالأرض ومعانيها والتخلّي عن الحرّية الإنسانية بمعناها الحقيقي، وأما الحرّية العملية في عبادة الأصنام البشرية والتقرب لها والانسياق وراء مصالحها والتخلّي عن الرسالة الحقيقية الكبرى للإنسان في الحياة، فهذا ما لا يأذن به الإسلام؛ لأنّه تحطيم لأعمق معاني الحرّية في الإنسان ولأنّ الإسلام لا يفهم من الحرية إيجاد منطلق للمعاني الحيوانية في الإنسان، وإنما يفهمها بوصفها جزءاً من برنامج فكري وروحي كامل يجب أن تقوم على أساسه الإنسانية.
: معنى عدم الإكراه في الدين
ويسيء البعض فهم القرآن الكريم في هذه الآية((لا إكراه في الدين قد تبيّن الرّشد من الغي)) فيظن أنّ القرآن كفل للإنسان حرّية التدين وعدمه، ومنع من الإكراه عليه أخذاً بمبدأ الحرّية الشخصية الذي تؤمن به الحضارات الحديثة.
ولكن هذا خطأ؛ لأنّ الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان من عبودية الأصنام على أساس التوحيد لا يمكن أن يأذن للإنسان بالتنازل عن أساس حريته والإنغماس في عبوديات الأرض وأصنامها، كما أنّ الإسلام لا يعتبر عقيدة التوحيد مسألة سلوك شخصي خاص كما ترى الحضارات الغربية، بل هي القاعدة الأساسية لكيانه الحضاري كله، فكما لا يمكن للديمقراطية الغربية مهما آمنت بالحرية الشخصية أن تسمح للأفراد بمناوءة فكرة الحرية نفسها، وتبنّي أفكار فاشستية دكتاتورية، كذلك لا يمكن للإسلام أن يقرّ أيّ تمرّد على قاعدته الرئيسية.
وإنما يهدف القرآن الكريم حين ينفي الإكراه في الدين إلى أنّ الرشد قد تبين من الغي، والحق تميز عن الضلال، فلا حاجة إلى إكراه مادام المنار واضحاً والحجة قائمة، والفرق بين الظلام والنور لائحاً لكل أحد، بل لا يمكن الإكراه على الدين؛ لأنّ الدين ليس كلمات جامدة تردّدها الشفاه ولا طقوساً تقليدية تؤدّيها العضلات، وإنما هو عقيدة وكيان ومنهج في التفكير.
تحرير :علي عبد سلمان
المصدر: كتاب المدرسة القرآنية للسيد الشهيد محمد باقر الصدر
https://telegram.me/buratha