مقدمـة :
أمام التلوينات المختلفة والمتخالفة للفكر، وأمام المنطلقات والمعايير التي تفصل بين الغرب والإسلام، وأمام ما احتوت عليه قيم الحداثة المتمحورة حول العقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، يمكننا على كل حال، ضرورة استيعاب الدينامية الداخلية والخارجية لمختلف المفاهيم التي تعمل على تحريك صيرورة المجتمع في اتجاهه العمودي والأفقي، ولكن هذا التعاطي لا نجده مجديًا في مجتمعاتنا، للإنعزالية والانزوائية التي تخترقنا وتخنقنا، لانقساماتنا والمجاهيل التي تسد طريق الإبداع والتفكير، وفي هذا المقام تتطلع التجربة المهدوية إلى طرح جزئي تعاود قراءة القيم في استعادة أمل قد همشناه، وبكل خطواتها الجريئة التي تعتمد على الإصرار والوثوق، وإتيانها لخطة المستقبل بكل أبعاده الاستشراقية، قصد التغيير الذي يحمل في طياته معنى الخلاص والنجاة من الأنظمة القهرية الاستبدادية، وتفشي حالة الإحباط والخوف التي ازدادت رسوخًا. فكرست انتهاك حقوق الإنسان واحتكار الديمقراطية والتسلح. وأصبحت الحياة بلا معنى في مجتمع يفتقد وجوده ورغبته نحو الحراك والانجاز، فكان مصبها هو اجتراح منافذ وأدوات من أجل التغيير، ومن المسلم به أنّ الإنسان لا يمكن إحداث تغيير في الحياة والأحياء والوقائع ما لم يتغير هو أولاً، قصد البحث عن مركزية للتمركز.
فهل باستطاعته التجربة المهدوية أن تزعزع هذا التمركز ؟
وهل بإمكانها إعادة صناعة التاريخ ؟.
ولدراسة هذا الإشكال قسمنا البحث إلى :
- مقدمـة.
- المبحث الأول : التجربة المهدويّة المنطلقات والمعاييـر
- المبحث الثاني : المستوى لمعرفي لقراءة التجربة المهدوية.
- خـاتمة :
- البحث الأول : التجربة المهدويّة المنطلقات والمعاييـر
مثلما ننتمي إلى العالم، فإننا ننتمي إلى نصه، ومثلما ننتمي إلى تاريخنا، فإننا ندخل في نصه، والدخول لا يعني بلا وعي، بل الوعي الذي يستحضر جميع المفهومات التأويلية للظاهرة التّي نتحدث عنها، كما لا نتقبل دون أن نثير تساؤولات حول عمق هذه التجربة، ومدى حساسيتها، وتجليها، وشهودها على جميع أنماط الوجود.
إنّ الحديث عن المهدويّة كنظريّة، وعلى فكرة الخلاص كمضمون لها، هو الحديث عن تحدي، للذات، وتحدي للموضوع، وهذا التحدي هو استرجاع للوعي قصد نقده، وتفكيكه وتأويله، لكي يتسنى لنا تطويع مختلف الإرادات والممكنات حول هذه التجربة وتميزها عن سائر التجارب في الفكر العالمي.
كما أنّ هذا التوجه يدفعنا إلى فهم الفهم الذي يجليه العقل الحصيف كما يقر ديكارت لأنّ المشكلة تتعلق بين الجزئي والكلي، وبين العام والخاص، وبين الفاضل والمفضول، وبين الصالح والأصلح، وفي هذا المقام يتحدد دور الفعل التاريخي الذي يدخل في صناعة الأوضاع وإعادة بناءها وتوجيها من جديد، في ظل غياب من يدفع الأمة إلى الحراك، قصد تحمل المسؤولية أو النيابة عنه، وبالتالي البحث عن خطاب جديد يتضمن تأطير الأفراد وتوجيههم نحو أدق القضايا المصيريّة والقضايا الوجودية الكبرى، التي تتمركز حول الحياه والموت والعالم، وكذلك حول معنى إنسان وعلاقاته بالمتعالي. وما وراء العالم، وبالتالي البحث عن شكل من أشكال الوعي الذي يعكس في مكانه مطالب للخلاص سواء كانت فرديّة، مثلما يتجلى الأمر في مشاريع الحركات الإصلاحية والتي كانت منطلقاتها صوفية روحيّة كتجربة المهدي بن تومرت، والأمير عبد القادر الجزائري، وتجربة رئيس حزب الله الشيخ حسن نصر الله، أو يكون هذا الوعي في صيغته العامة يبحث عن بديل غائب في غائب لابد أن يكون دافعًا للتعبير عن روح زمنه، ولكي نلتمس منه الأسئلة والأجوبة في الوقت نفسه، أمام التحديات التي تطرحها كبرى القضايا المحلية والعالميّة.
إنّ الموضوع كما يرى هيدغر، لا يمكننا أن نرغمه من جانبنا على المجيء، حتّى في أفضل المحالات، حتّى ندركه ونفهمه بعمقٍ، كما لا ننتظر، حتّى يتوجه إلينا، وهذا الانتظار ما هو إلاّ نسق التأمل الباطني الذي مستقر الكثير من الذوات، كما لا يعني التلمص والابتعاد عنه بل الانتظار(*) هو التفكير في جميع الجهات والممارسات التي تخدم المجتمع، وبالمصلحة التي يقتضيها الدّين، كما لا ندخله أي - الانتظار- في شراك التعطيل، حيث تتعطل جميع مصالح الفرد والمجتمع، في الوقت الذي أصبح العالم قرية واحدة، يشهد عليها الانفجار الرقمي والمعلوماتي.
- ليس هناك فهمًا خالصًا أو رؤية للتاريخ، دون الإشارة أو الإحالة إلى الحاضر، بل إنّ فهم التاريخ ورؤيته لا يتمان أبدًا إلاّ من خلال ذلك الوعي الذي يقف في الحاضر والذي عبر عنه هيغل على أنّه : (البحث الذي لم يعد يعرف شيئًا يعلو على يقينه الباطني أو اقتناعه الذاتي، فنحن إزاء ذاتٍ قد تحللت من كل واجب محددٍ يمكن أن تكون له قيمة القانون، لأنّها قد أصبحت تملك من قوة اليقين الذاتي ما يجعلها تتصف بأعلى صورة من صور بالاستقلال الذاتي) ([1]).
ولكن أين صورة الاستقلال الموضوعي الذي تتلاقى فيه كل قيم التغيير والتحويل
ما دام الغائب لم يشهد شهوده ؟ أما أننا نؤجل البحث في هذه النقطة إلى حين ؟.
- إننا نسعى بلا شك إلى البحث عن سر تغيير السنن التاريخية التي تحيلنا إلى تقييم الوضع السوسيولوجي من خلال الوعي الذي يقف في الحاضر، والذي يعبر عن وجود إنساني مهموم يسعى إلى تحقيق إمكانيات في الوجود، حيث ينتج هذا الهم ثلاثة تراكيب :
1. هم يتحقق ممكنات : المستقبل الذي يجرى ترقبه، الأمل المنشود لكسبه.
2. هم مما يتحقق ممكنات : الماضي الذي يستبق في صورة مشرقة يطفئ نيران الحقد
والكراهية.
3. هم بما يجرى تحقيقه من ممكنات : الذي يتشكل في الحاضر، فيساءلنا ونساء له عمّا ينبغي أن نفعله في لحظة تظل مرجعية الفعل المشخص مهددة بالجمود، وبالتالي سقوطها في اغتراب موهوم واستغلال محسوب، فتصبح العلة التي تسقط الرمز، كما أنّها الفيروس الذي سيهدد المعنى والغيب، وبالتالي يتحول الدين في مشروع المهدوية إلى قيد وسجن وإلى فخ ومأزق، وداءٍ ووباء([2]). وفي هذا الصدد يتساءل الإمام الخميني.
لا يوجد نص على شخصٍ معين يدير شؤون الدولة. فما هو الرأي إذن ؟ هل تُترك أحكام الإسلام معطلة. أم نقول أن الإسلام جاء ليحكم قرنين من الزمن ثم يمهلهم بعد ذلك.
ولكن عندما يعجز الانتظار عن الاستقرار على مستقبل محدد، فإنّ الحاضر يخال نفسه ممزقا بين سقطتين، سقطة ماض راح، وسقطة الحاضر النهائي الذي لا يوقظ أي حاضر، حتّى ينعكس، وهو ينقسم على نفسه، الشيء الذي يمكن أن يحوي دلالات حاضرنا الكبرى([3]).
- علينا إخراج النظرية من طابعها العام وإدخالها في عمقها الذري النووي، لكي نتجنب التناقض الحاصل بين الفكرة والشخص، حيث يتوسع الاختلال عندما يكون عالم الأشخاص هو الذي يحدد ويستقطب أوجه النشاط الثقافي، وأن يكون شخصٌ معين بصفة خاصة، وبالتالي نغوص في اختلالٍ جوهري، يجذب لصالحه جميع الروابط المقدسة فنغوص من جديد في عبادة الوثن دون الفكرة ويسقط الإصلاح الذي دخل معركة دون ردار([4]).
نتيجة للاصطدام الذي سيحدث داخل المنظومة القيميّة العليا، وعدم الانتظام والتوافق سيساهم في صياغة سلوك الفرد العام والخاص، والذي ينفلت في عالم الأشخاص وينعكس جذريا على عالم الأشياء ومتغيراتها، فينكشف الخلل والعجز الموجود بين هذه العوالم الثلاث والتي أخلتنا في أكبر الأزمات خلال العقود الماضية، وستدخلنا الآن إذا لم نعي بقاعدة وإستراتيجية هذه العوالم الثلاث. حيث يتولد انهيار في المنظومة الاجتماعية، وخلخلة في البنيّة الاقتصادية، وانرواءً في المرجعية العقدية، واستلاب في الحقوق المدنية، وارتداد في المواقف السياسية، وضعف وعجز في مواجهة وإدارة الأحداث.
· وكما يقول برهان الدين عليون : « لا تعود المشكلة هي : كيف نحمي أنفسنا من الثقافة الأجنبية، إنّما كيف نستوعب الحضارة من أفق ثقافتنا وانطلاقًا من أطرها ومنطلقاتها الذاتية، أي كيف نعزل الحضارة العالمية عن مسبقاتها المرجعية الخاصة بالمنطقة التي دفعتها في مرحلتها الأخيرة، وكيف نتمثلها في أطر ثقافتنا الذاتية. أي كيف نصبح نحن مركز الحضارة) ([5]).
أو بتعبير آخر كيف نزعزع اللوغوس فنمتلكه دون أن يمتلكنا ؟ .
- لا مراء أن هناك جانبا لا يمكن أن نغفله، هو أن ننظر للفكرة على المستوى الوجودي القيادي، وفي بعدها المتعالي الذي يمنح الفرد وجوده الحقيقي، ليس كما وصفه دوركايم على أنّه يفكر من خلال عقلٍ جمعي، ولا كما وصفه كانط على أنّه المنعزل الذي يفكر في عزلة صوريّة خالصة، لكنه الإنسان الفرد والنموذج المتميّز الذي وصفه مانهايم على أنّه الإنسان المشخص، الإنسان في موقف، الإنسان المرتبط بوجوده السوسيولوجي العام، أي أنّه ينظر إلى الفكر الإنساني في استجاباته وصراعاته، في سكناته، وحركاته حين يواجه موقفًا من المواقف التي تصادفه أو أزمة من الأزمات.
· ومن هذا المنطلق يتحدد دور الفرد، أو الإنسان العظيم، الإنسان الممتاز الذي يتولى ويتصدى لمهمة متعددة الجبهات، والذي لا يخرج عن نطاق الزعامة التي تدفع المجتمع نحو الحراك والتحول، بواسطة هذا القائد الكارزمي الذي يجسد اجتماع الناس حول
قضية مشتركة، آنية وحساسة، حيث يكون مجسدًا للأدوار التالية :
1. الـدور الـرحماني : باعتباره آية الرحمة حيث يجسد سلطة الخلاص سواء خلاص فردي أو جماعي، إذ ينزوي الأمر في إنقاذ البشرية وتحقيق المجتمع المنشود أو البشرى المنتظمة والمنتظرة.
2. الـدور المعنـوي : يتركز البحث في أسس النجاح وكيفيات تحقيقه في جميع الميادين سواء داخلية أو خارجية (مناهضة المشروع الأمريكي واليهودي في المنطقة، المؤدي إلى كفالة لنصر مصداقا لقوله تعالى : } إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ {.
3. الـدور التغيـري : أن يقود التغيير بمفهومه الإيجابي، باعتباره حامل رسالة، وصاحب مشروع، على كل براثن الظلم والاستبداد، ومن ثم فهو المنتظر المصطفى، فتتنامى النظرية جماهريا وطبقيًا ودينيًا وحتّى عسكريًا ، تحمّله في نهاية المطاف إلى تغيير الأوضاع وتحولٌ في الاستراتيجيات. تتحول بمقتضاها العلاقة بين الحاكم والمحكومين([6]).
- وفي هذا التاريخ، تطمح المهدوية إلى مجتمع يسود فيه قيم الحرية والعدالة وهي غاية الغايات بعيدة كل البعد عمّا بناه أفلاطون في الجمهورية، والفارابي في مدينته، وبالتالي الخروج من الفكرة الطوباوية بحيث يجعلنا هذا الخروج نعتنق الفعل في مضمونه وأهدافه إلا في شخصه وهويته.
ولأنّ الانتظار أملاً بالنسبة للإنسانية فإنّ الشرط الأساسي والمهمة الأساسية، هي إقامة مجتمع مدني يدير الحق بصفة كونية عادلة، في ظل ما يتعرض له من تهديدات القمع المرتبطة بفكرة التاريخ الكوني الذي يعلن عن قراءة جديدة لمسألة البدايات والنهايات.
- والأرجح في إمكانياتنا المعقولة والمحدودة في إطار هذه التجربة، أن نجد أنفسنا أمام تحديات وانتقادات ينبغي الاضطلاع بها، فلا فائدة ترجى من البحث في الواجب عن قاعدة استطاعتنا وقدرتنا، وإذ ذاك نظّل سجناء خطاب (...) يدعنا في الغالب عاجزين ممزقين، متذبذبين في إقرار الأحكام، فليس ما هو كائن هو الذي يحدد استطاعة الفعل بل إنّ استطاعة الفعل هي التي تحدد ما ينبغي أن يكون([7]).
وهذا ما يشير إليه بول ريكور إلى كون مجيء أنظمة استبدادية، قد تكون أفضح
وأشرس، بحيث لا تنفعنا العقليّة الطوباوية التي تدفعنا إلى الهناك، بقدر ما ينبثق خطاب أحمق
متحذر في الأصولية الدمويّة المغرقة، والتي تضع المجتمع في بركة دماء، نجد خلالها الوعي قد انصبَّ في المخيال، يزعم الفكر من جديد على أن يتقبل واقع غائب عنا، والذي يكون حتمًا أفق الانتظار([8]).
ومن الثابت أنّ الانتقادات، سوف تدخلنا في استثناءات، لطالما شكلت العائق الذي يعوق الفعل، لكن نفترض ووفقًا لتعاليم المهدوية أنّ هذه الاستثناءات ستكون بمثابة التحديات الأساسيّة للظاهرة التي يمكن درسها، وبالتّالي ستنطوي على جهدٍ وعمل وتضحيّة تخضع أحيانًا للتصعيد وأخرى للمصالحة منبثقة من تلك الروح الخالدة التي سيعاد تخليدها من طرف التاريخ والذي سيعلن عنها.
- هكذا نتفادى ونتدارك الكثير من المتناقضات، قصد اجتراح الإمكان، لتغير موازين القوى، وقلب المعادلات، وللإنتاج النماذج، وتغيير الأدوار، التي لا تدخل فقط ضمن نسق المعطيات ولكن ضمن القدرة التي نفقه معناها، إلاّ إذا تلازمت مع المجتمع الذي يحمل في جوهره مختلف أنماط الوعي، كنمطي الاعتقاد والتصور، فيتجلّى في صراع تكشف عنه الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية وحتّى العقائدية، مقارنة مع القوى المؤثرة في المجتمع، سواء عُولج هذا الصراع من منظور حركة التاريخ. أو من منظور المجتمع الواحد، والذي يبحث عن مشروعيّة السيادة. لطرح بناءات القوة والسيطرة الواجب تحقيقها إعلانًا عن ميثاق جديد، ميثاق المجتمع القوي والسعيد والمهيمن([9]). الذي يتحكم فيه القائد الكارزمي بالطرق أو بالمعاني السيكولوجية. فضلا عن الإيدولوجية، التي سيسيطر بها على المجتمع، وكذلك المعتقدات التي تصاحب تغيرات سريعة دون أن تلجأ إلى تحطيم وحدة المجتمع.
- هذا ما تعكسه فكرة الزمان، أو الإحساس به، حيث لا نجد أنفسنا نتكلم عن زمان
خارج جدلية الوعي والموضوع الخاص به، لأنّ الرتابة العقلية لا تفيد الخضوع لواقع حاصل ولا الإذعان للأشياء، على الوجه التّي هي عليه، إنّما بمثابة القوة الكبيرة المتجلية في قوة الرفض، الناتجة عن الحرمان.
· فكيف يتم إذن هذا الرفض في معايير ومنطلقات التجربة المهدوية ؟.
إن الهدف الأساسي هو البحث عن إنسانية الإنسان، بواسطة الثورة التّي تعطي للإنسان مفهومه الحقيقي، كفرد واعي لتاريخه، ووجوده، والثورة لا يمكن أن تحقق أهدافها إلاّ إذا انطلقت من معايير حقيقية للتغيير تعكس للإنسان صورته وحركته في الحياة، ترى في الإنسان الكامل أو المجتمع الكامل، هذه السيرورة المتحركة، لأنّ الفعل الإنساني هو الجوهر الحقيقي لكل العمليات التاريخية، وأنّ التاريخ في عمقه هو تاريخ أفكار ومعارف، حين تنحذر بالرجوع إلى الشروط السوسيولوجية، بالمقارنة مع الحالة التّي تنتج، عنها سواء كانت سلبية أو إيجابية (الهزيمة العربية مع إسرائيل، والحرب العراقية أكبر دليل على ذلك).
ويرى عبد المجيد النجار أنّ الضمان الأكبر لنجاح حركة التغيير أن تكون مستندة إلى سند عقدي إيديولوجي، يقوم على تنظير عملي، ويعتمد الحجة العقلية، فتكون الملهم الأساسي لمحتوى الحركة في مسارها العملي حينما تصطدم بمشاكل المواقع([10]). فتمنع الفعل قدره من التأثير إعلانًا للعودة، وخروج المستبعد من دائرة اللاشعور إلى دائرة الشعور، وهذا ما يقربه هيغل، في كون الفعل (تحريك للساكن، وتحقيق في الخارج لما كان في البدء محبوسًا داخل قوقعة الإمكان وربط بما هو لا شعوري بما هو شعوري، أو لما هو غير موجود بما هو موجود) ([11]).
- وإذا كانت النظريات الغربية بكل توجهاته سلبية تريد أن تزعزع الفرد المسلم والمجتمع المسلم، عن كيانه، قصد إضعاف الدولة وإرهاقها، بتحريرها من كل ما هو إنساني لضرب الإسلام بصفة أدق، في سياق معادلة الخير والشر، واعتناق سيدها بوش تعاليم، الإنجيلية الصهيونية. إعلانًا عند حرب صليبية ثالثة، تعلن عن ميلاد حرب الحضارات، أبطالها مصطلحي المقاومة والإرهاب، ومضمونها الخلاص(*) في ضوء عولمة العالم وأمبريالته، سواء من جانب حقوق الإنسان، أو حرية التعبير، أو حرية التملك والامتلاك . إعلانا عن نهاية التاريخ في قطب محدد ، أو محورٍ، يملك التأشيرة لسيطرة والاحتكار.
وإذا كان هذا، تاريخ الكمال، من منظور الغطرسة الغربية والبلطجة الصهيونية في احتكارهما للتاريخ، وصنعه في مؤسساتهما الأكاديمية والعسكرية، فكيف تصنع المهدويّة التاريخ ؟ وهل بإمكانها ذلك ؟.
- إذا تأملنا في مصطلح الـ م. هـ. د. و. ي. ة (المهدوية) من حيث دلالتها اللغوية، فتعني الاهتداء إلى ما هو أليق وأنسب في التفكير، وإذا ما تأملنا من الناحية المنهجيّة، فهي الانتقال من الآنا أفكر إلى الآنا أقدر، إلى الآنا أقاوم.
هذا النموذج هو الكفيل لمواجهة التحديات أمام التحولات الجديدة التي تطرحها ساحة الوقائع والأحداث، والسعي المتواصل للبحث عن مشروع جديد، يكون قوامًا للأمة وحراكها، وفي الوقت نفسه لتستعيد هيبتها ومكانتها، في ظل الطموحات والرؤى الإستشراقية التّي يطمح إخواننا الشيعة في تحقيقها. لامتلاكها قوة الخطاب، الذي سيكون السبيل الوحيد والخيار اللازم، للخروج من مقامات التنظير المجرد، الذي يساهم في تظليل الإستراتيجية المتوخاة لمجابهة التحديات التي قد تطرح مضاربات تعكّر من صنع الهدف ومن قيم الغاية.
· وإذا كان التاريخ يعيد نفسه، فكيف يعاد في طيات هاته التجربة ؟.
- المبحث الثـاني : المستوى المعرفي للتجربة المهدويّـة :
- أولا : الإستراتجية المعرفية والبحث عن مجتمع المعرفة :
1. من خلال البحث عن نظرية جديدة تمتاز بالشموليّة والموضوعيّة، تهدم كل البنيات السابقة، التي بنتها النماذج الغربيّة، سواء كانت تتعلق بالقيّم الروحيّة،
كالداروينيّة، والنتشويّة، أو تتعلق بالقيم الماديّة، كالماركسية، والرأسمالية، أو بالنتظيرات الوضعية، كتعاليم هوبز وروسو، ولوك.
2. الإنتقال من المرحلة المتلقية إلى المرحلة الإجتهادية الإبداعية لخلخلة المفاهيم والمصطلحات والنماذج، لتعرية ما هو كامن، سواء من جانب المغالطات أو من جانب الإبهام والتضليل (لأنّ اللّغة ليست أداة تواصل فحسب وإنّما هي وعاء للتفكير، فاللغة برغم أنّها ألفاظ، وعبارات إلاّ أنّ هذه الألفاظ والعبارات تحمل أفكارًا وعقائد وآراء، وهنا يبدو الصراع واضحًا بحكم كون التأثيرات الدلالية ناتجة هذه الصراع ستفرز وتظهر بشكل جلي على الساحة) ([12]).
3. تغيير النماذج الإدراكية : بإعمال العقل، الذي يهدف إلى الإبداع، والخروج بحق الاختلاف بمنظار التعدد، لا التفرد وهنا نستذكر أعمال طه عبد الرحمن (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، والحق الإسلامي في الإختلاف الفكري، بالإضافة إلى أعمال عبد الوهاب المسيري من خلال موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل، تفكيك الإنسان والحضارة، أهميّة الدرس المعرفي، إشكالية التحيّز.
4. البحث عن العقل الموسوعي : للخروج من دائرة التخصص، ويمكن أن نقدم في هذا المضمار ما كتبه ابن خلدون، وطاش كبرى زاده، وابن سينا، والطوسي وإخوان الصفا، وضرورة الانفتاح على الأنساق المعرفية الأخرى، وهذا ما يقتضي في قول ابن رشد (ما كان موافقا للشرع أخذناه، وما كان منافيًا له تركناه).
- ثـانيا : إعلاميـا :
تغيير الخارطة الإدراكية للعدو من خلال فقه المقاومة، سواء عبر وسائل الإعلام كنموذج "قناة المنار" والدور الريادي الذي لعبته في ساحة الميدان، لكسر الجدار الأمني والدعائي للعدو، وما انتصار حزب الله(*) أكبر دليل على ذلك.
- ثـالثا : سيـاسيا : ما تجلّى في حكم كونفوشيوس في قوله :
يعرف الإمبراطور كيف يحكم إذا كان الشعراء أحرارًا في قرض الشعر، والناس أحرارًا في تمثيل المسرحيات، والمؤرخون أحرارًا في قول الحق، والوزراء أحرارًا في إسداء النصح والفقراء أحرارًا في التذمر من الضرائب، والطلبة أحرارًا في تعلم العلم جهرة، والعمال أحرارًا في إثراء مهارتهم، والشعب في أن يتحدث في كل شيء.
- رابعـا : اقتصـاديا :
- التنسيق مع دول الإقليم للاستغلال العقلاني للثروات، والبحث عن شراكة متداولة، تقضي على معظم المشاكل والأزمات (مثلا الاتحاد الأوروبي نموذجا).
- تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص –تشجيع اليد العاملة- البحث عن منتج وطني أو تكنولوجيا وطنيا.
- محليًا : تشجيع المؤسسات الجمعوية والأكاديميات الثقافية، وتطوير نظام الحوزات.
- التعبئة الروحية للأفراد بترسيخ مبادئ الإسلام وفقه السنة النّبوية لترسيخ قيم التكافل والتضامن في الأزمات ...
- إقليميًا : تسويّة مشاكل الحدود مع الدول المجاورة، لضمان أكبر قدر ممكن من
الاستقرار.
- خارجيًا : الحنكة في إدارة العلاقات الدولية لكسب الوزن الديبلوماسي للدولة من خلال القراءة الدقيقة للمشهد السياسي العالمي اليومي، تجنبًا لسوء التوظيف السياسي، الذي سيحتم إعادة ترتيب جديد ومتميز من القيم والمفاهيم الدوليّة، وبالتالي تتمكن من تكوين إنسان جديد، يحددها، اللاعب الرسمي في المسرح العالمي.
- عسكريًا : أو على مستوى الدفاع :
- تحقيق القوم المعنويّة من خلال أسلوب الاستنفار الشامل والتعبئة الشاملة.
- غرس قيم الاستشهاد والبطولة استنادا إلى مناهج علم النفس التعبوي وضرورة الأخذ نموذج دفاع حزب الله والاقتداء بالسير الشهداء.
- تحقيق تكنولوجيا تطوره في للفرد الآمان والاستقرار.
- هكذا وإن حصرنا أهم النقاط في نجاح التجربة، فهناك نقاطًا أخرى وتفصيلات جزئيّة ودقيقة لم نتطرق إليها لطبيعة الموضوع الذي صال وجال في عدّة رؤى، ليترك المجال لتخصصات أخرى توسع من حجم الإمكانات والعطاءات لتزيد من قيّم التجربة واتساعها إذا ما أحسنا رصد منطلقاتها، الإستشراقية.
- خــاتمة :
- لن يكون الحديث عن المجال البعدي الباطني لمسألة الغائب حصرها في خانة ضيقة من التحليلات الفرديّة والرؤى الجزافية، التي تكون جزئية وغير هادفة في بعض الأحيان، نتيجة استقلالها عن موكب الفعل، والنظر إليها بمنطار القطب الواحد، أو الأحادي، الذي يقزم من شساعة التجربة، وإنّما النظر إليها، بأبعاد متعددة تفتح المجال لرؤية ما لم نكن نراه، هذا التعدد بفتح أيضا المجال للحديث عن مرتكزات الدينامية الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية والإيديولوجية، التي ستنظم وتقولب الفكرة، في صورة اعتقاد كلي جازم، يظل انعكاسها شرطا ضروريًا لتبرير المشروع، في عصر تتصادم فيه الإيديولوجية، وتتنوع فيه الإرادات، وتتحارب فيه الأفكار.
وأمام هذه المظاهر تسعى المهدوية إلى تحقيق تجريبتها لقلب موازين القوى، إعلانًا عن التغير التاريخي، الذي سيدخلها في لحظة تاريخية زمنية، تسترجع دون محالة زمن حضاري جديد، يمس بالأساس الحقل الإبستولوجي، والسياسي، والسوسيولوجي، منطلقة من مبدأ أنا أفكر، إلى الآنا أقدر، إلى الآنا أقاوم، قاهرة تلك العدوانية المعشعشة في المفاهيم، والاختزالية في التفكير، والدوغمائية في الإمتلاك والإنتاج والتعبير، منطلقة من كسر خطاب النفي الذي بُني على قاعدة الصراع والصدام، لا الشراكة والحوار، وفي هذا الشأن نستذكر قول مادلين أو لبرايت « إن الغرب ينفرد بتوليفه خاصة، وهي التي منحته خاصيّته المتميزة ».
فلماذا لا تخلق التجربة المهدوية توليفه وفقا لخاصيتها المتميزة ! ؟.
هذا ما تستجيب عنه الأيام، حينذاك سيكون لنا موقف، وستكون لنا كلمة.
- قـائمة المـراجع :
1. إسماعيل علي سعيد : المدخل إلى علم الاجتماع السياسي، دار النهضة العربية، بيروت، ج4، 1989.
2. برهان غليون : اغتيال العقل، المركز الثقافي العربي بين السلفية والتعبير، المركز الثقافي العربي، بيروت، المغرب، ط3، 2004.
3. بول ديكور : من النص إلى الفعل (أبحاث التأويل) ت : محمد براده، حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث، القاهرة، ط1، 2001.
4. جان بول رزفير : فلسفة القيم، تعريب عادل الحوا، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، لبنان، ط1، 2001.
5. خالد محمد خالد : أفكار في القمة، يوليو 1959، مكتبة وهبة، بغداد.
6. خليل أحمد خليل : العرب والقيادة، بحث اجتماعي في معنى السلطة ودور القائد، دار المداثر، ط1، 1981، بيروت، لبنان.
7. رضوان جودت زيادة : صدى الحداثة، ما بعد الحداثة في زمنها القادم، المركز الثقافي العربي، المغرب، بيروت، ط1، 2003.
8. زكريا إبراهيم : هيغل أو المثالية المطلقة، ملكية مصر، القاهرة.
9. عبد الرحمن بدوي : موسوعة الفلسفة، ج2، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1984.
10. عبد المجيد النجار : وتحركة التغيير عند المهدي بن تومرت، مطبعة تونس، قرطاج، ط1،
1924-1984.
11. مالك بن نبي : مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ت : محمد عبد العظيم علي، دار الفكر دمشق.
------------------------------------------------------------------------------
(*) - إنّ الانتظار ليس هو السّليم، وإنّما هو واجب يضاف إلى الواجبات الإسلامية قصد البحث عن مصلح يؤسس
مجتمعًا جديد، يقيم الدولة المثلي، كما يتولى إشارة الوعي السياسي والمصير للأمة سواء بوسائل ثوريّة أو عبر
ثورية، تعتمد في تغييرها الكلاني ربانيّة السماء، لكن في تنفيذها تعتمد على الظروف الموضوعية.
([1]) - زكريا إبراهيم : هيغل أو المثالية المطلقة، مكتبة مصر، القاهرة، ص 376.
([2]) - عبد الرحمن بدوي : موسوعة الفلسفة، ج2، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1984، ص 558.
([3]) - بول ديكور : من النص إلى الفعل (أبحاث التأويل) ت : محمد براده، حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث،
القاهرة، ط1، 2001، ص 212.
([4]) - مالك بن نبي : مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 104-105، ت : محمد عبد العظيم علي، دار الفكر
دمشق، ص 167.
([5]) - برهان غليون : اغتيال العقل، محنة الثقافة بين السلفية والتبعيّة، المركز الثقافي العربي، بيروت، المغرب،
ط3، 2004، ص 136.
([6]) - خليل أحمد خليل : العرب والقيادة، (بحث اجتماعي في معنى السلطة ودور القائد)، دار الحداثة، ط1، 1981،
بيروت، لبنان، ص 22.
([7]) - جان بول رزفبر : فلسفة القيّم، تعريب عادل العوا، عويدات للنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2001، ص 105.
([8]) - بول ريكور : مرجع سابق، ص 308.
([9]) - إسماعيل علي يسعد : المدخل إلى علم الاجتماع السياسي، دار النهضة العربية، بيروت، ج4، 1989، ص 13.
([10]) - عبد المجيد النجار : وحركة التغيير عند المهدي بن تومرت، مطبعة تونس، قرطاج، ط1، 1924-1984.
ص 113.
([11]) - زكريا إبراهيم : مرجع سابق، ص 327.
(*) - تبنى الرئيس بوش عقيدة الخلاص بالمنظور الصهيوني الإنجيلي، إيمانًا منه لتمهيد ظهور المجتمع السعيد الذي تبتغيه
الإدارة الأمريكية والصهيونية، متغذية من فلسفة نيتشه التي تلخصها فكرة السوبرمان والعود الأبدي.
([12]) - رضوان جودت زيادة : صدى الحداثة، ما بعد الحداثة في زمنها القادم، المركز الثقافي العربي، المغرب، بيروت،
ط1، 2003، ص 106-107.
(*) - لقد بين حزب الله وزعيمه الشيخ حسن نصر الله لكل العالم، أنّه لا مساومة في الحريّة، ولا مساومة على
الأرض ولا تنازل على المواقف والثوابت، وبواسطة استراتيجياته المعرفية وتكاتيكاته العسكرية وحنكته
السياسية استطاع أن يصل إلى أعماق إسرائيل، فاشتد أثناءها الصراع وشق الطريق وعظمت التضحيات،
وكان النصر حليفة مصداقا لقوله تعالى : }إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهَادُ { [سورة غافر : الآية 51].
36/5/13610L/ تح: علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha