يدور المقال حول انتظار المنقذ العالمي، وكونه غاية في كل دين ورسالة، رغم الاختلاف في تصور ذلك المنقذ المنتظر وانتمائه ورسالته.
يعاني الإنسان توتراً مستمراً هو التشكل الأغلب لوجوده العملي على هذه الأرض. فالإنسان يقف في عيشه بين خيارين: إما أن يكون إنسان عبادة، فيؤمن بدين هو إطار ممارسته لوجوده; أو يكون إنسان انفلات، فيمارس وجوده بناء على اجتهاداته وردود الفعل الخاصة به. وكيفما دار الأمر، فالإنسان يقف في عيشه هذا بين حالين أساسين من الوجود وهو في هذين الحالين معرض لتوتر ناتج عن عدم استقرار جوهري في عيشه.
إن كان الإنسان من أهل الإيمان الديني، فهو في وحال تطبيق لما تفرضه عليه تعاليم دينه من عبادات وممارسات. وهو في هذه الحال بين وضعين: إما في تطبيق صحيح لما تعلمه من هذه الأفعال للعبادة، أو في تطبيق خاطئ لهذه التعاليم. وهو تالياً، إما أن يكون من أهل النجاة، أو من أهل السقوط. ولكنه، ومع أي من هذين الوضعين غير قادر أبداً على تحديد الموقع الذي هو فيه منهما. فتحديد الموقع يرتبط هاهنا بحكم يصدر عن سلطة من خارج هذا الإنسان المتدين أو المتعبد; الحكم هو للّه وحده. ومن هنا، فإن إنسان الإيمان الديني ينفق العمر في توتر وقلق وترقب عبر ممارسة العبادة وانتظار معرفة الحكم الذي سيصدر حول عبادته هذه من قبل ديّانه.
وقد جاء تصوير هذه الحال واضحا في النص القرآني، خاصة عندما يؤكد اللّه سبحانه وتعالى أن الحكم النهائي على أعمال المتديّنين لا يكون إلا من عنده، ولن يكون هذا الحكم إلا في يوم القيامة. ومن أمثلة هذا ما ورد في "سورة الحج": (اللّه يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون)(2); وكذلك في "سورة البقرة": (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب. كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم. فاللّه يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)(3). وهو كذلك في "سورة القصص": (وهو اللّه لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والأخرة وله الحكم وإليه ترجعون)(4).
أما إذا عاش الإنسان حياته يمارس وجوده بناء على اجتهاداته وردود الفعل الخاصة به، فإنه سيبقى رهين نتائج هذه الممارسات. سيظل هذا الإنسان يعيش حياته في قلق، حلو أو مر، بانتظار ما قد تسفر عنه هذه الممارسات من نتائج، وبانتظار معرفة قدرته في التحكم بهذه النتائج وقيادتها إلى نتائج أخرى يبغيها.
فالحياة لا يمكن أن تكون، إذن إلا حياة عدم استقرار; ولا يمكن أن تكون إلا في حال توتر مستمر وترقب لا يرحم. إنها حياة تعب ولهاث لا ينتهيان. وقد ورد في النص القرآني في "سورة الحديد" ما يمثل على هذا الفهم للعيش; إذ الحياة وجود تقلب وتبدل مستمر: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما. وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من اللّه ورضوان. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)(5) . ولعل الشاعر العربي كان يختصر هذه المعاناة للعيش الإنساني عندما قرر قائلا:
تعب كلها الحياة فما *** أعجب إلا من راغب بازدياد
أما هذا التوتر الوجودي الحاد في العيش الإنساني، كان لابد للإنسان من سعي إلى معادلة حياتية تؤمن له بعض استقرار; أو هي تساعده، على الأقل، في توهم بعض استقرار أو توازن ينظمان معاناته للحياة . نعم، إن الإنسان يتعب من متابعة عيشه للحياة الإنسانية في توتر مستمر; ولذا فهو يجنح إلى تمثل لراحة ما في هذا الخضم الذي لا مناص له منه طالما هو حي. ومن هنا كان لابد من ظهور لتشكل ما في هذه المعادلة الحياتية في الوجود الإنساني. والإنسان، هاهنا، أمام ممارستين غير متعارضتين فيما بينهما: الصبر والأمل.
يبرز الصبر، بمفهومه الوجودي، مجالا أولياً وتأسيسيا لمعادلة التوازن مع القلق الناتج عن طبيعة الوجود الحي للإنسان. ولعل من أجمل تصورات هذا الفعل الوجودي للصبر، في هذا المجال، وباعتباره فعل انتظار لحدوث ما هو خارج عن سيطرة الإنسان، يكون ممارسة سلبية للوجود تقود إلى إحلال توازن ما لمعاناة عدم استقرار العيش. ولعل في ما جاء في بعض آيات النص القرآني ما يؤكد هذا الأمر، ومنه ما جاء في "سورة البقرة" (ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين)(6). وكذلك ما ورد في "سورة الرعد": (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار)(7)، أو في قوله تعالى في "سورة الزمر": (...إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب)(8). ولعل الأمل، كما تمثله الشاعر العربي:
مــا أضيـق العيش لـولا فسحــة الأمــل
هو الصورة الأبرز والأكثر جاذبية وإغراءً وجوديا لتشكل هذه المعادلة للتوازن الحياتي، عند تأزم القلق وتحوله إلى طريقة للعيش لا مندوحة منها.
ويتمثل الأمل، وجود ضرورة، عند كل قلق أو توتر لا يمكن للمرء إلا أن يجعلهما منهج عيش له في مسيرة الحياة الإنسانية. فإذا ما أحس المرء بضيق لا انزياح عنه جراء معاناته لفشل في تحقيق ما يصبو إليه، فإن الأمل بالنجاح يظهر مفتاحا سحريا يبلسم أوجاع الفاشلين، ويجلي بحلاوته بعض ما في عيشهم من مرار. إنه الرغبة الوجودية للإنسان المنفلت من إطار الدين في استمرار سعيه الذاتي لتجاوز ما هو فيه من قلق; كما إنه فعل الإيمان بتعويض يأتي من لدن اللّه، يرجوه الإنسان المؤمن بالدين، إذا ما واجه خسارة أو فشلا في عمله. فاللّه يشكل الرجاء الأساس عند المؤمن. ومن هذا ما جاء في النص القرآني في "سورة البقرة". (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا للّه وإنا إليه راجعون)(9). وهو، سبحانه وتعالى، مصدر البديل الصالح لعذابات يواجهها الإنسان المؤمن في حياته الدنيا; ومن مثل هذا ما جاء في النص القرآني في "سورة القلم": (قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين. عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون)(10). ومن هنا يمكن التأكد من أن البديل الصالح لهذه الحياة الدنيا، ومن وجهة نظر إيمانية، هو عند اللّه وحده; ومن هذا ما ورد في النص القرآني في "سورة مريم": (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا)(11).
ولقد تعددت تشكلات الأمل، هذا الأمل، في الحياة الإنسانية وتنوعت في هذا المجال; وخاصة تلك التشكلات النابعة من عبق الإيمان الديني. فالإيمان الديني، بحد ذاته، تمظهر فذ للأمل الوجودي في الحياة; بل لعله التمظهر الأغنى والأرحب.
ألا يشكل الايمان بحياة سماوية بعد الموت الأرضي وهو من أسس الفكر الديني الإنساني، ظهور لفعل مصالحة لعيش الإنسان عند مواجهته للتوتر والقلق الحاصلين في وجوده إثر معاناته لفكرة الموت على الأرض؟ ثم، أوليس في الإيمان بثواب وعقاب يلاقيهما الإنسان في الحياة الأخرى ما يشكل إعادة للتوازن المفقود من الحياة الإنسانية عندما يدرك هذا الإنسان أنه يعاني في وجوده الأرضي كثيرا من ظلم الآخرين له، أو كثيرا من إجحاف من قبل فرص العيش وتدبر الأمور؟
وألا يشكل الاعتقاد بعودة أخرى إلى عيش الحياة الأرضية بعد الموت، عبر التقمص أو التناسخ، تمثلا آخرا من تمثلات المصالحة مع التوتر والقلق الحاصلين في الإنسان عند مواجهته لفكرة الموت؟
وألا يشكل اعتقاد بعض الناس بوجود ملاك حارس يرافقهم في حياتهم ظهورا معينا لفعل خلاص من قلقهم من مخاوف الحياة؟
كل هذه أمور تؤكد حتمية اللجوء الإنساني إلى فكرة الخلاص أو ما يمكن أن يشكل ظهور المخلص أو الهادي أو البديل الصالح في الحياة الإنسانية، وخاصة في حياة الإنسان المؤمن بالدين. ولعل في هذه الحتمية للظهور ما يؤكد أهمية الفكر الديني في تأمين مصالحة أساسية للإنسان مع ما يعانيه من قلق وتوتر في عيشه الأرضي.
نعم، لابد من وجود لفكرة البديل الصالح في الحياة الإنسانية لتأمين استقرار الإنسان في متابعة عيشه وتحقيق إنسانيته; وإلا فالإنسان معرض لكثير من الانتكاسات والاحباطات التي قد لا تردعه عن تحطيم وجوده وتشويه إنسانيته بأمور لعل منها الدخول في عبثية لا جدوى منها، أو في جنون يبعد صاحبه عن إيجاد منطق ما لوجوده، أو في انتحار هو بحد ذاته هلاك لا طائل منه.
من هنا يأتي الاعتقاد بوجود المهدي، وبحتمية ظهوره، سعيا إنسانيا فذّا، عبر الفكر الديني، لاستقرار هذا الوجود الإنساني القلق بطبيعته وطمأنينته. ولذا فما من دين إلا وفيه حتمية لظهور مهدي أو مخلص يقود المؤمنين من القلق والاضطراب إلى الراحة والاطمئنان. بل إن الإنسانية إذا ما سعت إلى خروج عن رحاب الدين، فإنها لا تلبث أن تسعى إلى ظهور ما يخلّص ناسها مما يعانونه من قلق وتوتر في عيشهم لوجودهم الحياتي. ولعل في الفكرة الأدبية المعاصرة، والمعروفة بـاسم "انتظار غودو"، خير تعبير عن هذه الحاجة إلى ظهور لهاد أو مخلص أو على الأقل، لانتظاره.
يبقى ثمة ما قد يشبه مآسي المسرح اليوناني القديم في هذا المجال; إذ قد يبقى الإنسان مرتبطا ارتباطا أساسا بفكرة الظهور فعل وجود للبديل الصالح، لكنه إلى أي حد قد يبقى قادرا على مواجهتها والتفاعل معها عند تحققها؟
ترى، ألا يوجد كثيرون ممن سينكرون حقيقة من ينتظرون ظهوره لحظة أن يظهر لهم حقا؟
ترى ألن يواجه هذا المنتظر بمن سيعمدون إلى محاربته بحجة أنه ليس هو؟
ترى من يعصم الإنسان، هذا القَلِق المتوتر ، من رفضه لحقيقة من بنى وجوده على انتظاره لأن هذا الانتظار قد تحول عنده من وسيلة عيش إلى غاية حياة؟
قد يكون الجواب عبر السعي المستمر لتأكيد الاعتقاد الإنساني بصدقية الوعد الديني الإيماني، وبالفاعلية المتسامية للوجود الإنساني في هذه الحياة. وقد يكون الجواب بالتحول من البحث في معاينة الظهور وجودا مشخصنا إلى مشاهدته وجودا لنمو الفكر الإنساني وتساميه باتجاه الحق.
---------------------------
2- الحج / 69 .
3- البقرة / 113 .
4- القصص / 70 .
5-الحديد / 20 .
6- البقرة / 155 .
7- الرعد / 22 .
8- الزمر / 10 .
9- البقرة / 156 .
10- القلم / 31 - 32 .
11- مريم / 76 .
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب
28513605
https://telegram.me/buratha