يحتفل المسلمون، في الخامس عشر من شهر شعبان، من كل عام، بولادة الامام المهدي(ع). ويتسائل كثير منهم عما ينبغي فعله في زمن النتظار ظهوره. ومن الاسئلة التي تطرح،في هذا المجال: هل يتم الاكتفاء بانتظار قدوم المخلص او انه ينبغي ان يستعد المرء ليكونجديرا بصحبته! ونصرته! وان كان عليه ان يستعد فكيف يتم له ذلك؟ وماذا يفعل؟ وقد رات مجلة المنهاج، وهي تشارك في الاحتفال بهذه الذكرى، ان تسهم في محاولةالاجابة عن هذه الاسئلة، فتخصص محورا يبحث فيه عدد من الكتاب المختصين هذهالقضية ويقدمون اجوبتهم عن الاسئلة التي تثيرها.
ثقافة الانتظار الرسالي في مواجهة الواقع المنحرف
مقدمة تنطلق احتفالات الخامس عشر من شهر شعبان، سنويا، في مختلف البقاع والامصارالاسلامية لتحيي ذكرى ولادة الحجة محمد بن الحسن (عج).. الامام المنتظر ليوم الوعدالالهي بتحقيق العدل ونشره في ارجاء الارض كافة.
(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادي الصالحون) «الانبياء/105».فكيف يتم التعامل مع دلالات هذه القضية وابعادها؟ وما هي الافاق التي يمكن ان تنفتحامامنا من خلال ذلك، بخاصة ونحن نعايش اللحظات الاخيرة للقرن العشرين المزهوبانتصار الحضارة الغربية (القاهرة والغالبة! ) بكل ما فيها من منظومات تفكيرية وانساقمعرفية وثقافات (قشور) حضارية؟ هل استفدنا من هذه القضية في البعد الثقافي والاعلامي المعاصر في خط الدعوة الرساليةالاسلامية؟ وهل اعطينا ثقافة الانتظار، بابعادها الرسالية المتنوعة، احساس الواقع ونبضالحياة؟ وكيف يمكن ان نستثمر الطاقة الاحيائية الكامنة في عمق هذه القضية بالشكلالايجابي المنتج والفاعل؟ ثم ما هي مسؤوليتنا، وما هو دورنا بوصفنا مسلمين في خلالهذا الوقت الذي يتحرك بسرعة في المدة التي تفصل بين غيبة الامام المنتظر(ع) وظهوره؟ هل نتجمد امام مفردات الواقع التي تحيط بوجودنا، وتحاول ان تربك خططنا وحساباتنامن خلال المشاكل والعراقيل التي يضعها (صانعوها) امامنا، في موقع هنا وموقع آخرهناك.. لنقول ما يقوله اولئك الذين يتعاملون مع مفهوم الانتظار بالمعنى السلبي: يجبعلينا ان نوقف الحركة ونتجمد امام الحياة، ولا نقوم باي عمل او نشاط فكري وجهادييتصل بمسالة الظلم والظالمين؟ ام هل نتعامل مع هذا المفهوم بطريقة حضارية منفتحة، بحيث نفهم الانتظار بوصفه املاحركيا مشرقا وكبيرا في ضرورة انفتاح الحياة على معنى العدل بكافة صوره واشكاله(خصوصا العدل الذي يثير في النفس احاسيس العزة والكرامة، ويبعث على النهوضلمواجهة مواقع الظلم والانحراف كلها)؟ انها اسئلة اشكالية ومركزية تمثل، في عقيدتي، عناوين بارزة لفهم كيفية الارتقاء بواقعالثقافة الاسلامية المقاومة، التي تمثل ((ثقافة الانتظار الرسالية)) احد اعمدتها واركانها فيعصرنا الراهن.. هذه الثقافة التي يجب ان نعمل على تعميمها وتعميقها في ذهنية الامة،بوصفها ثقافة اصيلة يجاهد ابناؤها في سبيل تحقيق المجتمع الانساني العادل ويسعونللاحتفاظ بالذات الحضارية الاسلامية على مستوى تطوير حقيقتها الخاصة التي يمكن انتجعلنا على وعي كامل بطبيعة ادوارنا ومواقعنا واهدافنا.. لننطلق، بعد ذلك، نحو تحقيقالتماثل والندية والتكافؤ في تعاملنا مع الاخرين.. في علاقات المجتمع.. في انظمتهالسياسية وعلاقاته الاقتصادية والفكرية..
سنحاول، في هذا البحث، اضاءة بعض النقاط الفكرية والثقافية التي تتصل، في العمقالرسالي، بمسالة الامام المنتظر (عجل اللّه فرجه)، وضرورة تطوير اساليب التعامل معقضيته(ع) ووسائلها في ثقافتنا، واعلامنا، وتبليغنا الديني.. في ما يتعلق بالمعنى الحقيقيلثقافة الانتظار الرسالي وفكره. لكننا، وقبل الدخول الى صلب التحليلات الفكرية السابقة،نجد من الضروري اعطاء القارى الكريم لمحة اجمالية عامة عن طبيعة فكرة الامامالمهدي(عج) التي تعد عقيدة مركزية ضرورية، في المذهب الاسلامي الشيعي الامامي،تختزن في مضمونها الداخلي طرحا مفاهيميا اسلاميا عاما لا يخص فئة او مذهبا معينابذاته، حتى ولو رفض الاخرون قبول تلك الفكرة العقيدية في داخل نسيجهم المعرفيوالعقائدي لاعتبارات خاصة تاريخية ونفسية، وذلك بسبب وضوح ادلتها، ونقاوة مبدئها،واصالة مرتكزاتها وقواعدها.
اولا: اصالة العقيدة المهدوية سجل المسلمون جميعا، على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم ومشاربهم، الثبوت القطعيللبشارة التاريخية الواردة على لسان الرسول الاكرم(ص) التي تشير بوضوح تام الى ظهورالامام المهدي (عج) من ولد ابنته فاطمة الزهراء(ع) ((ليملا الارض قسطا وعدلا كما ملئتظلما وجورا))، وذلك في ما رووه وتناقلوه من الحديث الصحيح المتواتروالمشهور((277)).
وعلى الرغم من جميع الاشكالات التاريخية والفكرية غير العلمية((278)) التي اثارها بعضالمشككين في وجود تلك الفكرة الحيوية، فقد برزت عقيدة الامام المهدي (عج) الىالساحة الاسلامية بقوة، واخذت دورها الهام، وموقعها الطبيعي الاصيل والخطير (بالمعنىالايجابي للكلمة) في البنية الذاتية للوعي العقائدي الاسلامي، والوعي الانساني المعاصر،الذي لا يزال يبحث عن حلول جذرية شاملة لازمة الرعب والقلق النفسي والوجودي الذيتعايشه المجتمعات الانسانية الحالية، وذلك بسبب ان تلك العقيدة الاسلامية في طابعهاالديني عنوان اصيل لطموح واعد وهادف اتجهت، ولا تزال تتجه، اليه البشرية بمختلفاديانها ومذاهبها، وصياغة لالهام فطري قابع في ضمير الانسانية الحرة والكريمة فيشعورها العميق واحساسها القوي بضرورة ظهور منقذ للبشرية عندما تتعقد الامور،وتتعاظم التحديات، وتدلهم الخطوب والمحن، ويسيطر الظلم على حياة الناسوالمجتمع.
لقد ادرك الناس، من خلال هذا الطموح طبعا على الرغم من تنوع عقائدهم ووسائلهم الىالغيب ان للانسانية يوما موعودا على الارض، تحقق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير،وهدفها النهائي، وتجد فيه المسيرة المكدودة للانسان على مر التاريخ استقرارها وطمانينتهابعد عناد طويل((279)). بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي، والمستقبل المنتظر، علىالمؤمنين دينيا بالغيب، بل امتد الى غيرهم ايضا، وانعكس حتى على اشد الايديولوجياتوالاتجاهات العقائدية رفضا للغيب والغيبيات، كالمادية والجدلية، التي فسرت التاريخ علىاساس التناقضات، وآمنت بيوم موعود تسود فيه الشيوعية، ويتوقف الصراع والتناقضالمرير بين الاضداد، ويسود فيه الوئام والسلام. وهكذا نجد ان التجربة النفسية البشرية،المتراكمة ثقافيا وحضاريا واجتماعيا عبر العصور المختلفة، والحاوية على هذا الشعور فيداخلها، من اوسع انواع التجارب النفسية اغناها واكثرها عموما بين افراد البشر..
ضمن هذا السياق، ينتظر الناس جميعا من دون استثناء ان ياتي اليوم الموعود الذييتحقق فيه العدل، والمساواة، والوعي الكوني الحقيقي، والقيم الانسانية العليا كلها،ويتحقق، بالتالي، المجتمع الموعود المعصوم الرافض للظلم والجور والقهر والجبروت،والمؤمن بامكانية قوة العدل في التجسد، بوصفها واقعا حيا ملموسا في عمق التجربةالتاريخية الحالية والمستقبلية للناس جميعا، تواجه العالم الظالم لتزعزع ما فيه من اركانالظلم والطغيان، وتقيم بناءه من جديد على قيم الاسلام ومبادئه. وهذه المهمة الرساليةالجسيمة تحتاج، في طريقة تجسيدها على ارض الواقع، الى قيادة مطلعة وعارفة ومعصومةفي التزامها ووعيها، وفي جميع جوانب حركيتها وامتداداتها الداخلية والخارجية، لانمسؤولية تغيير العالم الى الافضل والاحسن صعبة وشاقة وليست سهلة التحقق والمنال.
منهنا كان لابد في اطار الحديث عن تمثل هذه الفكرة وتجسدها في الامام الثاني عشر(ع) آمن ايجاد مبررات موضوعية وافية وكافية وواضحة للاقتناع به اسلاميا وتاريخيا وعقليا.وهذا امر نترك الحديث عنه الان بسبب تمحور موضوعنا، في هذه الدراسة، حول الدورالاساسي للثقافة الرسالية الانتظارية في مواجهة الواقع المنحرف وننصح الاحبة القراءبالعودة الى المظان التاريخية الواسعة((280)) التي اشبعت فكرة الامام المهدي(عج) عرضاوتحليلا واثباتا على المستوى التاريخي والعقائدي والعقلاني والروائي.. الامر الذي جعلهذه الفكرة العقيدة حقيقة اسلامية ساطعة وواضحة وضوح الشمس في كبد السماء..
ثانيا: في آفاق الثقافة المقاومة ثقافة الامام المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) تشكل الثقافة الاسلامية العنوان والوعاء الحضاري الاهم لشعوب هذه المنطقة.. وقدواجهت هذه الثقافة، في تاريخها الطويل، كثيرا من التحديات الخطيرة، وجابهت امواجالغازين والمحتلين، واستطاعت ان تستوعبهم وتؤنسنهم وتؤثر فيهم وتعطيهم شيئا منمفرداتها الاصيلة.. وفي هذه المرحلة الحساسة من حياتنا، تواجه هذه الثقافة نفسها، مخاطرلا تقل اهمية عن سابقاتها.. لعل من ابرزها ما يروج له حاليا في كل مكان، وهو حديثالتسوية والسلام والتصالح مع الكيان الصهيوني الغاصب، هذه التسوية التي تعبر، في احدجوانبها، عن اغتصاب اجرامي لهوية هذه الامة وتاريخها الجهادي الطويل.. وعن عدوانعلى هويتها بالذات، اي نظرتها الى الحياة والوجود والدنيا والاخرة.. انه افظع الوانالاغتصاب في تاريخ الانسان.. اغتصاب شعب وهوية امة.. وهذا ما يرتكبه النظام الدوليالجديد بقيادة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الاوسط.. لقد راجت، في الاونة الاخيرة،امتدادا لمشروع السلام السياسي، ثقافة السلام((281)) والاستسلام التي يمكن رصدها فيالثقافة العربية الحالية.. وفي ثقافة السلطة الحاكمة بالذات..
وفي حركة المنظرين لهذه الثقافةالجديدة.. الذين يعملون على تعميق دلالات تلك الثقافة وتعميمها في اوساطنا ومواقعنابجميع الوسائل السياسية والاجتماعية والاساليب الدعائية والاعلامية..
امام هذا التحدي المفروض، وباعتبار ان ميدان المقاومة الميدانية للمشروع الاستسلامينفسه هو ميدان الثقافة والقيم نفسها.. كيف تتحرك الثقافة المقاومة؟ وما هي معالمهاوعناوينها؟ قلنا: ان الثقافة السائدة (ثقافة القشور والهزيمة) التي تقوم على تغريب الذات وتغييبالهوية، مدعومة من قبل السلطات والنخب السياسية الحاكمة التي لها على ما يبدو آمصالح سياسية واقتصادية واضحة داخل منظومة ثقافة السلام.. لذلك يجب ان يكونالعنوان الاهم لممانعة الثقافة ومقاومتها هو ان نعمل على تعرية ثقافة السلطةوفضحها((282)) في المنطقة العربية والاسلامية، من حيث انها ثقافة ضد القيم وضدالانسان.. ومن المعروف ان عمر هذه الثقافة (ثقافة السلطة) ليس قصيرا، بل انه، معالاسف، يمتد الى العصر العباسي. والمسار الانحداري للتاريخ الاسلامي يمكن ربطه، الىحد كبير، بنمو ما يسمى بثقافة السلطة، يعني بصورة اوضح مصادرة الحريات بصورةمستمرة، وابرز اشكال التعبير عن الحريات هو الثقافة، فباتت الثقافة سلاحا، بدل ان يكونفي يد الامة في مواجهة السلطة، اصبح في يد السلطة في مواجهة الامة وقمعها((283)).بهذا المعنى نحن الان امام فكرة مواجهة الواقع التطبيعي الراهن الذي يمر حاليا على مايظهر بمخاض عسير نعتقد انه لن يدوم طويلا!؟..
نحن، اذا، امام مهمات ثقافية كبيرة جدا نعمل، من خلالها، على تجاوز الشعارات الى فعلبنيوي عميق له علاقة في رؤية بنية الثقافة واقامة (تاسيس) هذه البنية، على اعتبار انها ثقافةمقاومة اعتراضية تؤسس لمجتمع ممانع ومقاوم ومواجه ورافض مقابل السلطة.. لانالتسوية المقبلة تهدف الى جعل الزمن العربي والاسلامي القادم زمن صراعات وتفككوتشرذم.
وتتجه، اساسا، الى المجال الحساس، وهو دائرة الوعي (دائرة الثقافة).. وهكذايستمر زمن المقاومة الحقيقي لانه يتناول اخطر ما في الشخصية والهوية الاسلامية، الا وهووعي هذه الهوية..
طبعا نحن لا نريد اءن نضخم العدو ونعطيه اءبعادا اءكبر من حجمه، ونرضخ لقضائه وقدرهالذي يحاول فرضه علينا.. لان العدو اعجز من ان يعمل على تجويف التراث الاسلاميالذي يعد اهم عامل واكبر عنصر من عناصر الممانعة والمواجهة في شخصيتنا ونسيجناالثقافي. لكننا، في الواقع، نخاف ان نبقى ساكنين، وان يظل تراثنا ساكنا لا يتحرك، والا ينتجنفسه ويصوغ خطابه من جديد وفق مقتضيات الواقع لا ان يرتهن لمفاهيم العصرنةوالحداثة((284)) وما الى ذلك. ولكن ان ينتج معادلة معاصرة لوجوده.. ان نجعله يعيشحس العصر ونبضه، لكي يبقى ممتدا وفاعلا في الامة. من هنا فاننا، نخبة عربية واسلامية،مطالبون اكثر من اي وقت مضى بان نقدم قراءتنا المعاصرة والتجديدية التي تمليهاضرورات عصرنا، كي تتحول في داخلنا الى عنصر مواجهة ثقافية للاخر، وتسهم في بناءمشروع ثقافي اسلامي مقاوم متمرد على واقع القهر والتسلط، قادر على استعادة مساحةالحرية المغتصبة. ان ذلك هو الذي يعطينا الامل الواقعي في مقاومة مشروع التسويةالمقبل، اي ان نعمل على استرداد الحرية، بوصفها عنصرا بالغ الاهمية، ليس فقط فيموضوع السلطة بل في داخلنا نحن ايضا (النخبة العربية) التي هي ضحية استبداد مركب:استبداد السلطة واستبداد الثقافة نفسها، التي تحولت الى سلطة والتي نستطيع ان نمارسهافي ما بيننا، فيصادر بعضنا بعضنا الاخر، بمعنى اننا لا نستطيع ان نتحاور.. (لماذا؟)..
اذااردنا ان نقيم ثقافة مقاومة يجب ان نكون قادرين على الحوار، اي قادرين على ان لا يقمعبعضنا بعضنا الاخر((285)) وكي نسترد الثقافة من السلطة يجب ان نكون قادرين على اننسترد لها الحوار الضروري بين النخب المعنية باقامة ثقافة مقاومة تحيي روح الخدمةوالجماعة بين التيارات والقوى الفاعلة وتحول افكارها الى برامج عمل مؤاتية لاحداثاتجاهات جديدة للنمو والوعي الثقافيين، وتستفيد من آليات توزيع الادوار والمهمات،وتجند ابسط القدرات واكثرها تركيبا وتعقيدا في عملية ممانعة ونماء منتظم لما به الانسانمن عقل وضمير وارادة وقيم تحوله الى صاحب بصيرة وعقل منتج..
مقابل البصر المتبلدوالمتلقي ببلاهة لقوالب الاعلام الجاهزة.
وفي طريقها الى صياغة ذلك الانسان تغرق ثقافةالمقاومة بحب سحق الانا والغيرية والايثار من العرفان، وجمال الاسلوب من الادب،والحكمة من تجارب الامم، والتوازن من الفقه، والعمق من الفلسفة، والبرنامج الواعي منالقرآن((286))..
وعلى طريق استعادة الذات ومعرفة النفس نستعيد الارض، كل الارض،ونواجه التحديات، كل التحديات، ويكتمل الانتصار((287)).
ثالثا: اهمية التبليغ والاعلام في نشر الثقافة المقاومة والدفاع عن وجود الامة يعد التبليغ من اهم الوسائل ذات العلاقة بالشان الاسلامي الحيوي. وقد دعت الرسالةالاسلامية الى وعي هذه الوسائل والتزامها في اطار حركة الدعوة الى مبادىء الثقافةالاسلامية وقيمها وتبليغ رسالة الاسلام..
ان الفرد هو الاصل في بناء حركة التبليغ، وهو الصانع للجماعة والامة.. لذلك يكون عملالداعية موجها، اساسا، باتجاه العمل على ادخال الرسالة الى قلبه، وتنميته وتطويرهوتحقيق عناصر السعادة والكمال والصلاح له..
ان اسلوب المبلغ الرسالي يجب ان يخضع للروحية الرسولية الاسلامية التي تتحرك مناجل ان تعيش في كل فكرة، وتنطلق في كل حياة، وتتلمس الواقع الموضوعي الذي يغذيالعمل وينميه ويطوره، فيصل الى الغاية، باكبر قدر ممكن من الايجابيات واقل قدر ممكنمن السلبيات، وتواجه العلاقات العامة والخاصة بالاشخاص والمؤسسات والاوضاع منخلال ارتباطها بمواقف الرسالة الحاضرة وتطلعاتها المستقبلية.
وعلى ضوء ذلك، يرتبط فكر المبلغ الملتزم بروحية البعد الرسالي للانتظار بالواقعالفكري والعملي، في عملية ملاحقة واعية لكل تطوراته ومتغيراته الذاتية والموضوعية،الامر الذي يجعل شخصية الداعية، او المبلغ، قريبة، بفكرها ووعيها، الى فكر العصروتجاربه وواقعه، في افكارها وتجاربها وحلولها ومواقعها، بحيث تكون بعيدة عن اثنين:اولهما الخيال الغارق في ضباب الاحلام الوردية، وثانيهما الباحث عن الواقع المعاصر فيافكار الماضي من دون محاكمة او موازنة. ان مسالة ان يكون الانسان داعية او مبلغا رساليا،في عصر غيبة المهدي (عج)، هي مسالة تعني ان ينطلق، في ذلك، من وعيه لذاته ليوظفامكاناته وكفاءته واخلاصه في خدمة الناس والرسالة، لان الناس يستجيبون للذين يمثلونحاجاتهم الفكرية او العملية، وبخاصة في ظروف واقعنا الراهن الذي يفرض على المبلغ انيلاحقه في كل ثقافته، باساليبه ومناهجه وافكاره، لان الواقع يريد لنا ان نتنازل عن اسلامنا،والتطورات تريد لنا ان نستسلم لثقافة العصر الاستهلاكية، لذلك يجب على المبلغ لثقافةالانتظار الرسالية ان يعيش ذهنية عصره ولغته واجواءه، ليعرف كيف يدخل الاسلاموالمعرفة الثقافية الاسلامية المقاومة الى هذا العصر...
اذا هناك خصائص وشروط اساسية يجب ان يتمتع بها المبلغ الرسالي يمكن اجمالها بمايلي:
1 ان يكون المبلغ عميق الايمان والالتزام بقيم اللّه والاسلام، وان يكون اللّه تعالى نصبعينيه، يعمل في سبيله ويجاهد فيه، ومنه يطلب العون والنصر والسداد والتوفيق: (والذينجاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان اللّه لمع المحسنين) «العنكبوت/69».
اننا نؤكد، في هذا الاطار، على ضرورة الاعداد الروحي والديني للعلماء والمبلغين والدعاةالى اللّه، الى جانب الاعداد الثقافي والفكري، ليستطيعوا الانطلاق الى الدعوة من خلالالعمل والتطبيق، ولتكون اعمالهم دعوة حية للاسلام صامتة بكلماتها، ناطقة بوحيهاالهادىء الوديع.
2 ان يكون قدوة صالحة في سلوكه الاسلامي، ونموذجا عاليا في التدين والتقوى والورعوالصلاح والالتزام بقيم المهدي(ع).
يقول الامام الصادق(ع): ((من سره ان يكون مناصحاب القائم، فلينتظر، وليعمل بالورع ومحاسن الاخلاق، وهو منتظر))((288)) كي تتاسىبه الامة والمجتمع، وتحتذي خطاه ولا يكون مشمولا بقوله تعالى:
(يا اءيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند اللّه اءن تقولوا ما لا تفعلون)«الصف/2و3».
3 ان يتسلح بالثقافة والفكر الاسلاميين والوعي الايماني العقيدي والفقهي المطلوب، لانذلك يمكنه من التمهيد لظهور الامام المهدي من خلال تصحيح مسيرة الامة نحو اهدافها،والوقوف في وجه الافكار والدعوات الباطلة والمنحرفة، والتمييز بين الثقافة المفيدة للامةوالثقافة الضارة لها، اي بين العلوم والاداب الحقيقية وبين الافكار الضالة والثقافة المزيفةالتي ترتدي لباس التقوى، وفضح حقيقتها وكشفها للامة، اذ لا يستطيع ان ينهض بالامةوالمجتمع من يفتقد الثقافة الاصيلة. من هنا يكون التوافر على مستوى راق من الوعيوالفهم والثقافة والرؤية، لمفاهيم الاسلام وتصوراته واحكامه وتشريعاته، قاعدة اساسيةتؤهل الانسان لان يكون من ((الكوادر)) الاساسية الصالحة للالتحاق بالامام المنتظر(ع)،وهذا هو المستفاد من جملة الروايات التي تؤكد على ضرورة ان يملك انصار المهديدرجات عالية من البصيرة والمعرفة والفقاهة في الدين والوعي النفاذ.
4 الاطلاع على معارف العصر وافكاره وثقافاته، ومواكبة تصوراته الفكرية والسياسيةوالاجتماعية، واخذ العبر والدروس منها، اي ان يفهم المبلغ احوال دهره ومجتمعه وطبيعةالوسط السياسي والاجتماعي الذي يعمل فيه، ويتحرك بين اجوائه، ويتمكن من التعاملمعه بنجاح وتفوق، لان الجهل بالواقع والحياة، او فقدان الاحساس باوضاعهما، يبعد المبلغوالداعية عن الواقع، ويسلمه الى القوى الاخرى التي تستغل ضيق افقه وقلة معلوماته،وضعف وعيه واحساسه بالعصر لتوجهه في غير الوجهة التي يتجه اليها في عقيدته ودينه،ولتحارب اهدافه في عملية تضليل وتشويه وتخريب، فالداعية عندما لا يفهم روح الاخرولا يدرك حدود ثقافته.. فكيف يمكن ان يخاطبه او يحاوره؟! وكيف يمكن ان يدعوه الىالالتزام بقيم الامام المهدي (عج) وثقافته؟ اذا، يجب ان يفهم المبلغ الداعية حجم عقول الناس، ومستوى استيعابهم ليستطيع انيتكلم معهم على قدر وعيهم وعقولهم، وان يفهم ايضا روح العصر واسلوب العمل والحياةفيه، حتى يعرف كيف يحرك الاسلام في داخله. طبعا ليس بمعنى ان يخضع الاسلاملذهنية العصر (اي تحديث الاسلام وعصرنته!) ولكن بمعنى ان يقتحم الاسلام (من خلالرسالته ووعي دعاته ومبلغيه) ذهنية العصر بفهم روحية الانسان المعاصر وذهنيته وكل ماينفتح عليه وينغلق عنه.
5 ان يعيش المبلغ هموم امته ومشاكلها وتحدياتها، ويتحسس آلامها وآمالها ويشاركهامعاناتها، ويحرص عليها، ويدرس ظروفها واحداثها التي ادت الى وقوع آلام واحزان فيها،وان يحاول التخفيف ما يستطيع من اتعابها وقلقها السلبي، ويتعامل معها بخلق وقيماسلامية صافية ونقية، اي ان يتصف باخلاق اسلامية واقعية على درجة من السمو والوعيالرسالي، فلا يستعجل الامور والنتائج بل يعمل بكل حكمة واناة.. يرصد آفاق المستقبلالمنظور الذي يعمل من اجل تغيير الواقع باتجاهه، وينظر بعمق الى مواقعه الراهنة فيحاضره حتى يفتح اللّه عليه وينصره (العمل والحركة والسعي والمثابرة)، لان تغيير واقعالامة نحو مواقع اكثر تطورا ورقيا، ليس من الامور السهلة والبسيطة، ولا تتاتى الا بالجهودالمسؤولة والعمل المستمر المتواصل والمضني. وهذا هو المعنى الحقيقي لمسالة تعميقحس الانتماء لقيادة الامام المنتظر(ع) التي تبعث، في نفوس المؤمنين بها، الامل الدائمبالتغيير نحو الافضل، وتنعش ارواحهم بالطموح الكبير والثبات والصمود على الخط،وتقوي عزيمتهم وارادتهم. فيتولد، نتيجة لذلك، زخم نوعي هائل من المعنويات الجبارةترفدنا جميعا بديمومة الثبات والتحدي والمواجهة. وتبقى تصون المسيرة الكبيرة فيحركتها المستمرة من الاحباطات والتراجعات والانكسارات في ظل ظروف القهروالاستعباد والهيمنة السائدة حاليا.
ان قوى الاستكبار العالمي الضالة تحشد يوميا جميع طاقاتها وجهودها السياسية والاعلاميةوالاقتصادية لمواصلة الحملة العدوانية ضد الامة العربية والاسلامية، وتحاول ضرب مواقعقوتها ورفعتها ومكامن رسوخها ومنابع مقاومتها وممانعتها، من خلال بث الفرقة والطائفيةوالعنصرية بين العرب والمسلمين. انهم يخططون ويتحركون لدراستنا وتحليلنا، ومن ثملنسف اساس عزتنا ووحدتنا. لذلك من الواجب علينا جميعا (دعاة ومبلغين رساليين) اننواجه جميع تلك المخططات والمؤامرات الخبيثة، ونحاول صدها واسقاطها في مواقعهاالاولى. والعمل على تلك الجبهة الخارجية لن ينجح مطلقا اذا نسينا جبهتنا الداخلية المليئةبالمشاكل والتعقيدات والهموم الذاتية التي نعيشها في داخلنا العربي والاسلامي، او غضيناالطرف عنها، اذ انه لا يكفي ان نوجه الاتهامات للاخرين بانهم يتآمرون علينا ويريدوناسقاطنا واقصاءنا والنيل من واقعنا وحريتنا وكرامتنا وما الى ذلك.
طبعا هذا صحيح، لكن علة هذا المرض ليست خارجية دائما..
بل قد يكون له (وهو كائناصلا) سبب ومنشا داخلي. من هنا علينا ان نعيد بناء تبليغنا الثقافي والفكري والسياسي فيداخل الساحة الثقافية العربية والاسلامية بخاصة في ما يرتبط بتعزيز ثقافة المهدي (عج)وعقيدته وتدعيمهما. وهذا يجب ان يرتكز على رؤية واعية تملانا بالامل والعزيمةوالاصرار والثبات والحركة والطموح، فيجب ان تعطى الاولوية للتاهيل الفكري الصحيحلثقافة المبلغين، اي لبناء ثقافة مختلفة عما نعيشه اليوم من حالة ((تقزيم الثقافة)) السائدة فيكل مواقعنا الرسمية وغير الرسمية (وهذه الاولوية تشكل احد الاهداف الرئيسية والدلالاتالعملية لتعميم ثقافة المهدي) . فنحن نعيش في اطار ثقافة ممسوخة وماسخة ومهمشةومستبعدة عن الفعل والانتاج.. ثقافة منافية لجميع القيم الانسانية الحقيقية، سواء كانت قيمالعقل او الحق او الجمال او الكرامة او العدالة. هذه القيم تكاد تكون منفية وغير موجودةبالكامل في قاموس الثقافة العربية الحالية التي تقوم بتقديمها الى اجيالنا وتدريسها لهم فيالمدرسة والجامعة. لذلك يجب ان نهتم بالتكوين العلمي لثقافتنا ومثقفينا ومبلغينا. نحننعي تماما ان جوهر ثقافتنا لا ينقصه العلم، وانما ينقصه تمثل المناهج العقلية المضبوطةواستيعابها وممارستها، اي السعي باتجاه بناء العقل والوعي عند الفرد وعند الجماعة علىاسس وركائز وحجج منطقية وعلمية((289)).
وليس ما يجري الان من عمليات تثقيف وتوعية الا مجرد حشو فارغ (سواء اكان هذا عنطريق النظام التقدمي ام غير التقدمي) وايمان بمسبقات واحكام جاهزة واعتقادات مندون اي تفسير او مغزى، ولا تحمل اي شرح او تاسيس عقلاني. وفي اعتقادي ان ثقافتناوتبليغنا الذي نمارسه اليوم، بوصفه عملا يدعو الى هذه الثقافة، يفتقد الى هذا التاسيسالعقلاني والمحاكمة المنطقية المطلوبة. طبعا انا اقصد النظام الثقافي والتبليغي الاسلاميالمعاصر، اي ما نقدمه نحن ضمن سياساتنا التبليغية وخططنا التوجيهية والتعليميةوالتثقيفية للاجيال القادمة. وليس الثقافة الاسلامية منذ نشاتها حتى الان.
اننا، وفي اطار بحثنا لموضوع التبليغ الاسلامي، واهمية اعادة بنائه على ضوء مسؤولياتناالرسالية التي تفرض علينا ضرورة تكثيف الحديث حول قضية الامام المنتظر(ع) فيمنطلقاتها وادلتها ومضامينها ودلالاتها واشكالاتها وطبيعة التحديات التي تواجهها، اقول:لابد من ان نعالج مسالة الاعلام والدعاية الحضارية بوصفها موضوعا ارتكازيا في عمليةالدعوة الى تاصيل الثقافة المقاومة (ثقافة الانتظار الرسالي). ان الانسان المعاصر كان ولايزال يتجاذبه نوعان من الاعلام، الاول: اعلام بنائي اخلاقي صادق يريد تنمية الانسانواسعاده وتكريمه في النشاتين، والثاني: اعلام انحرافي هادم يهدف الى حرف الانسان عنمسار فطرته النقية وكرامته وقيمه العالية بالغواية والضلال والافساد... وقد اخذ اصحاب كلاعلام (من هذين النوعين) على عاتقهم مهمة الدعوة الى تعاليم اعلامهم ونشر ثقافته،مستفيدين من الامكانات التقنية الاعلامية الهائلة التي وفرها العلم الحديث، هذا العلمالذي حولت طاقاته الاتصالية الاعلامية الضخمة، العالم الى قرية كونية متصلة من اقصاهاالى اقصاها.
اننا نلاحظ، في مجال الاعلاميات العالمية المعاصرة، ان فلسفة الاعلام فيالغرب((290)) وربما في كثير من اعلامنا العربي والاسلامي الرسمي المستلب والتابع آتنطوي على تحريض دائم وحاسم من اجل تجنيد المشاهدين بالاغراء، ودعوة الىالغوغائية والى الخمول((291)).. الدائر تجاه راي عام يغلب عليه الانفعال والعصبيةوالفوضى، وتتلاعب به امواج عالية من الدعاية الاستهلاكية والاعلانات الفارغة، وادواتنقل الثقافة الجماهيرية. وقد لاحظ بعض المثقفين الغربيين هذا الواقع وتاملوه بدقة،وشعروا بالاسى والمرارة تجاهه، كون حضارتهم تتقدم بسرعة مذهلة نحو الاضمحلالالاخلاقي، حتى ان كثيرين منهم راحوا يصفون نهاية القرن العشرين بانها عودة متجددةلعصر فساد التاريخ وتدهوره، كما هو الامر زمن انحطاط الرومان. وان هذا التدهور موسومبهيمنة تقنية وعسكرية ساحقة لا تحمل اي مشروع انساني قادر على اعطاء معنى للتاريخوالحياة والوجود. انها فلسفة اللامعنى واللاهدف.
اما بالنسبة الى النوع الاخر من الاعلام،وهو الاعلام الاسلامي الملتزم البناء والهادف، فهو يمثل نهجا معينا في حركة الاعلاممستمدا من المنهج الاسلامي الفكري والعملي في المسالة الانسانية في طبيعة الصراعالعقيدية لحركة الحياة، اي انه اعلام ملتزم بالاسلام وقيمه واخلاقه، ينفتح على الوقائعوالاحداث المتنوعة المنبسطة على كل القضايا والمشاكل العامة التي تدخل في دائرةالاهتمامات الاسلامية، سواء كان ذلك متصلا بتركيز الاسلام خطا ومنهجا للحياة، امبتحريك الواقع في دائرة مفاهيمه في ما يرتبط بقضايا العدل والحرية والمساواة والخيرالشامل للناس.
وفي ضوء ذلك، يمكن ان نقرر ان الانسان المسلم، الذي يريد الاعلام ان يمنحه ثقافةالمقاومة والمعرفة السياسية في جوانبها الاقتصادية والامنية وغيرها، لابد من ان يكونمحيطا بجميع آفاق الواقع الاقليمي والدولي، بالاضافة الى الواقع المحلي المحيط به،ليكون ذلك اساسا للتخطيط والمنهجية في التحريك الفعال، وللوعي السياسي الشامل فيالانفتاح المدروس على عمق الاوضاع والقضايا المتعلقة بحاضره ومستقبله وتحدياتهالداخلية والخارجية، في ما يمكن ان يتاثر به او يؤثر فيه، في مصالحه الخاصة، او في مواقفهالمطلة على مصالح الاخرين.
ان من الضروري على الاعلام الاسلامي ان يكون، خصوصا في عصرنا الحالي، اعلامامقاوما يدعم حركة المقاومة الجهادية والعسكرية((292)) ويشرح اهدافها النبيلة والساميةفي طلب العدالة والتحرر من التبعية والاستلاب والاحتلال العسكري والثقافي والامنيوالاقتصادي، ويعزز ثقة المسلم باسلامه..
يدعم ويرسخ معالم المواجهة مع العدوالصهيوني وعناصرها، ويحصن انساننا المستضعف ضد جميع التيارات والقوى الانحرافيةالضالة، ويظهر، بقوة، انسان المقاومة والجهاد الواعي على طريق مواجهة جميع مخططاتالتآمر ضد وجود الامة العربية والاسلامية. وفوق ذلك كله يصعد هذا الاعلام الرساليالملتزم من حركة الثقافة والتوعية التي تطلقها مسالة الامام المنتظر، كانه(ع) حاضر بيننا فياحاسيسنا واعماقنا، في حياة امتنا يوجه وعيها ومشاعرها وطموحاتها ومسيرتها، ويركزمواقفها ومواقعها.
من هنا يجب على القيمين والمشرفين على اعلامنا الاسلامي الذي يعاني من قصور كبيرفي طبيعة الاساليب والوسائل المستخدمة والامكانات المتاحة امام انطلاقتهوحركته((293)) يجب عليهم مراعاة الدقة في اختيار عناصر المادة التي يريدون تقديمهاالى الجمهور، اي عليهم التدقيق والتفحص العميق في اختيار الكلمات المعبرة عنالاحداث الواقعة، لان للكلمة ايحاءاتها في استجابة الناس لها ووعيهم لمداها في حركةالواقع.
اننا نواجه، في هذه اللحظة الحساسة من حياة امتنا، مخاطر جسيمة، وحتى الاننحن لسنا على مستوى رد التحدي والمواجهة في سياستنا واقتصادنا وفي اعلامنا وثقافتنا.
من هنا يجب ان نعيش حالة طوارى في كل مفرداتنا الحياتية، وبخاصة في اعلامناالاسلامي الذي لا نريده اعلاما ملتزما بالمظاهر الاسلامية الخارجية فقط... نسجد للّه علىجباهنا (في المظهر) ولكننا (حقيقة) نسجد للشيطان في عقولنا وفي قلوبنا (في المضمون).بل اننا نريد اعلاما صادقا وواعيا في تعاطيه مع جميع الافاق والمواقع التي نعيشها فيالحياة، نريد اعلاما مسؤولا يعيش الروح المنفتحة على الانسان كله وعلى الحياة كلها، فيتوجيه المضمون والجوهر الاعلامي نحو هذا الافق الواسع الذي يدفع الناس الى الاهتمامبه باعتباره مثيرا لاهتماماتهم على اساس تعبيره عن الجوانب المتصلة بتطلعاتهموقضاياهم، سواء كان ذلك في طبيعة المادة الاعلامية المتضمنة لمشاكلهم، ام لمشاكلالمسلمين المنفتحة على قضاياهم، او في طبيعة النظرة الشاملة لجميع الجوانب الانسانيةالمتصلة بالقضايا العامة والخاصة، الامر الذي يجعل منه حاجة للجميع، ام في امتداده فيحركة المستقبل باعتبار الاعداد لكثير من العناصر الحيوية العامة التي تتوقف عليها بعضتطلعات المستقبل، مما تكون مقدماتها او ايحاءاتها ومواقفها موجودة في الحاضر، لاننانعرف ان الاعلام السياسي والروحي والجهادي (اي المقاومة) يخلق الكثير من الفرصالعملية للمشاريع المستقبلية على صعيد الواقع الممتد في رحاب الزمن كله.
ان المسؤولية الخطيرة التي تلقيها تلك المهمات والواجبات الكبيرة، على عاتق النخبالملتزمة اسلاميا، توجب ان ياخذ اعلامنا باسباب التطور الحديث في اساليب الدعوةوالاعلام((294))، وذلك من خلال التخصص العلمي الذي يمنح صاحبه قدرة على مراعاةالدقة في جميع مواقع الاعلام والعمل الدعوي. وبخاصة ان الاعلام قد تحول، حاليا، الىعلم واسع الافاق يشتمل على القواعد التقنية والفنية التي تركز الثقافة الاعلامية على قواعدفكرية وعملية واسعة. لذلك يجب ان ينتفع اعلامنا، بالسرعة القصوى، من وسائل الاعلامالحديثة، اذ ان الباطل والشر قد يتراءيان حقا وخيرا لدى قطاعات واسعة من الناس نتيجةالضغط الاعلامي، والكثرة الخبرية، والتكرار المبرمج. من هنا تتضح اهمية استفادة اتباع((النهج الحق)) من وسائل التاثير الحديثة. وضرورة ذلك، فالحق الساكت لا يعرف ولا يتبعبحد ذاته. في هذا المجال تكون الاستفادة المدروسة من خلال العمل على خطين:
الاول داخلي: ان نقوم بتحصين الحالة الداخلية للمسلمين وتوعيتهم بحقيقة الدينالاسلامي وجوهره وشخصيته وتراثه وقيمه والتركيز على ثقافته المقاومة، والثاني خارجي:وذلك بتعريف الاسلام لغير المسلمين ونشر صورته الناصعة في انحاء العالم. من هنا نقول:ان حاجتنا الى اعلام مبني على روح ديننا واخلاقه، وعلى روح المنجزات الانسانية النبيلةلهي حاجة ملحة وضرورية في ظروف عصرنا الراهن، الذي بتنا نعاصره في زحمة الحياةواشتداد احداثها، وتسارع وقائعها، ولسوف تتوقف عليها (على تلك الحاجة) نتائج صراعنامع انظمة القوة والاستحواذ. ولما كان هذا الصراع يعبر، في حقيقته، عن تنافس حاد بينانظمة قيم كونية، يجب ان نمارس فيه اقصى درجات الحذر والوعي لفكرنا ورسالتنا، ونبينللاخرين (خاصة للشعوب الغربية)((295)) في هذه الاجواء التنافسية والصراعية انالاسلام دين منفتح وعقلاني في طرحه الفكري، واسلوبه للحياة والحركة والوجود، وانهليس دين عنف وارهاب وتخلف كما يصوره الاعلام الدولي، وانه لا يمارس القوة والجهادوالمقاومة الا كما مارستها (وتمارسها) شعوب العالم الاخرى، وقائيا ودفاعيا، عن وجودهاوارضها وكرامتها وحريتها، لان الرفق هو الاصل عنده.. وانه دين انساني يحترم انسانيةالانسان ويهتم بالداخل الانساني، ويحترم شخصية الفرد وحريته ويقر به خليفة للّه فيالارض. ويدعو الى التعارف والتواصل والتفاهم مع ثقافات الاخرين وحضاراتهم. ولايدعو، ابدا، الى الغائها والاستعلاء عليها. ويؤكد على التقوى والعمل الصالح باعتبارهمامعيار القرب والكرامة بين الجميع، ويؤكد في الوقت نفسه على الحوار المؤسس علىالمنطق والعلم والعدالة، لان ذلك هو رسالتنا في الانطلاق الى العالم كله، لندعو الىالاسلام بالوسائل التي تنفتح على عقول هؤلاء وقلوبهم، لان الدعوة الى اللّه وقيم الاسلاموالتعريف بحقائق الرسالة واهدافها وتاصيل منطقها الحضاري الطموح والعالي تفرض عليناان نشرح للناس اركان الاسلام وحقائقه ومواقفه في عقائده وشريعته وواقعه الثريوالاصيل.
رابعا: اهمية المنهج العلمي والموضوعي في تركيز ثقافة الانتظار الرسالي (الثقافةالمقاومة) لقد عاش امامنا المنتظر(ع) حياته، ولا يزال يعيشها، من موقع التخطيط والهدفية والمرحليةمن اجل الوصول الى اهداف الاسلام وتحقيق قيمة الرسالية الاصيلة((296)). لذلك نؤكد آفي سياق وعينا لهذه المسالة انه بات واجبا علينا، في خضم تحدياتنا وازماتنا وانكساراتناوهزائمنا، ان نبدا العمل والحركة باتجاه الافق المطلوب بكل امتداداته في الواقع المعاصرمن خلال التخطيط المرحلي المركز للفكرة والمبدا والقيمة، لان قيمة ما نلتزمه، نظريا،ينبغي ان يتحول الى كائن حي يتحرك في الخط العملي الانساني، وذلك في وعيه والايمانبه، ومن ثم التزام مفرداته التي ترتبط في الاساس بحركية الهدف الكبير والطموح، فيامتداد الوجود ورحابة الحياة.
لذلك، وطالما ان الهدف هو تحقيق مشروعنا وفكرنا في العمل والدعوة والهداية فيتعميق روحية الانتظار الايجابي الرسالي الهادف في ذهنية المجتمع، والسعي الدؤوبوالصادق لبناء المجتمع المهدوي المعصوم ((التمهيد الحركي الفعال)) فلابد من ان نعملبوعي وضمن خطة مرحلية حكيمة ومتوازنة، على ان ندخل الى عقول الناس وافئدتهم،وان نعيش جميعا ((دعاة رساليين)) تجربة الواقع العملي وحسه، ونبض عصرنا واسلوبه، ايان يفهم الداعية لغة عصره وثقافة زمنه الراهن((223)).. ان يفهم لغته ولغة الاخرين، لا انيسقط تحت تاثير قيم عصره ويتحجم (ويتحجر) في ممارسته لقيمه.. ولكن ان يفهم عصرهجيدا، ان يفهم حساسيته وذهنيته ونقاط ضعفه ونقاط قوته، حتى يكلم الناس بلغتهم بعيداعن التصنع والمغالاة والتكلف، فالذهنية لغة والجو لغة. لذلك نقول: نحن مسلمون،ومشروعنا حضاري منفتح، ولكن علينا ان نطور هذا الخطاب (المشروع) بحيث نبقي لهمضمونه الاسلامي الذي يطل على القضايا المعاصرة من دون اسقاط او تشويه لمعالمهوخصائصه. وبالمقابل، ومن دون ان نبتعد عن لغة العصر واسلوبه، نحاور الانسان.. نعيشفي قلب الساحة ونطلق خطابنا ومشروعنا الثقافي والسياسي التغييري العام في جميعقضايا الصراع من دون ان نفقد اي شيء من اسلامنا ومن طهارتنا ومن نقائنا، شريطة اننكون المسلمين الواعين الذين يعيشون في واقع التحدي ورد التحدي المعاصر حالةطوارى في فكرهم وفي اسلوبهم وفي وعيهم للواقع، وفي حركتهم من اجل هذا الواقع.من خلال هذا المضمون، نجد ان تركيز الاسلام على ضرورة الالتزام بالنهج العقلي الحكيموالمتوازن في اطار الدعوة الى تاصيل ثقافة الانتظار الرسالي وقيمه وابعاده في وعي الامةالاسلامية، في محاولة منه لضبط نزعات الانسان وعواطفه وانفعالاته يقدم لنا منهجاعلميا وموضوعيا في دراسة حالات العصبية والانفعال والتشنج التي تضج بها ساحتناالعربية والاسلامية، والتي تطبع شخصية الكثير من العاملين للاسلام في هذه الظروف، ماادى الى ان ياخذ العمل نفسه هذا الطابع (الطابع الانفعالي) . ومن الطبيعي ان تؤثر هذهالظاهرة على مبادرات العمل والانتاج وعلى نوعية الرؤيا للواقع والاشياء والاشخاص،فيفقد العاملون وضوح الرؤية، وتختلط الصورة الحقيقية في العيون، وترتبك الخطوات فيالطريق، لان الانفعال يغرق الشخصية في اجواء ضبابية، غارقة في السحر والاغراء فيجانب آخر، لانه يتعامل مع الاحساس والشعور والعاطفة، ولا يتعامل غالبا مع الفكروالعقل، الامر الذي يجعل للسرعة دورها الكبير في ما يصدره من حكم، وفي ما يخلقه منانطباع، وفي ما يتجه اليه من غايات. وبذلك يفقد الحكم حيثياته الهادئة المتزنة، ويغيبالتركيز عن الانطباع في غمار الضباب((298)). من هنا نجد ضرورة ان يتحرك الاسلاميونفي الخط الثقافي والسياسي ليقدموا الاسلام الى الانسان المعاصر بوصفه خطا فكريا عاقلاومستنيرا((299)) يملك مذهبا واسعا في السياسة والاقتصاد والاجتماع، بحيث تكون لهرؤية منهجية واسعة عقلانية ودقيقة لكل الواقع الاجتماعي والسياسي الذي يتخبط فيهالانسان.
ولا يعود الاسلام مجرد فتاوى ضبابية متناثرة هنا وهناك، او مجرد قيم حماسية انفعاليةليس لبعضها ادنى ارتباط ببعضها الاخر او بالواقع، مع العلم ان الثقافة الاسلامية قادرة علىان تستجيب لتحديات العصر الراهن، وان تخطط للمنهج العملي وترسمه، وان تصنع جميعالمعالم والعناوين التي يمكن من خلالها حل مشاكل الانسان على كافة الصعد والمستويات.انها ليست مشكلة الفكر الاسلامي والمعرفة الاسلامية، ولكنها مشكلة العاملين والدعاة الىهذا الفكر في وعيهم وفي اسلوبهم وفي ارادتهم.
خاتمة البحث.. (انتظار المجاهدين) ان الالتزام بثقافة المهدي (عج) ورسالته وخطه لا يعني ان نعطل حركتنا الفكرية والسياسيةوالاجتماعية داخل الامة.. كما ولا يعني، مطلقا، ان نوقف نشاطاتنا واعمالنا الرسالية فيالدعوة الى اللّه والوقوف في وجه الظلم والاستكبار، ومحاربة الفساد والانحراف، لان ذلكالعمل يجمد مسؤولياتنا الرسالة (الفكرية والجهادية) في داخل الشخصية الاسلامية،ويصادر ادوار الرسالة ومواقفها وطموحاتها وغاياتها الانسانية النبيلة.
من هنا، فالمطلوب في وعينا لمسالة الابعاد الرسالية للانتظار هو:
1 ان نهيىء انفسنا جميعا لاستقبال المهدي(ع) كانه سيقوم غدا، وذلك من خلال اعدادانفسنا ايمانيا وعقائديا وفكريا وثقافيا وروحيا وسلوكيا وسياسيا وجهاديا ورساليا. يقولالامام الصادق(ع): ((من سره ان يكون من اصحاب القائم فلينتظر، وليعمل بالورع ومحاسنالاخلاق، وهو منتظر، فان مات وقام القائم بعده، كان له من الاجر مثل اجر من ادركه،فجدوا وانتظروا...))((300)).
2 ان يكون احساسنا بقضية الامام المنتظر عالي المستوى في الفكر والممارسة، فنركز ذلكفي وعينا وسلوكنا من خلال الارتباط الفعال بالقيادات التي تجسد خط الامام (عج) فيالساحة((301))، والتي تعد امتدادا رساليا موضوعيا لقيادته(ع)، اي التي تكون على صورةالامام المنتظر في علمه وروحيته وشجاعته ووعيه واخلاقه ورساليته المنفتحة علىالانسان كله وعلى الحياة كلها، لتعيش (تلك القيادات) الهم الكبير للناس كافة، ولتكونجميع طاقاتها في خدمة قضاياهم الكبيرة باعتبار انهم (اي الناس) ساحة رسالته وجنودحركته ومنطلق مسؤوليته.. وهذا هو الذي يعطي حركتنا، في جميع الاتجاهات، المصداقية(الشرعية)، والضمانة الحقيقية لصيانة الخط وحمايته من الضياع والانفلات والانصهار(الذوبان) في قيادات منحرفة وغير شرعية تتناقض مع اهداف العقيدة المهدوية ومبادئها.
30/5/13520
https://telegram.me/buratha