المقدمة
((إن الحضارة الغربية بأفكارها ومفاهيمها وكيانها الثقافي عامة قاعدة فكرية تستند إليها وهي (الديمقراطية) أو بالأحرى الحريات الرئيسية في المجالات الفكرية والدينية والسياسية والاقتصادية. فأن هذه الحريات بمفهومها الحضاري الغربي هي حجر الزاوية في ثقافة الغرب والإطار الفكري الذي تدور في نطاقه الأفكار والمفاهيم الغربية عن الإنسان والحياة والكون والمجتمع...)).(1)
إن ما تقدم يدفعنا إلى التساؤل: كيف نظر الإمام إلى الديمقراطية بوصفها ابتداعاً "غربياً"؟ هل كان موقفه الرفض المطلق لها أم القبول التام بها أم إن موقفه جمع بين هذا وذاك؟.
أولاً: فلسفة الديمقراطية
ارتكزت فلسفة الديمقراطية على المحاور التالية:
1. الحرية
2. دور الأمة
3. مبدأ الأكثرية
1. الحرية: ابتداءاً لابد من القول أن الإمام الصدر في رؤيته للديمقراطية بوصفها فلسفة ونظام انطلق من الحرية والتي عرفها بمعناها العام تعني ((نفي سيطرة الغير، فأن هذا المفهوم هو الذي نستطيع أن نجده في كل من الحضارتين، وان أختلف إطاره وقاعدته الفكرية في كل منهما))(2)، ومما تجدر الإشارة إليه إن الإمام تحدث عن الحرية في إطار دراسته لنظام الديمقراطية الرأسمالي مقسماً إياها إلى عدة أقسام هي:
أ. الحرية السياسية:(( تجعل لكل فرد كلامً مسموعاً ورأياً محترماً في تقرير الحياة العامة للأمة...))(3)، ((... أن يكون لكل فرد حق المشاركة في بناء النظام والحكم))(4).
ب. الحرية الاقتصادية: ((والتي ترتكز على الإيمان بالاقتصاد الحر الذي قامت عليه سياسة الباب المفتوح، وتقرر فتح جميع الأبواب وتهيئة كل الميادين... أمم المواطن في المجال الاقتصادي...))(5).
ج. الحرية الفكرية: ((تعني أن يعيش الناس أحراراً في عقائدهم وأفكارهم... دون عائق من السلطة. فالدولة لا تسلب هذه الحرية عن فرد، ولا تمنعه عن ممارسة حقه فيها والإعلان عن أفكاره ومعتقداته، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاد))(6)، ((السماح لأي فرد أن يفكر ويعلن أفكاره ويدعو إليها كما يشاء)). (7)
د. الحرية الشخصية: (( تعبر عن تحرر الإنسان في سلوكه الخاص من مختلف ألوان الضغط والتهديد... فالحد الذي تقف عنده الحرية الشخصية لكل فرد:حرية الآخرين)).(8)
ه. الحرية الدينية: ما هي إلا ((تعبيراً عن الحرية الفكرية في جانبها العقائدي وعن الحرية الشخصية في الجانب العلمي الذي يتصل في الشعائر والسلوك)).(9)
إضافة إلى التقسيم الرئيسي فقد قسم الحرية تقسيماً فرعياً:
أ. الحرية في المجال الشخصي: ((والتي تعالج سلوك الإنسان بوصفه فرداً سواء كان يعيش بصورة مستقلة أو جزءاً من المجتمع)).(10)
ب. الحرية في المجال الاجتماعي: وهي تشمل الحريات الفكرية والسياسية والاقتصادية ((والتي تعالج الإنسان بوصفه فرداً يعيش ضمن الجماعة))(11).
وهكذا فأن الحرية ليست طارئة أو دخيلة في حياة الإنسان إنما هي تعبير حقيقي عن طبيعة الحالة الإنسانية أو هي كما وصفها الإمام ((تعبير عن عاطفة أصيلة في النفس البشرية تشع من كل ثنايا التاريخ حتى تبدو قصة الإنسان نفسه، وكأنها معركة تحرر وتحرير يخوضها على مر الزمان منذ أعماق التاريخ إلى يوم الناس هذا بالرغم من اختلاف أشكال المعركة وألوانها وأهدافها وأساليب القيم الفكرية التي ترتكز عليها))(12).
ومن هنا نجد إن الحرية شكلت محوراً للالتقاء بين الحضارتين الغربية والإسلامية إلا أنهما اختلفا في القاعدة الفكرية التي تقوم عليها الحرية. وكما قال الإمام ((فالإسلام والحضارة الغربية، وان مارسا معاً عملية تحرير الإنسان، ولكنهما يختلفان في القاعدة الفكرية التي يقوم عليها هذا التحرر))(13)
وقد ابتدأ الإمام بعقد مقارنة بين طبيعة المفهوم - أي مفهوم الحرية - في الفكر الغربي والفكر الإسلامي منطلقاً من:
أ. من حيث طبيعة المنهج لكل منهما، ((فالإنسان الغربي في أوربا أقام مفاهيمه على أساس منهج الشك الذي ثار من خلاله على جميع القيم والمفاهيم الدينية والعقائدية ومقررات السلوك التي اعتبرها مرحلة تاريخية عفى عليها الزمن وارتبطت بمرحلة قديمة من مراحل تاريخ البشرية وانتهى بعد هذه الجولة إلى رفض الحقائق والمسلمات ولم يبقى أمامه إلا الإيمان بالجانب الشخصي الذي لا يحده شيء ولا يقيده قانون))(14)، وبهذا أصبحت ((الحرية في مفهوم الغربي هدفاً بحد ذاته خاليه من أي محتوى أو مضمون))(15).
ومن هنا يرى الإمام الصدر إن ((هذا الانطلاق بالحرية لم يدم طويلاً فقد أصبح عبئاً ثقيلاُ على إنسان الغرب وقضت على آماله التي تصورها سابقاً بحيث عملت على ربطه بقيود ثقيلة وقضت على جميع آماله في تحقيق حريته الحقيقية))(16) ووجدت البشرية نفسها ((مدفوعة في عربة تسير باتجاه محدد لا تملك له تغيراً ولا تطويراً وإنما كل سلوتها وعزائها - وهي تطالع مصيرها في طريقها المحدد - إن هناك من قال لها: إن هذه العربة عربة الحرية بالرغم من هذه الأغلال وهذه القيود التي وضعت في يديها))(17).
وهكذا بدأت الحرية الغربية على شكل حالة من التحرر إلا إنها انتهت إلى العبودية والقيود الثقيلة. أما الحرية في المنهج الإسلامي فهي على العكس تماماً فأنها تبدأ من العبودية المطلقة لله تعالى الذي يتكفل بتحرير الإنسان من ألوان القيود ويحرره تحريراً حقيقياً ويرفع به مصاف إنسانيته يمتلك إرادته ويتصرف برغباته وفق مقياس العبودية الحقيقية لله تعالى لتنتهي إلى التحرير من كل أشكال العبودية المهينة(18).
وفي ضوء هذا التمايز بين طبيعة المنهجين نجد إن الحرية في مفهومها الغربي لا تعدو أكثر من إطار يمثل مثلاً أعلى ليس أكثر، في حين إن مفهوم الحرية في المنهج الإسلامي يمتلك المحتوى الحقيقي والمضمون الرائد الذي يعمل على تربيةُ وتحريره من ألوان الانشداد إلى الأرض ومغرياتها وبهذا يكون الإسلام ((قد جاء بمفهوم المحق للحرية وأعلنها ثورة تحريرية كبرى للإنسان ولكنها ليست ثوره على الأغلال والقيود بشكلها الظاهري فحسب، بل على جذورها النفسية والفكرية وبهذا كفل للإنسان أرقى وأسمى أشكال الحرية التي ذاقها الإنسان على مر التاريخ))(19).
وبهذا المعنى العميق لدلالة الحرية يؤدي إلى تصعيد الإنسان وتنمية طاقاته وفق معطيات الإسلام وتعاليمه السامية، وبالتالي أصبحت الحرية في التصور الإسلامي ((تعبير عن يقين مركزي وهو الإيمان بالله تستمد منه الحرية ثورتها، وبقدر ارتكاز هذا اليقين وعمق مدلوله في حياة الإنسان تتضاعف الطاقات الثورية في تلك الحرية))(20).
ب. الحرية في المفهوم الغربي حق طبيعي للإنسان، وللإنسان أن يتناول عن حقه متى شاء، وليست كذلك في مفهومها الإسلامي لان الحرية في الإسلام ترتبط ارتباطاً أساسياً بالعبودية لله، فلا يسمح الإسلام للإنسان أن يستذل ويستكين ويتنازل عن حريته. فالإنسان مسؤول عن حريته في الإسلام وليست الحرية حالة من حالات انعدام المسؤولية(21).
جـ. الحرية في المفهوم الغربي تعتبر كل إنسان هو الذي يملك بحق نفسه، ويستطيع أن يتصرف كما يحلو له، دون أن يخضع في ذلك لأي سلطة خارجية، أما الحرية في الإسلام، فهي تحتفظ بالجانب الثوري من الحرية، وتعمل على تحرير الإنسان من سيطرة الآخرين ويكسر القيود والأغلال التي تكبل يديه(22).
د. الحرية في الإسلام جاءت لتحرر المحتوى الداخلي والخارجي للإنسان، داخلياً ((تحرره من عبادة الشهوة واللذة))(23) وخارجياً ((تحرره من عبوديات الأصنام سواء الصنم امه أم فئة أم فرد))(24)، وهذا بخلاف الحرية بالغرب.
هـ. في مجال السلوك العلمي للفرد، فالحرية الغربية ((لا تضع حداً إلى حريات الأفراد الآخرين))(25)، بينما الحرية في الإسلام ((تسمح للفرد التصرف كما يشاء على أن لا يخرج عن حدود الله))(26).
و. في مجال الحرية الفكرية فحرية الفكر مطلقة في الغرب، أما في الإسلام فهي مطلقة أيضاً ولكن بشرط أن لا تتمثل في التعصب وتقديس الخرافات وعبودية التقليد.
وكما يقول الإمام ((فلا يكفي لتكوين التفكير الحر لدى الإنسان أن يقال له: فكر كما يحلو لك - كما صنعت الحضارة الغربية - لان هذا التوسع في الحرية سوف يكون على حسابها، ويؤدي في كثير من الأحيان إلى ألوان من العبودية الفكرية تتمثل في التقليد والتعصب وتقديس الخرافات، بل لابد في رأي الإسلام لإنشاء الفكر الحر أن ينشأ في الإنسان العقل الاستدلالي أو ألبرهاني لا يتقبل فكره دون تمحيص، ولا يؤمن بعقيدة ما لم تحصل على برهان، ليكون هذا الوعي ضماناً للحرية الفكرية، وعصاماً للإنسان من التفريط بها بدافع من تقليد أو تعصب أو خرافة))(27).
ي. في مجال الحرية الاقتصادية، نادى الإسلام بالحرية الاقتصادية والضمان، ومزج بينهما في تصميم موحد، فالكل أحرار في المجال الاقتصادي، ولكن في حدود خاصة. فليس الفرد حراً حين يتطلب ضمان الأفراد الآخرين والحفاظ على الرفاه العام... التنازل عن شيء من حريته(28).
أما الحرية في النظام الديمقراطي الرأسمالي فقد أدت إلى استغلال الإنسان اقتصادياً والى التفاوت بين الإنسان والإنسان(29).
ما تقدم يبين وبشكل واضح الفرق بين الحريتين، فالقاعدة الفكرية لكل منهما تختلف عن الثانية. ذلك إن القاعدة الأساسية للحرية في الإسلام تقوم على أساس ((التوحيد والإيمان بالعبودية المخلصة لله))(30)، أما القاعدة الأساسية للحرية في الغرب تقوم على أساس (( الإيمان بالإنسان وحده ))(31).
2. دور الأمة: والتي تعد من المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها الفلسفة الديمقراطية. وحول دور الأمة يقول الإمام الصدر: ((إن الأمة هي صاحبة الحق في الرعاية وحمل الأمانة وأفرادها جميعاً متساوون في هذا الحق أمام القانون، ولكل منهم حق التعبير - من خلال ممارسة هذا الحق - عن آرائه وأفكاره وممارسة العمل السياسي بمختلف أشكاله))(32).
يقارن السيد الشهيد حول مسألة الدولة والأمة بين الديمقراطية والإسلام قائلاً: ((الأمة هي مصدر السيادة في النظام الديمقراطي، وهو محط الخلافة ومحط المسؤولية أمام الله تعالى في النظام الإسلامي))(33).
وهنا يأتي الحديث عن نظرية الخلافة ؟ ومفهوم الإسلام الأساسي عن الخلافة: هو إن الله سبحانه وتعالى أناب الجماعة البشرية في الحكم، وقيادة الكون، وأعماره اجتماعياً وطبيعياً، وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم، وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفةً عن الله(34).
وعملية الاستخلاف الرباني للجماعة على الأرض تعني كما يتحدث الإمام(35):
أولاً: انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد هو المستخلف...وهذا هو التوحيد الخالص الذي يقوم على أساسه الإسلام...
ثانياً: إقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت.
ثالثاً: تجسيد روح الإخوة العامة في كل العلاقات الاجتماعية... فما دام الله سبحانه وتعالى واحد ولا سيادة إلا له والناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن يكونوا إخوة متكافئين في الكرامة الإنسانية والحقوق...
رابعاً: إن الخلافة استئمان، ولهذا عبر القرآن الكريم عنها... بالأمانة، والأمانة تفرض المسؤولية والإحساس بالواجب.
هذه هي نظرية الخلافة في المفهوم الإسلامي وهنا يبرز الفرق في مفهوم الأمة في النظام الإسلامي والنظام الديمقراطي:
أ. فالجماعة الإنسانية في المفهوم الإسلامي هي الخليفة، أما في المفهوم الديمقراطي هي الحاكمة.
ب. الجماعة في هذه الأنظمة - الديمقراطية هي صاحبة السيادة، ولا تنوب عن الله في ممارساتها، ويترتب على ذلك إنها ليست مسؤولة بين يدي أحد، وغير ملزمة بمقياس موضوعي في الحكم، وعلى العكس من ذلك حكم الجماعة القائم على أساس الاستخلاف فأنه حكم مسؤول والجماعة في ملزمة بتطبيق الحق والعدل ورفض الظلم والطغيان وليست مخيرة بين هذا وذاك(36).
ج. الأمة في النظام الديمقراطي هي مصدر السلطات جميعاً. في حين ((أن الله تعالى هو مصدر السلطات جميعاً))(32).
د. الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع في حين الأمة هي مصدر التشريع في النظام الديمقراطي.
هـ. ((إن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قد أسندت ممارستها إلى الأمة، فالأمة ي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين))(38)، أما حق ممارسة السلطتين التشريعية والتنفيذية في النظام الديمقراطي تعود ممارستها إلى مصدرها الأمة.
و. وفيما يتعلق بدستورية الحكومة الإسلامية والفرق بينهما وبين دستورية الحكومات الديمقراطية يقول الإمام: ((الدستور كله من صنع الإنسان في النظام الديمقراطي، ويمثل على أفضل تقدير، وفي لحظات مثالية تحكم الأكثرية في الأقلية، بينما تمثل الأجزاء الثابتة من الدستور شريعة الله تعالى وعدالته التي تتضمن موضوعية الدستور وعدم تحيزه))(39).
3. مبدأ الأكثرية: والتي تعد من المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها الفلسفة الديمقراطية.
يقول الإمام: ((لا ننكر إن مبدأ الأكثرية من المبادئ التي يتفق عليها الجميع، فتحرص الأقلية على تنفيذ رأي الأكثرية باعتباره الرأي
الأكثر أنصاراً، وان كانت في نفس الوقت تؤمن بوجهة رأي أخرى، وتعمل لكسب الأكثرية إلى جانبه...))(40).
لكنه وجد مبدأ الأكثرية في الحضارة الغربية اتجه إلى:
أ. ((لون من ألوان الاستبداد والفردية في الحكم))(41).
ب. ((تحكم الأكثرية في الأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية))(42).
ج. ((امتلاك الأكثرية لزمام الحكم والتشريع))(43).
أي إن الإمام رفض استبداد الأكثرية بالأقلية، وبالمقابل فقد خشى الإمام من إمكانية استأثار الأقلية بالحكم واستبدادها بالأكثرية ذلك إن الحرية الاقتصادية التي تنادي بها الرأسمالية ستؤدي إلى حدوث انقسام فظيع بين طبقات المجتمع مما ينجم عنه في نهاية الأمر سيطرة الأقلية على الموقف والإمساك بزمام الأمور وقهر الحرية السياسية ((فأن الفئة الرأسمالية - بحكم مركزها الاقتصادي في المجتمع، وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية وتمكنها من شراء الأنصار والأعوان تهيمن على مقاليد الحكم في الأمة، وتتسلم السلطة لتسخرها إلى مصالحها...))(44)
وهكذا رفض الإسلام الإيمان بهذه الفكرة الأساسية في الحضارة الغربية لأنه يقوم على العقيدة بعبودية الإنسان لله فليس للفرد ولا لمجموع أن يستأثر من دون الله بالحكم والتوجيه بالحياة الاجتماعية ووضع مناهجها ودساتيرها. ولذلك نجد أن القرآن الكريم شجب حكم فرعون والمجتمع الذي كان يحكمه لأنه يمثل سيطرة الفرد في الحكم وسيطرة طبقة على سائر الطبقات(45).
https://telegram.me/buratha