مفتتح
قليلة هي الشخصيات العلمية والفكرية والسياسية، التي تترك بصمات واضحة وتأثيرات عميقة في واقع مجتمعاتها وأممها. وذلك لأن خلق التأثير العميق على هذا الصعيد، بحاجة إلى إنجازات نوعية وشاملة وعميقة، حتى يتحقَّق مفهوم التأثير العميق والدائم. ومن هذه الشخصيات التي تركت ولا زالت تأثيرات عميقة في مسيرة الأمة الإسلامية بشكل عام والشعب الإيراني المسلم بشكل خاص هو الإمام الراحل السيد روح الله الموسوي الخميني (قدس سره) الذي تمكَّن في بعدين أساسيين من ترك بصمات واضحة وتأثيرات صريحة في مسيرة الأمة. وهذان البعدان هما:
1- البعد العلمي - الفقهي، حيث إن الإمام الخميني من مراجع الدين وفقهاء الأمة وعلماء العصر، الذي ترك تأثيراً علميًّا في مسيرة الحوزات والمعاهد العلمية والبحثية، ولا زالت نظرياته وتصوراته الفقهية والعلمية محلَّ دراسة وعناية من قبل العديد من المهتمين والمختصين. كما أن نظريته في الفقه السياسي، لا زالت تسير بخطى حثيثة في نظام الجمهورية الإسلامية في إيران والتي التزمت منذ انتصار الثورة في عام 1979م بنظريته السياسية في إدارة البلاد والعباد.
2- البعد السياسي، حيث إن الإمام الخميني رضوان الله عليه، لم ينعزل عن قضايا الأمة وإنما تفاعل معها، وتحمّل وجاهد في محاربة الاستبداد السياسي وتمكَّن بفضل حنكته وصبره وشجاعته وصمود وتضحيات الشعب الإيراني المسلم من صنع ثورة شعبية في إيران، أسقطت الإمبراطورية الشاهنشاهية، وخلَّصت الشعب الإيراني من ظلم واستبداد الشاه ونظامه. لم تتوقَّف جهود الإمام الخميني بإسقاط الشاه وقيادة ثورة شعبية. وإنما عمل بعد ذلك على إرساء دعائم نظام جمهوري يستمد شرعيته من الشريعة والشعب.
فالإمام الراحل في نظريته السياسية لم يتخلَّ عن حق الفقيه وواجبه في آن في التصدي لشؤون الأمة العامة، والإشراف على سير مؤسسات الدولة ومراقبة أدائها. وفي الوقت نفسه لم يتجاوز حق الناس في اختيار شكل نظامهم السياسي والأشخاص الذين يتحملوا المسؤوليات العامة في الدولة.
لذلك نجد على الصعيد الواقعي أن الإمام الخميني كفقيه له ولاية شرعية على شؤون الأمة، مارس هذا الحق وثبَّت ولاية الفقيه كرأس للنظام الدستوري والسياسي للجمهورية الإسلامية، كما أنه أرسى معالم الانتخاب المباشر، وحمَّل الشعب الإيراني مسؤولية اختيار حكّامه ومسؤوليه. وبهذا المركَّب تمكَّن الإمام الخميني (قدس سره) على هذا الصعيد من الوفاء بالشروط والمتطلبات الشرعية للحاكم وفق الرؤية الشرعية - الإسلامية، كما أنه التزم بمقتضيات الممارسة الديمقراطية التي تُعطي للناس حق الاختيار والانتحاب ومراقبة المسؤولين ومحاسبتهم.
ولعل من أهم الميزات التي تُميّز هذه الشخصية الربانية الرائعة، هو حضورها الدائم في الساحة والتصدي النوعي لكل شؤون الناس.. فاهتمامه العرفاني والفلسفي لم يمنعه من التعاطي مع الشأن السياسي من موقع المبادرة ومكافحة الظلم والاستبداد بكل أشكاله ومستوياته. كما أن مرجعيته الدينية وفقاهته لم تمنعانه من الإنصات إلى قضايا الناس وحاجاتهم الملحة.
لذلك فإننا نستطيع القول: إن شخصية الإمام الخميني (قدس سره) هي من الشخصيات المتكاملة التي جمعت بين العلم والعمل، بين الفقاهة والسياسة، بين العرفان وقضايا الناس. لذلك أضحى بحق نموذجاً فريداً على أكثر من صعيد. ولم تستطع كل ضغوطات الدنيا أن تحول بينه وبين العمل للوصول إلى أهدافه وغاياته، فقاوم النظام الشاهنشاهي من موقع المسؤولية الشرعية، وتحمَّل في سبيل ذلك ألواناً هائلة من الضغوطات والصعوبات، ولكن جميعها لم تثنهِ عن مواصلة الدرب وتحقيق المنجز الإسلامي المعاصر.
وفي سياق بناء الدولة الجديدة واجهته الصعوبات الجمَّة والمؤامرات المحلية والإقليمية والدولية، ولكنه كان صلباً لا تُزحزحه الهزائز، وكانت بصيرته الثاقبة دوماً صوب البناء والتنمية وتحقيق حلم الأنبياء والأئمة والمصلحين عبر التاريخ.
وقاد الإمام الراحل باقتدار وحكمة الشعب الإيراني بعد الانتصار العظيم في بناء دولة جديدة لا زالت هي التي تقود الشعب الإيراني وتحافظ على أمنه ومصالحه الاستراتيجية. ولقد تميَّز الإمام الخميني في مختلف أطوار حياته بصفات نفسية وسلوكية متميزة واستثنائية، فهو فقيه الفلاسفة وفيلسوف الفقهاء، كما هو القائد السياسي الفذ الذي قاد ركب الثورة الإسلامية في إيران، وأخرجها بحنكته وحكمته من الكثير من المحن والابتلاءات. وسيَّج هذه الملاكات والقدرات بالتواضع الجمّ وحبّ الناس والزهد في الدنيا والتعفّف عن مباهج الحياة وزخرفها. فبفضل الأبعاد الفقيه والعلمية والسياسية والإدارية والميدانية، التي تجسدت في شخصية الإمام الخميني ترك بصمات واضحة في مسيرة الشعب الإيراني والأمة الإسلامية. وبفضل الجهاد العلمي والسياسي والتصدّي المباشر الذي باشره الإمام الخميني (قدس سره) خلال سنين طويلة من حياته، فقد تبوَّأ موقعاً مركزيًّا أساسيًّا في المشروع الإسلامي المعاصر.. فهو بحق أحد رواد هذا المشروع وأبرز صنّاع العصر الإسلامي الراهن.
وما أحوجنا اليوم وفي ظل هذه الظروف الحساسة التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم، من دراسة تجارب العلماء والعظماء، والتعرُّف على منجزاتهم، واستلهام خبراتهم العلمية والسياسية.
ونود في هذا السياق أن نتحدَّث عن (مفهوم الحرية عند الإمام الراحل)، وذلك لأن الظلم والاستبداد بمتوالياتهما النفسية والمجتمعية، هما السبب الأول لدمار المدنيات والحضارات. إذ قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾[1]. لذلك لا يمكن أن تنمو مدنية أو تتطوّر أمة وهي تعيش الظلم. لأن الظلم يمنع الإنسان فرداً أو جماعة من ممارسة دوره وتأدية وظيفته، ويحول دون انطلاق الإنسان في عملية البناء والتنمية. فحيثما حل الظلم، حل الفشل والتدمير ولو بعد حين.
لذلك فإن التقدّم الحضاري، يتطلّب باستمرار تنقية الواقع من كل أشكال الظلم والعدوان والاستبداد.
و«الفقيه المسلم مسؤول في أن تكون له (حيلة) واسعة حتى لا يقع في حبائل الحيل الشرعية، وحتى يحافظ على الشريعة الإسلامية بوصفها قوة تحرير للإنسان لا تعيقه ولا تعرقل مسيرته في السعي إلى تحقيق ذاته، بما يتناسب مع المهام العظيمة التي أسندها الله له على هذه الأرض أي مهام الاستخلاف ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ﴾.
إن الفقيه المسلم ليس فقيهاً وحسب، إنه صاحب رسالة هدفها تحرير الإنسان والاجتماع الإنساني، وهذا العنصر (أي العنصر الرسالي) في شخصية الفقيه ليس مفصولاً عن اختصاصه الفقهي، إنه عصب هذا الاختصاص فهو -أذن- مسؤول عن مهمات كثيرة ومنها أن يساهم في إنجاز أطروحة فقهية، تتَّسع لا لتحرير الإنسان من أغلال الشرائع السابقة فحسب، بل من أغلال الشرائع الراهنة الوضعية البشرية التي ما زالت تتحكَّم في إنتاجها موازين القوة داخل الاجتماع الإنساني، بما يجعل الإنسان مفتقراً إلى روح العدل والمساواة وسائر الحقوق التي لم تُنجز منها عصورنا الحديثة إلَّا القليل.
إن فقهاً إسلاميًّا يخاطب الاجتماع الإنساني من هذه الزاوية هو من أفضل وجوه تجديد المشروع الاسلامي، سواء داخل المجتمع الاسلامي أو في البعد العالمي لهذا المشروع»[2]. فالمهمة الكبرى الملقاة اليوم على الفقهاء والعلماء والمفكرين الإسلاميين، هي صياغة تصوراتهم ونظرياتهم ومشروعاتهم الفكرية والسياسية والمجتمعية، على قاعدة أن مهمتهم الأساسية هي المشاركة في تحرير الإنسان الفرد والجماعة من كل الأغلال والعقبات التي تحول دون عبادة الله سبحانه وتعالى، وتسعى نحو أن تكون تصرفات الإنسان متطابقة ومنسجمة وقيم الإسلام ومثله العليا.
مكونات الحرية
وبإمكاننا أن نُوضِّح رؤية الإمام الراحل للحرية من خلال النقاط التالية:
1- نبذ الظلم والوقوف بحزم ضد كل سياسات الاستبداد والاستئثار بالقرار والسياسة؛ وذلك لأنه لا يمكن أن تُبنى الحرية دون مقاومة الظلم ومجابهة الاستبداد. فبوابة إرساء معالم الحرية في المجتمع هي مقاومة الظلم وتفكيك ظاهرة الاستبداد. والرؤية السياسية التي تُبرِّر الظلم وتُسوِّغ سياسات الإقصاء والنفي وتغييب الحريات العامة، لا تنسجم ومقاصد الشريعة. وإن وجود هذه الرؤية في الموروث السياسي الاسلامي، لا يعني بأي حال من الأحوال أنها مصنوعة على قاعدة مقاصد الشريعة، بل هي وليدة ملابسات تاريخية وسياسية أقل ما يقال عنها: إنها لا تنسجم وقيم الإسلام.
إننا مطالبون أن نُحرِّر تصوراتنا السياسية من تلك الملابسات التاريخية والوقائع المجتمعية التي صاغت تصوراتنا وفق حاجات السلطة وأهوائها ومصالحها، ومارست القطيعة مع الإسلام وقيمه في الحرية والسياسة. فكل رؤية تتَّجه إلى تغييب الحريات العامة للناس وتحول دون مشاركتهم في تقرير مصيرهم ومستقبلهم، هي رؤية تساهم في تغييب جوهر الإسلام وتصوراته الحضارية، التي تُكرِّم الإنسان وتمنحه الحرية التامة في التعبير عن آرائه وقناعاته، بعيداً عن ضغوطات الواقع ومصالح السلطة.
لذلك نجد أن الإمام الخميني (رحمه الله) وفي أطوار حياته المختلفة، نابذاً للظلم والاستفراد بالسلطة ومقاوماً ومحارباً لحالة الطغيان السياسي. وذلك لأنها من صميم رؤيته للحرية وفق الرؤية الإسلامية الشرعية.. فالحرية في رؤية الإمام الراحل تبدأ بمقاومة الظلم ومجابهة الطغيان، وتعبئة الجماهير وتوعيتهم باتِّجاه رفض الاستبداد بكل أشكاله وألوانه.
ويقول الإمام الخميني في صدد نفي الظلم وأصل الحرية والبراءة: «لقد تم الاستدلال على البراءة بأدلة مصادر التشريع الأربعة (القرآن والسنة والإجماع والعقل)، أما من القرآن الكريم يقول في الآية (15) من سورة الإسراء: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، فهذه الآية الكريمة هي في صدد تنزيه الخالق سبحانه عن الظلم، وهي تُبيِّن أن إنزال العقاب بأحد قبل إلقاء الحجة عليه عن طريق بيان الحكم الشرعي له ينافي مقام الربوبية، وبتوضيح أكثر تُبيِّن هذه الآية الكريمة أن إنزال العذاب بالعباد لمخالفتهم حكماً إلهيًّا قبل تبيين هذا الحكم لهم يكون إما منافياً لعدل الله وقسطه وأما منافياً لرحمته وإحسانه ولطفه بعباده. وأما الدليل العقلي على أصل البراءة فليس هناك أدنى شك بأن العقل يحكم بقباحة إنزال العذاب بالعباد قبل تبيين الحكم لهم، أي قبل إلقاء الحجة عليهم»[3].
فالتحرُّر النفسي والسلوكي هو طريق الحرية. ولا يمكن أن يُنجز الحرية من يعيش الخضوع الأعمى لأهوائه وشهواته ونزواته. فالتحرر المعنوي هو طريق بناء الحرية في الواقع السياسي والاجتماعي للمسلمين. فمن يبحث عن الحرية الخارجية ينبغي أن يتحرَّر من ضغوطات الأهواء والشهوات، لأن هذا التحرُّر هو السبيل لبناء الحرية في السياسة والاقتصاد والثقافة. ويذكر الأخ الأكبر للإمام السيد مرتضى «أن السيد روح الله، ومنذ سنين حياته الأولى، كان قد سمع بأذنه وأدرك بوعيه، أن أباه راح ضحية النضال ضد الظلم. وحينها طاف في رحاب التاريخ، أدرك أن الأديان جاءت لتعظ الآلاف المؤلفة وتعلمهم الدروس والعبر. وعبر ذلك ومن خلال وعي التوحيد -الذي يمثل الدرس الأول والأخير للأديان الإبراهيمية- تلفت الأنظار إلى عدم إمكانية المصالحة مع الظلمة والظلم مطلقاً. وقد آمن روح الله بذلك بقوة، حتى أنه قال في أواخر عمره، حيث تضعف الشيخوخة في الغالب حماس المناضلين الكبار وتجعلهم صوفيي المزاج، بنفس مقدار حماس الشباب واندفاعه: بالنسبة لي لا أعير أهمية للمكان، المهم هو الصراع ضد الظلم. فأينما يكون هذا الصراع، سأكون هناك»[4].
وفي خطاب للإمام الراحل أمام لفيف من علماء الدين والجامعيين قال فيه: «لا ينفع علم التوحيد مع غياب التهذيب، العلم هو الحجاب الأكبر. فكلما تراكم العلم -حتى علم التوحيد الذي هو أسمى العلوم- في عقل الإنسان وقلبه، فإنه سيقضيه عن الله تبارك وتعالى إذا لم يكن ذلك الإنسان مهذباً. هل تعلمون من الذي حاكم المرحوم الشيخ فضل الله نوري؟ حاكمه معمم زنجاني -ملا زنجاني- وأصدر حكماً بقتله. فحينما يكون المعمم والملا غير مهذب، فإن فساده أكبر من الجميع. ففي الروايات أن بعض أهل جهنم يتعذّبون بالرائحة النتنة لبعض المعممين، والدنيا في عذاب أيضاً من نتن بعضهم»[5].
2- المصالحة بين الدين والحرية: لعلنا لا نأتي بجديد أن الإمام الخميني (قدس سره)، واجه الكثير من الصعوبات والعقبات الثقافية والاجتماعية، التي تنزع مشروعية عمله وكفاحه وجهاده، وتدق إسفيناً في أنشطته الثقافية والتوعوية. بدعوى أن ما يقوم به الإمام الراحل من جهد وجهاد، يناقض وظيفة الفقيه وعالم الدين، وإن أنشطة الإمام تعود بالضرر الكبير على المجتمع الديني والحوزة العلمية بالذات.
فالثقافة الدينية السائدة آنذاك، لا تدفع الفقيه إلى التصدي لشؤون الأمة والدخول في المعترك السياسي.. فهي ثقافة دينية - تقليدية تكتفي بالاهتمام بالجوانب الشخصية والشكلية للإنسان الفرد، دون أن تتعداه إلى شؤون المجتمع والأمة المختلفة. وكانت قيم الدين ومبادئه، تُصوَّر وكأنها مناقضة لتلك الجهود والأنشطة الفردية والمؤسسية التي تُطالب بالحرية والعدالة.
ولعل من أهم الجهود التي بذلها الإمام الراحل على هذا الصعيد، هي مصالحة الثقافة الدينية مع الحرية والعدالة الاجتماعية، عبر خلق وبلورة خطاب ديني جديد يُؤصِّل لمفاهيم الحرية والعدالة، ويُعيد صياغة العلاقة بين مقتضيات الدين ومتطلبات الحرية والعدالة. فالدين في جوهره ومعناه العميق، هو الحرية والعدالة. ولكن ولاعتبارات تاريخية وسياسية وثقافية، تشكَّلت ثقافة دينية مناقضة لمفهوم الحرية ومحاربة كل الجهود التي يبذلها أبناء الأمة للمطالبة بإنصافهم وحرياتهم العامة.
فحركة الإمام الخميني الثقافية والسياسية تتَّجه صوب تنوير الساحة الدينية، وتحميلها مسؤولية مركزية في عملية التصدي للظلم والظالمين. لذلك نستطيع القول: إن حركة الإمام الخميني (رحمه الله)، ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في تنمية الإنتاج الثقافي والمعرفي الديني، الذي يتَّجه إلى تطوير الوعي السياسي والاجتماعي المناقض للاستبداد السياسي والمساهم في تعميق الخيار الديمقراطي في مستويات الحياة المتعددة.
ويقول الإمام الراحل في هذا السياق لو أن فقيهاً مارس الديكتاتورية في حالة واحدة لسقطت ولايته[6].
ومن هنا فإننا نعتقد أن تفكيك الاستبداد السياسي من واقعنا العام، يتطلَّب العمل على خلق معرفة وثقافة دينية جديدة، تبلور خيار الحرية، وتُفكِّك كل السياقات الثقافية والاجتماعية المُولِّدة لظاهرة الاستئثار والاستبداد. والفكر الاسلامي المعاصر ينبغي ألَّا يكون منعزلاً أو بعيداً عن قضايا الحرية والديمقراطية، ونقد الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله. وإنما من المهم الاستفادة من القيم التحررية التي يتضمنها الدين الاسلامي، والعمل على بلورتها في سياق خطاب إسلامي، يتَّجه صوب تفكيك الاستبداد وخلق حقائق الحرية في الفضاء الاجتماعي. فالدين الاسلامي بقيمه ومبادئه ونظمه، هو مناقض جوهري لنزعة الهيمنة والتسلط السياسي. والتوجيهات الإسلامية تحث الإنسان على رفض الذل والخضوع للظلم والاستبداد. فقد جاء في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يُغفر، وظلم لا يُترك، وظلم مغفور لا يُطلب. فأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك بالله، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾. وأما الظلم الذي يُغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات. وأما الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم بعضاً. القصاص هناك شديد، ليس هو جرحاً بالمدى ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يستصغر ذلك معه. فإياكم والتلوّن في دين الله فإنه جماعة فيها تكرهون من الحق خير من فرقة فيها تحبون من الظلم»[7].
فالإسلام لا يُشرِّع للظلم والاستبداد، بل يدعو المسلمين إلى رفض الظلم ومقاومة الاستبداد ونشر المساواة والعدالة في كل الأحوال والظروف. فحينما انتصرت الثورة الإسلامية، كان الإمام الراحل «يعلم عن تجربة أن مستوى فهم الشعب للدين ليس متساوياً، فربما يتجاوز البعض الحدود، لهذا -وبنفس الحزم الذي أعلن فيه: أن (على الشاه أن يرحل)- أمر ألَّا ينتقم أحد من أحد، وألَّا يحرق أحد أو ينهب بيتاً. فإذا كان هناك مذنب فلا بد من اعتقاله، لكن دون أن يلحق أدنى ضرر بزوجته وأبنائه».
فالظلم لا يُواجه بالظلم المقابل، بل بالحرية وتشجيع الناس لممارستها، ذلك لأن متوالياتها هي الكفيلة بتفكيك ظاهرة الظلم والاستبداد. ومقتضى المصالحة بين الدين والحرية، أو بتعبير أكثر دقة: إن إبراز قيم التحرر والحرية في الدين الاسلامي، تقتضيان الانفتاح والتواصل مع منجزات العصر، وعدم خلق حواجز نفسية أو معرفية تحول دون الاستفادة من المكاسب العلمية والتقنية التي صنعتها الحضارة الحديثة. ولقد أشار الإمام الراحل في الخطاب الذي أدلى به إلى الشعب الإيراني في جنة الزهراء حين عودته إلى إيران من المنفى، إلى السينما كنموذج إلى تلك القضايا والعناوين التي كانت تشغل بال وعقل العاملين في الحقل الديني آنذاك. إذ قال «السينما في بلادنا مركز للفحشاء، نحن لا نعارض السينما وإنما نعارض مركز الفحشاء؛ نحن لا نعارض المذياع وإنما نعارض الفحشاء، نحن لا نعارض التلفزيون وإنما نعارض ذلك الذي يصب في خدمة الأجانب ويقود إلى تخلّف شبابنا ويهدد طاقاتنا الإنسانية»[8]. والنظام السياسي الذي أرسى دعائمه ومعالمه الإمام الراحل، كان مرتكز على حقيقة المصالحة بين الدين والحرية.
لذلك نجد أن الخطوات الأساسية والمفصلية لهذا النظام في أسسه الدستورية أو في طبيعة الأشخاص الذين سيمارسون المسؤولية العامة، لأن الاختيار الشعبي والانتخاب المباشر من الناس هو السبيل الوحيد لذلك. حتى على اسم النظام وطبيعته الهيكلية والسياسية، حمل الإمام الراحل الشعب الإيراني مسؤولية الاختيار. ولا زلنا نحن أبناء هذا الجيل نتذكر ملحمة الديمقراطية الأولى في إيران المعاصرة، حينما نزل الملايين من الشعب الإيراني إلى صناديق الاقتراع للاستفتاء على النظام المقترح للدولة في إيران.
3- إن الحرية ليست أشكالاً وأطراً سياسية واجتماعية فحسب، بل هي وقبل كل شيء قناعة وفكرة وسلوك. فالحرية تبدأ من الإنسان نفسه. فحينما يكون قلب المرء طاهراً وبعيداً عن كل الأهواء والشهوات، فإنه يتمكَّن من التحرُّر والانعتاق من كل ضغوطات السياسة والمال والقوة.
فحجر الزاوية في مشروع الحرية في الرؤية الإسلامية، هو أن تحرّر الإنسان نفسه، وألَّا يكون خاضعاً لشهوة أو عبداً لنزوة وإنما علاقته شديدة بالله عز وجل. فالإنسان نفسه هو الذي يُقرِّر أن يكون حرًّا أو عبداً، وموالياً لأولياء الله أو معادياً لهم. ولعل في الحديث الشريف التالي إشارة إلى هذا المعنى، إذ جاء فيه «إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فإن كان قلبك يُوالي أولياء الله ويُعادي أعداء الله، ففيك الخير، والله يحبك، وإن كان قلبك يُوالي أعداء الله ويُعادي أولياء الله فليس فيك خير، والله يبغضك، والمرء مع من أحب». فالمعادلة بكل مستوياتها، تبدأ من الإنسان نفسه. فهو الذي يُقرِّر شكل حياته ونمط اختياراته والتزاماته الخاصة والعامة.. والحرية الحقيقية للإنسان تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما. وذلك لأن التطلُّع إلى الحرية دون الثقة بالذات والعقل، تحوَّل هذا التطلُّع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين دون هدى وبصيرة. لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته، ويفجر طاقاته المكنونة، لن يستطيع من اجتراح تجربته في الحرية وبناء واقعه العام على قاعدة الديمقراطية والشراكة بكل مستوياتها.
فالحرية من مرتكزات فكر الإمام الراحل ورؤيته السياسية والحضارية، لذلك كان في مختلف أطوار حياته مدافعاً عن الحرية ومنافحاً عن حقوق الناس، وبذل كل الجهود والإمكانات حتى يتخلَّص الشعب الإيراني المسلم من الاستبداد السياسي والقهر الذي مارسه النظام الشاهنشاهي. ولقد تحقَّق حلم الأمة بانتصار الثورة الإسلامية في إيران، بقيادة الإمام الراحل الذي واصل مسيرة البناء والتنمية، وتجاوز كل مخططات الاستعمار ومؤامراته التي لا تألوا جهداً من أجل إسقاط هذه التجربة الفتية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة القصص، الآية 59.
[2] مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الثامن، ص 52، 1999م.
[3] رضوان زيادة، الإسلام والفكر السياسي - الديمقراطية - الغرب - إيران، ص 129 - 130، المركز الثقافي العربي، بيروت 2000م.
[4] الدكتور علي قادري، الخميني - روح الله - سيرة ذاتية، الجزء الأول، تعريب منير مسعودي، ص 102، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني.
[5] المصدر السابق، ص 179.
[6] المصدر السابق، ص 366.
[7] محمدي الريشهري، ميزان الحكمة، المجلد الخامس، ص 601، الدار الإسلامية، لبنان.
[8] الدكتور علي قادري، مصدر سابق، ص 133.
تح/ علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha