لقد كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو ذلك الوصي والخلف الذي أعده رسول الله (صلي الله عليه وآله) إعداداً رسالياً خاصاً ليحمله المرجعية الفكرية والسياسية من بعده، كي يواصل عملية التغيير الطويلة الرادة بمسائدة القاعدة الواعية التي كان قد أعدها الرسول (صلي الله عليه وآله) له من المهاجرين والأنصار.
لقد خلق الإنسان وزوده بعنصري (العقل) و(الإرادة)، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً ومحققاً لأغراضه و أهدافه.
وقد جعل الله العقل حجة له علي خلقه، وأعانه بما أفاض عليه معين هدايته؛ فإنّه هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلي طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلي هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها.
وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة أخري. وبذلك قدم اطروحته الكاملة فيما يخص نظرية الهداية ونظامها.
معالم مبدأ الهداية الربانية
قال الله تعالي مبيّناً حقيقة الهداية ومبدئها وطريقها ورموزها ونتائجها:
1-وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهدِي السَّبيلَ.
2-قُل إنّ هُدَي اللهِ هُوَ الهُدَي.
3-وَاللهُ يَهدِي مَن يَشَاءُ إلي صِرَاط مُستقيم.
4-وَمَن يَعتَصِم باللهِ فقد هُدِيَ إلي صِرَاط مُستقيم.
5- وَيَرَي الّذِينَ أوتُوا العِلمَ الّذِي أنزلَ إليك مِن رَبِّك هُوَ الحَقَّ وَيَهدِي إلي صِرَاطِ العَزيزِ الحَميدِ.
6-وَمَن أضَلُّ مِمَّن اتَّبَعَ هَوَاهُ بغَيرِ هُديَّ مِنَ اللهِ.
7-قُل اللهُ يَهدِي لِلحَقِّ أفمَن يَهدِي إلي الحَقُّ أن يُتَّبَعَ أم مَن لا يَهدِّي إلّا أن يُهدَي فمَا لُكم كيفَ تحكمُونَ.
فالله تعالي هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلي الصراط المستقيم وإلي الحق القوِيم.
مسيرة الهداية الربانية
وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم المهديون مشعل الهداية الربانية منذ فجر تاريخ الإنسان وعلي مدي العصور والأجيال.
ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما أفصحت نصوص الوحي _ مؤيدةَ لدلائل العقول_ بأن الأرض لا تخلو من حجة لله علي خلقه، لئلا يكون للناس علي الله حجة بعد الرسل فالحجة «قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق»، «ولو يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة»، وقد صرح القرآن _بشكل لا يقبل الريب_ قائلاَ: (إنَّما أنتَ مُنذِرٌ وَلِكلِّ قوم هَاد).
مهام القادة الهداة
ويتولي أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهديون مهمة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخص فيما يلي:
1-تلقي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهو تعبير عن الاستعداد التام لتلقي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح الذكر الحكيم قائلاً: (اللهُ أعلمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالتهُ) و(اللهُ يَجتبي مِن رُسُلِهِ مَن يَشاءُ).
2- إبلاغ الرسالة الإلهية الي من أرسلوا إليه من البشرية، ويتوقف الإبلاغ علي الكفاءة التامة التي هي حصيلة «الإستيعاب والإحاطة» بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلباتها، و«العصمة» عن الضلال ويتمثل في الخطأ والانحراف معاً، قال تعالي: (كانَ النَّاسُ أمّة وَاحِدةَ فَبَعثَ اللهُ النَّبيِّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ وَأنزَلَ مَعَهُمُ الكتابَ بالحقِّ لِيحكمَ بَينَ النّاس فِيَما الختلُفُوا فِيهِ وَمَا اختلفَ فِيهِ). وقال أيضاً: (قالَ فبعِزَّتِك لاغوِينَّهُم أجمَعِين إلا عِبَادَك مِنهُمُ المُخلصِينَ).
3- تكوين أمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمة مستخدمة عنواني التزكية والتعليم، قال تعالي: (وَيُزكيهِم وَيُعَلّمُهُمُ الكتابَ والحِكمَة) والتزكية هي التربية السليمة باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلب التربية القدوة الصالحة التي تتمتع بكل عناصر الكمال، كما قال تعالي: (لقد كانَ لكم فِي رَسُول الله أسوَةٌ حَسَنةٌ لِمَن كانَ يَرجُوا اللهَ وَاليومَ الآخِرَ وَذكرَ اللهَ كثيراً).
4- صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقررة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلب الكفاءة العلمية والنفسية. التي تتناسب مع هذه المهمة العظيمة.
5- العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس أبناء المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ الأطروحة الربانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف علي المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسي يتولي إدارة شؤون الأمة علي أساس الرسالة الربانية للبشرية، ويتطلب التنفيذ قيادة حكيمة، وشجاعة فائقة، وصموداً كبيراً، ومعرفة تامة بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة والتربية و سنن الحياة، ونلخصها في الكفاءة العلمية و العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، والعصمة التي تعبر عن الكفاءة النفسية تصون القيادة الدينية من كل سلوك منحرف أو عمل خاطي بإمكانه أن يؤثر تأثيراً سلبياً علي مسيرة القيادة وانقياد الأمة لها بحيث يتنافي مع أهداف الرسالة وأغراضها. فالعصمة ركن أركان هذه الكفاءة النفسية.
جهاد الأنبياء الدامي (صلوات الله عليهم أجمعين)
وقد سلك الأنبياء وأوصياؤهم المصطفون علي الأجيال طريق الهداية الدامي، واقتحموا العقبات في سبيل التربية المطلوبة، وتحملوا كل صعب، في سبيل أداء المهام الرسالية وقدموا كل ما يمكن أن يقدمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكأوا طرفة عين.
انجازات خاتم النبيين وسيد المرسلين (صلي الله عليه وآله)
وقد توج الله جهودهم وجهادهم المستمر علي مدي برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلي الله عليه وآله) وحمله الأمانة الكبري ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها. وقد سار الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصييلة جهاده المبارك وكدحه الدائب خلال أكثر من عشرين سنة ما يلي:
1-تقديم رسالة كاملة تحتوي علي عناصر الديمومة والبقاء.
2- تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.
3- تكوين أمة مسلمة تؤمن بالله رباً وبالإسلام مبدأ، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة.
4- تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسي يحمل لواء الإسلام ويطبق شريعة السماء.
5- تقديم الوجه المشرق للقيادة الربانية الحكيمة المتمثلة في قيادته (صلي الله عليه وآله).
متطلبات الرسالة الخاتمة
ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري:
أ-أن تستمر القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربصون بها الدوائر.
ب- أن تستمر عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال؛ علي يد مرب كفوء علمياً ونفسياً حِيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول الأعظم الأعظم (صلي الله عليه وآله)، يستوعب الرسالة ويجسدها في كل حركاته وسكانته.
ومن هذا كان التخطيط الإلهي يحتم علي الرسول الخاتم (صلي الله عليه وآله) إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم؛ لتسلم مقاليد الحركة النبوية العظيمة والهداية الربانية بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية _ التي كتب الله لها الخلود _ من تحريف الضالين وكيد الخائنين، وتربِية الأجيال علي قيم الله ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولوا تبيين معالمها وكشف أسرارها وذخائرها للبشرية علي مر العصور، حتي يرث الله الأرض ومن عليها.
وتجلي هذا التخطيط الرباني في ما نص عليه الرسول (صلي الله عليه وآله) بقوله: «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي، وإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض».
وكان أئمة أهل البيت _ صلوات الله عليهم أجمعين_ هم العترة وهم خير من عرفهم النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) وذلك بأمر من الله تعالي ذلك بأمر من الله تعالي. وكانت سيرة الأئمة الاثني عشر من أهل من أهل البيت (عليهم السلام) تمثل بحق المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول (صلي الله عليه وآله).
وتبلورت حياة الأئمة الراشدين في الثبات علي نهج الرسول العظيم وأنفتاح الأمة عليهم بالتدريج _ برغم كل الألغام والعقبات التي زرعت في هذا الطريق_ والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح تنير الدرب للساكين طريق الحق وللمؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاء علي الله وعلي مرضاته، والمستقرين في أمر الله، والتأمين في محبته، والذائبين في الشوق إليه، والسابقين إلي تسلق قمم الكمال الإنساني المنشود.
وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر علي طاعة الله وتحمل جفاء أهل الجفاء بهم حتي ضربوا أعلي أمثلة الصمود والتضحية لتنفيذ أحكام الله تعالي، ثم اختاروا الشهادة مع العز، علي الحياة مع الذل، حتي فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.
الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أول الخلفاء المهديين
الإمام المرتضي علي بن أبي طالب: هو أمير المؤمنين وسيد الوصيين وأول الخلفاء المهديين للرسول الأعظم محمد (صلي الله عليه وآله) _بأمر من الله ونص من رسوله (صلي الله عليه وآله)_ وقد صرح القرآن بعصمته وتطهيره من كل رجس، وبأهل الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) نصاري نجران، به وبزوجته وولديه، واعتبرهم من القربي الذين وجبت مودتهم مصرحا غير مرة بأنهم عدل الكتاب المجيد إذ يوجبان للمتمسك بهما معاً النجاة وللمختلف عنهما الردي.
النشاة الفريدة
نشأ الإمام في حجر رسول الله (صلي الله عليه وآله) منذ نعومة أظفاره، وتغدي من معين هديه، فكان المتعلم الوفي والأخ الزكي، وأول من آمن وصلي وأصدق من تفاني في سبيل ربه وضحي في سبيل إنجاح رسالته في أحرج لحظات صراعها مع الجاهلية العاتية في كل صورها في العهدين المكي والمدني وفي حياة الرسول وبعد رحيله ذائباً في مبدئه ورسالته وجميع قيمه مجسداً للحق بكل شعبه من دون أن ِيتخطاها قيد أنملة أو ينحرف عنها قيد شعرة.
صوت العدالة الربانية
لقد وصفه ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية بن أبي سفيان حتي أبكاه وأبكي القوم وجعله يترحم عليه، بقوله:
«كان والله بعيد المدي شديد القوي، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزيز العبرة طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، فإن ابتسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا يبأس الضعيف من عدله».
الموقع المتميز في تاريخ الرسالة
لقد آزر الإمام علي (عليه السلام) الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) منذ بداية الدعوة، وجاهد معه جهادا لا يجاريه فيه أحد من أصحاب الرسول (صلي الله عليه وآله) في تاريخ الدعوة المباركة حتي تفري الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق الشياطين بعد أن مني بذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب.
وبعد أن خطا الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) لتغيير المجتمع الجاهلي خطواته المدهشة في تلك الفترة القصيرة كان الطريق أمام الاسلام لبلو أهدافه الكبري شاقاً وطويلاً يتطلب التخطي الكامل والقيادة الواعية التي لا تقل عن الرسول القاد وعياً وإيماناً وكمالاً وإخلاصاً ودراية وحنكة، وكان من الطبيعي للرسالة الخاتمة أن تخط لمستقبل هذه الدعوة التي تعتبر عصارة دعوات الأنبياء جميعاً ووريثة جهودهم وجهادهم المتواصل عبر التاريخ. وهكذا كان إذ اختار النبي الخاتم (صلي الله عليه وآله) بأمر من الله سبحانه من رشحه عمق وجوده في كيان الدعوة لهذه المهمة التي تتطلب من يتفاني في أهدافها ويكون خالصاً من جميع شواب الجاهلية ورواسبها ومتحلياً بأعلي درجات الكفاءة. ومن غير علي كان يحمل هذه الأوسمة والخصال؟!
الإعداد الرسالي للوصي
لقد كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو ذلك الوصي والخلف الذي أعده رسول الله (صلي الله عليه وآله) إعداداً رسالياً خاصاً ليحمله المرجعية الفكرية والسياسية من بعده، كي يواصل عملية التغيير الطويلة الرادة بمسائدة القاعدة الواعية التي كان قد أعدها الرسول (صلي الله عليه وآله) له من المهاجرين والأنصار. وهذا نكتفي بذكر أهم الإحداث التي ترتب بهذا الإعداد في أواخر العهد المدني من سيرة الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله).
مباهلة نصاري نجران:
اجتمع زعماء نصاري نجران وحكماؤهم يتدراسون أمر كتاب النبي (صلي الله عليه وآله) الذي يدعوهم فيه إلي الإسلام. ولم يتواصلوا إلي رأي قاطع إذ كانت في أيديهم تعاليم تؤكد وجود نبي بعد عيسي (عليه السلام)، وما ظهر من أمر محمد في الجزيرة العربية فهو يشير الي نبوته. من هنا قرروا أن يرسلوا وفداً يقابل شخص النبي (صلي الله عليه وآله) ويحاوره ليطلع علي حقيقة الأمر.
واستقبل النبي (صلي الله عليه وآله) الوفد النجراني الكبير، وقد بدأ عليه عدم الرضا لمظهرهم الذي كان يحمل طابع الوثنية، فقد كانوا يرتدون الديباج والحرير ويلبسون الذهب ويحملون الصلبان في أعناقهم. ثم غدوا عليه ثانية وقد بدلوا مظهرهم فرحب بهم واحترمهم وفسح لهم المجال ليمارسوا طقوسهم.
ثم عرض عليهم الإسلام وتلا عليهم من القرآن فامتنعوا وكثر الحجاج معهم، فخلصوا إلي أن يباهلهم النبي (صلي الله عليه وآله)، وكان ذلك بأمر من الله عز وجل واتفقوا علي اليوم اللاحق موعداً.
وخرج إليهم رسول الله (صلي الله عليه وآله) وهو يحمل الحسين وبيده الحسن وخلفه ابنته فاطمة وابن عمه علي بن أبي طالب امتثالاً لأمر الله تعالي الذي نص عليه الذكر الحكيم قائلاً: (فمَن حَاجَّك فِيهِ مِن بَعدِ مَا جَاءَك مِنَ العِلمِ فقُل تعَالوا نَدعُ أبناءَنا وَأبناءَكم وَنِسَاءَنا وَنِساءَكم وَأنفُسَنا وَأنفُسَكم ثُمَّ نَبتَهل فَنَجعَل لعنة اللهِ عَلي الكاذِبينَ). ولم يصحب سواهم أحداً من المسلمين ليثبت للجميع صدق نبوته ورسالته وهنا قال أسقف نجران: يا معشر النصاري إني لأري وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقي علي وجه الأرض نصراني.
وحين أبوا أن يباهلوا النبي وأهل بيته _ صلوات الله عليهم أجمعين _ قال لهم الرسول: أما إذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما علي المسلمين، فأبوا، فقال: «إني أنا جزكم القتال». فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك علي أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا علي أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة _ ألفاً في صفر، وألفاً في رجب _ وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم علي ذلك، وقال: «والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلي علي أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل نجران وأهله حتي الطير علي رؤوس الشجر، ولما حال الحول علي النصاري كلهم حتي يهلكوا. فرجعوا إلي بلادهم دون أن يسلموا».
وروي أن السيد والعقاب من زعمائهم لم يلبثا إلا يسيرا حتي عادا إلي النبي (صلي الله عليه وآله) ليعلنا إسلامهما.
حجة الوداع:
كان الرسول الأكرم (صلي الله عليه وآله) هو القدرة الحسنة للإنسانية جمعاء، يبلغ آيات الله ويفسرها ويفصل أحكامها ببيان جلي، وأصبحت جماهير المسلمين حريصة علي الاقتداء به في القول والعمل. وبحلول شهر ذي القعدة الحرام من العام العاشر للهجرة عزم النبي (صلي الله عليه وآله) علي المدينة وتجهزوا للخروج مع النبي (صلي الله عليه وآله) حتي بلغ عددهم ما يقارب مائة ألف مسلم من مختلف الحواضر والبوادي والقبائل، تجمعهم المودة الصادقة والأخوة الإسلامية والاستجابة لنداء الرسول القائد (صلي الله عليه وآله) بعد أن كانوا بالأمس القريب أعداءاً متنافرين، جهالاً كافرين. واصطحب النبي (صلي الله عليه وآله) معه كل نسائه وأبنته الصديقة فاطمة الزهراء، وتخلف زوجها علي بن أبي طالب في مهمة بعثه بها رسول الله (صلي الله عليه وآله)، واستعمل علي المدينة أبا دجانة الأنصاري.
وفي منطقة ذي الحليفة أحرم النبي (صلي الله عليه وآله) فلبس قطعتين من قماش أبيض ولبي عند الإحرام قائلاً: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لبيك لا شريك لك لبيك».
وفي الرابع من شهر ذي الحجة الحرام شارف النبي (صلي الله عليه وآله) مكة وقطع التلبية، ثم دخل المسجد الحرام وهو يكثر الثناء علي الله ويحمده ويشكره فاستلم الحجر وطاف سبعاً وصلي ركعتين عند مقام إبراهيم ثم بين الصفا والمروة والتفت الي الحجيج قائلاً: «من لم يسق منكم هدياً فليحل وليجعلها عمرة، ومن ساق منكم هدياً فليقم علي إحرامه».
ولم يستجب بعض المسلمين لأمر الرسول هذا ظناً منهم أن عليهم أن يفعلوا كما يفعل الرسول القائد (صلي الله عليه وآله) من عدم التحلل من الإحرام، فغضب النبي (صلي الله عليه وآله) لموقفهم وقال: «لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم».
وأقفل علي بن أبي طالب (عليه السلام) راجعاً من اليمن الي مكة ليلتحق برسول الله (صلي الله عليه وآله) وقد ساق معه (34) هدياً. وعلي مقربة من مكة تعجل لدخولها واستخلف أحد أفراد سريته عليها. وسر النبي (صلي الله عليه وآله) بلقاء علي وما حققه من نجاح باهر في اليمن وقال له: انطلق فطف بالبيت وحل كما حل أصحابك. فقال (عليه السلام): يا رسول الله إني أهللت كما أهللت، ثم قال (عليه السلام): إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهل بما أهل به عبدك ونبيك ورسولك محمد (صلي الله عليه وآله). ثم أمره (صلي الله عليه وآله) أن يعود إلي سريته ويصحبها إلي مكة، ولما قدموا علي النبي (صلي الله عليه وآله) اشتكوا علياً (عليه السلام) لأنه كان قد رفض تصرفاً خاطئاً فعلوه في غيابه، فأجابهم النبي (صلي الله عليه وآله) قائلاً: «أيها الناس لا تشكوا علياً، فو الله إنه لأخشن في ذات الله من أن يشتكي».
وفي اليوم التاسع من ذي الحجة توجه النبي (صلي الله عليه وآله) مع جموع المسلمين نحو عرفات.
ومكث رسول الله (صي الله عليه وآله) في عرفات حتي غروب اليوم التاسع، ومع الظلام ركب ناقته وأفاض إلي المزدلفة وأمضي فيها شطراً من الليل ولم يزل واقفاً من الفجر الي طلوع الشمس في المشعر الحرام. ثم توجه في اليوم العاشر إلي «مني» وأدي مناسكها من رمي الجمرات والنحر والحلق ثم توجه نحو مكة لأعداء بقية مناسك الحج.
وقد سميت هذه الحجة بـ «حجة الوداع» لأن الرسول (صلي الله عليه وآله) ودع المسلمين في هذه الحجة التي أشار فيها الي دنو وفاته كما سميت بـ «حجة البلاغ» لأنه (صلي الله عليه وآله) قد بلغ فيها ما أنزل إليه من ربه في شأن الخلافة من بعده، ومنهم من سماها بـ «حجة الإسلام» لأنها الحجة الأولي للنبي (صلي الله عليه وآله) والتي بين فيها أحكام الإسلام الثابتة في مناسك الحج.
خطبة النبي (صلي الله عليه وآله) في حجة الوداع:
وروي أن النبي (صلي الله عليه وآله) خطب خطاباً جامعاً فقال بعد أن حمد الله وأثني عليه: «أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن اول دم أبداً به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية، والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ففيه مائة بعير فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه رضي أن يطاع فيما سوي ذلك مما تحتقرون من أعمالكم.
أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله. وإن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادي وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس إن لنساءكم عليكم حقاً وإن لكم عليهن حقاً. لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن شيئاً، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً.
أيها الناس إنما المؤمنون إخوة فلا يحل لا مري مال أخيه إلا عن طيب نفس. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض؛ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي علي عجمي فضل إلا بالتقوي، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال (صلي الله عليه وآله): فليبلغ الشاهد منكم الغائب.
أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث في أكثر من الثلث، والوالد للفراش وللعاهر الحجر، من ادعي الي غير أبيه أو تولي غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً... والسلام عليكم ورحمة الله».
تعيين الوصي:
أتم المسلمون حجهم الأكبر وهم يحتقون بالنبي (صلي الله عليه وآله) وقد أخذوا مناسكهم عنه، وقرر الرسول (صلي الله عليه وآله) أن يعود إلي المدينة، ولما بلغ موكب الحجيج العظيم إلي منطقة «رابغ» قرب «غدير خم» وقبل أن يتفرق الحجيج ويرجعوا الي بلدانهم من هذه المنطقة نزل الوحي الإلهي بآية التبليغ الآمرة والمحدرة: (يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغ مَا أنزِلَ إلَيك مِن رَبِّك وَإن لم تَفعَل فمَا بَلُغتَ رِسَالتهُ وَاللهُ يَعصِمُك مِنَ النَّاس).
لقد حمل هذا الخطاب الإلهي أمراً مهماً جداً فأي تبليغ مهم هذا قد طلب من الرسول (صلي الله عليه وآله) إنجازه ولم يكن قد أنجزه إلي ذلك الحين؟ وقد أمضي النبي (صلي الله عليه وآله) ما يقارب ثلاثة وعشرين عاماً يبلغ آيات الله وأحكامه ويدعو الناس إلي دين الله! وقد نال ما نال من عظيم المحن والبلاء والجهد، كي يقال له: «فما بلغت رسالته».
وهنا أصدر النبي (صلي الله عليه وآله) أوامره بأن تقف القوافل حتي يلحق آخرها بأولها في يوم قائظ يضطر المرء فيه أن يلف رأسه وقدميه من شدة حر الرمضاء ليتلو عليهم أمر السماء ويتمم تبليغ الرسالة الخاتمة. إنها الحكمة الإلهية أن يتم التبليغ في هذا المكان وفي هذا الظرف كي يبقي عالقاً في وجدان الأمة، حياً في ذاكرتها علي مر الزمن حفاظاً علي الرسالة والأمة الإسلامية.
وجمعت الرحال وصنع منها منبر صعد عليه النبي (صلي الله عليه وآله) بعد أن صلي في جموع المسلمين فحمد الله وأثني عليه وقال بصوت رفيع يسمعه كل من حضر:
أيها الناس يوشك أن أدعي فأجيب وإني مسؤول وأنتم مسؤولون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت ونصحت وجاهدت فجزاك الله خيراً. قال (صلي الله عليه وآله): ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن جنته حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلي نشهد بذلك قال (صلي الله عليه وآله): اللهم نشهد. ثم قال (صلي الله عليه وآله): فإني فرطكم علي الحوض وأنتم واردون علي الحوض وإن عرضه ما بين صنعاء وبصري فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.
فنادي مناد وما الثقلان يا رسول الله؟ قال (صلي الله عليه وآله): الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا. والآخر الأصغر عترتي. وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا.
ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب حتي رؤي بياض إبطيهما وعرفه الناس أجمعون. فقال (صلي الله عليه وآله): أيها الناس من أولي الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال (صلي الله عليه وآله): إن الله مولاي المؤمنين وأنا مولي المؤمنين وأنا بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه _ يقولها ثلاث مرات_
ثم قال (صلي الله عليه وآله): «اللهموال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».
ثم لم يتفرقوا حتي نزل أمين وحي الله بقوله تعالي: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): «الله اكبر علي إكمال الدين وإتمام النعمة ورضي الرب برسالتي والولاية لعلي بعدي».
ثم أمر (صلي الله عليه وآله) أن تنصب خيمة لعلي (عليه السلام) وأن يدخل عليه المسلمون فوجاً فوجاً ليسلموا عليه بإمرة المؤمنين ففعل الناس كلهم ذلك وأمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين ممن معه أن يفعلن ذلك.
وكان في مقدمة المهنئين أبوبكر وعمر بن الخطاب، كل يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولي كل مؤمن ومؤمنة.
تفرقت جموع الحجيج من منطقة غدير خم منجهة نحو العراق والشام واليمن، وانجه النبي (صلي الله عليه وآله) نحو المدينة. وحمل الجميع وصية الرسول (صلي الله عليه وآله) بالخلافة والقيادة من بعده لربيبه علي بن أبي طالب (عليه السلام) لتستمر حركة الرسالة الإسلامية بنهج نبوي وتجتاز العقبات بسلام بعد رحيل القائد الأول وذلك بعد أن أتم الحجة علي المسلمين بالتعريف بعلي (عليه السلام) في ذلك اليوم التاريخي الخالد. فإنه (صلي الله عليه وآله) كان يصرح بموقع علي الرسالي منذ يوم الدار حيث وصفه في أكثر من موقف بالوزير الناصح والأخ المؤازر والعضد المدافع والخليفة الذي يجب علي الناس من بعده أن يطيعوه ويتبعوه ويتخذوه لأنفسهم قائداً وزعيماً.
ظهور المتبئين:
وبعد أن انبسط سلطان الدين وقويت مركزية القرار في المدينة بنصب الوصي الأمين والخليفة الهادي للحق بالحق لم يعد بأمر خطير ارتداد أفراد وإصحار هم بعدم التسليم لما جاء به النبي (صلي الله عليه وآله) أو وجود أفراد في الأطراف البعيدة عن المدينة يرون في عنصر الدين وسيلة لتحقيق بعض مآربهم الرخيصة.
من هنا أخذ مسيلمة يدعي النبوة كذباً وكتب إلي النبي (صلي الله عليه وآله) كتاباً ذكر فيه أنه بعث نبياً ويطلب فيه من النبي (صلي الله عليه وآله) أن يشاركه في سلطان الأرض. ولما وقف النبي (صل الله عليه وآله) علي مضمون الرسالة التفت إلي من حملها إليه وقال:
«لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما لأنكما أسلمتما من قبل وقبلتما برسالتي فلم اتبعتما هذا الأحمق وتركتما دينكما»؟.
ثم رد علي مسيلمة الكذاب برسالة كتب فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلي مسيلمة الكتاب. السلام علي من اتبع الهدي، اما بعد فإن الأرض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».
وقد أفلح المسلمون في القضاء علي حركات الارتداد التي قام بها بعض الدجالين مثل الأسود العنسي ومسيلمة وطلحة.
العتبئة العامة لغزو الروم:
أبدي النبي (صلي الله عليه وآله) اهتماماً كبيراً للحدود الشمالية للدولة الإسلامية حيث تتواجد دولة الروم المنظمة وصاحبة الجيش القوي. ولم تكن دولة فارس ذات أثر مقلق علي الدولة الإسلامية لأن علامات الانهيار كانت قد بدت عليها، كما أنها لم تكن تملك عقيدة روحية تدافع عنها كالمسيحية لدي الروم، فهي التي كانت تشكل خطراً علي الكيان الإسلامي الفتي، خاصة وأن بعض عناصر الشغب والنفاق قد أجليت عن الدولة الإسلامية فذهبت إلي الشام ولحق بها آخرون، وكان وجود نصاري نجران عاملاً سياسياً يدفع الروم لنصرتهم.
ومع ذلك فإن كل هذه الأمور لم تكن عوامل تستدعي الاهتمام الكبير الذي ظهر واضحاً من إعداد النبي (صلي الله عليه وآله) لجيش كبير ضم وجوه كبار الصحابة ما خلا علياً وبعض المخلصين معه فقد أراد النبي (صلي الله عليه وآله) أن يخلو الجو السياسي من أمور قد تعيق عملية انتقال السلطة إلي علي بن أبي طالب (عليه السلام) للقيام بمهام الخلافة من بعده، بعد أن لمس النبي تحسساً وانز عاجاً من بعض الأطراف لتأكيده المستمر علي مرجعية علي (عليه السلام) وصلاحيته لإتمام مسيرة النبي (صلي الله عليه وآله) وخصوصاً بعد بيعة الغدير، فأراد النبي (صلي الله عليه وآله) أن يخلو الظرف من التوتر السياسي في المدينة ليتم استلام علي (عليه السلام) لزمام الدولة من بعده دون صدام وشجار؛ ولهذا عقد النبي (صلي الله عليه وآله) لواء وسلمه الي اسامة بن زيد_ القائد الشاب الذي نصبه الرسول (صلي الله عليه وآله) في إشارة بليغة إلي أهمية الكفاءة في القيادة _ وجعل تحت إمرته شيوخ الأنصار والمهاجرين، وقال له: «سر إلي موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش فاغز صباحاً علي أهل ابني».
ولكن روح التمرد والطمع في السلطان وقلة الانضباط دفعت بعض العناصر إلي عدم التسليم التام لأمر النبي (صلي الله عليه وآله) ولعلها كانت عارفة بالأهداف التي قصدها النبي (صلي الله عليه وآله) ومن هنا حاولت أن تؤخر حركة الجيش المجتمع في معسكر «الجرف». وبلغ النبي (صلي الله عليه وآله) ذلك فغضب وخرج إلي المسجد_ وهو ملتحف قطيفة، وقد عصب جبهته بعصابة من الم الحمي التي أصابته _ فصعد المنبر ثم حمد الله وأثني عليه وقال: «أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم الله إن كان للإمارة لخليقاً وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي وإنهما لمخيلان لكل خير واستوصوا به خيراً فإنه من خياركم».
واشتدت الحمي برسول الله (صلي الله عليه وآله) ولم يغفله ثقل المرض عن الاهتمام الكبير لخروج الجيش فكان يقول: «أنفذوا جيش اسامة» لكل من كان يعوده من أصحابه ويزيدهم إصراراً بقوله: «جهزوا جيش اسامة لعن الله من تخلف عنه». وأوصل بعض المسلمين أنباء تدهور صحة النبي (صلي الله عليه وآله) الي معسكر المسلمين في الجرف فرجع اسامة ليعود النبي (صلي الله عليه وآله) بالتعجيل في المسير وعدم التردد في المهمة التي جعلها علي عاتق جيش اسامة.
أيام الرسول (ص) الأخيرة والحيلولة دون كتابة الوصية الأخيرة:
ورغم ثقل الحمي وألم المرض خرج النبي (صلي الله عليه وآله) مستنداً علي علي (عليه السلام) والفضل بن العباس ليصلي بالناس وليقطع بذلك الطريق علي الذين خططوا لمصادرة الخلافة والزعامة التي كانوا يطمحون لها من قبل حيث تمردوا علي أوامر الرسول (صلي الله عليه وآله) بالخروج مع جيش اسامة بكل بساطة والتفت النبي – بعد الصلاة – إلي الناس فقال: «أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علي بشيء، إني لم أحل إلا ما أحل الله، ولم أحرم إلا ما حرم الله» فأطلق بقوله هذا تحذيراً آخر أن لا يعصوه وإن لاحت في الأفق النوايا السيئة التي ستجلب الويلات للأمة حين يتزعمها جهالها.
و اشتد مرض النبي (صلي الله عليه وآله) واجتمع الصحابة في داره ولحق بهم من تخلف عن جيش اسامة فلامهم النبي (صلي الله عليه وآله) علي تخلفهم واعتذروا بأعذار واهية. وحاول النبي (صلي الله عليه وآله) بطريقة أخري أن يصون الأمة من التردي والسقوط فقال لهم: ايتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده، فقال عمر ابن الخطاب: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، وهكذا وقع التنازع والاختلاف وقالت النسوة من وراء الحجاب: إئتوا رسول الله (صلي الله عليه وآله) بحاجته. فقال عمر: اسكتن فإنكن صويحبات يوسف إذا مرض عصرتن أعينكن وإذا صح أخذتن بعنقه، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله): هن خير منكم.
ثم قال (صلي الله عليه وآله): «قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع».
وكم كانت الأمة بحاجة ماسة الي كتاب الرسول (صلي الله عليه وآله) هذا، حتي أن إبن عباس يأسف كلما يذكر ذلك ويقول: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله.
ولم يصر نبي الرحمة علي كتابة الكتاب بعد اختلافهم عنده خوفاً من تماديهم في الإساءة وإنكارهم لما هو أكبر، فقد علم (صلي الله عليه وآله) من لحن قولهم بما في نفوسهم، وحين راجعوه ثانية بشأن الكتاب قال (صلي الله عليه وآله): «أبعد الذي قلتم»؟! وأوصاهم ثلاث وصايا، لكن كتب التاريخ لم تذكر سوي اثنتين منها وهما: إخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد كما كان يجيزهم.
وعلق السيد محسن الأمين العاملي علي ذلك قائلاً: والمتأمل لا يكاد يشك في أن الثالثة سكت عنها المحدثون عمداً نسياناً وأن السياسية قد اضطرتهم الي السكوت عنها وتناسيها وأنها هي التي من أجلها طلب الدواة والكتف ليكتبها لهم.
الزهراء (عليها السلام) تزور أباها (صلي الله عليه وآله):
أقبلت الزهراء (عليها السلام) وهي تجر أذيال الحزن وتتطلع إلي أبيها وهو علي وشك الالتحاق بربه فجلست عنده منكسرة القلب دامعة العين وهي تردد:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامي عصمة للأرامل وفي هذه اللحظات فتح النبي (صلي الله عليه وآله) عينيه وقال بصوت خافت: يا بنية هذا قول عمك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي: (وَمَا مُحمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قد خَلت مِن قبلِهِ الرُّسُلُ أفإن مَاتَ أو قُتِلَ انقلبتُم عَلي أعقابكم وَمَن يَنقَلِب عَلي عَقِبيهِ فلن يَضُرَّ اللهَ شَيئاً وَسَيَجزِي اللهُ الشَّاكرينَ).
وكأن النبي (صلي الله عليه وآله) كان يريد بذلك أن يهييء ابنته فاطمة (عليها السلام) لما سيجري من أحداث مؤسفة فإن ذلك كان هو الأنسب لتلك من قول أبي طالب رضي الله تعالي عنه وأرضاه.
ثم إن النبي (صلي الله عليه وآله) أو ما إلي حبيبته الزهراء (عليها السلام) أن تدنو منه ليحدثها فانحنت عليه فسارها بشيء فبكت ثم سارها ثانية فضحكت. وقد أثارت هذه الظاهرة فضول بعض الحاضرين فسألوها عن سر ذلك فقالت (عليها السلام): ما كنت لافشي سر رسول الله (صلي الله عليه وآله).
ولكنها سئلت بعد وفاة أبيها (صلي الله عليه وآله) عن ذلك فقالت: أخبرني رسول الله (صلي الله عليه وآله) أنه قد حضر أجله وأنه يقبض في وجعه هذا، فبكيت ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به فضحكت.
اللحظات الأخيرة من عمر النبي (صلي الله عليه وآله):
وكان علي (عليه السلام) ملازماً للرسول (صلي الله عليه وآله) ملازمة ذي الظل لظله حتي آخر لحظات حياته الشريفة وهو يوصيه ويعلمه ويضع سره عنده. وفي الساعة الأخيرة قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): ادعوا لي أخي – وكان (صلي الله عليه وآله) قد بعثه في حاجة- فدعوا له بعض صحابته فلم يعباً بهم الرسول (صلي الله عليه وآله) حتي جاء علي (عليه السلام) فقال (صلي الله عليه وآله) له: ادن مني. فدنا علي (عليه السلام) فاستند إليه فلم يزل مستنداً إليه يكلمه حتي بدت عليه (صلي الله عليه وآله) علامات الاحتضار، وتوقي رسول الله (صلي الله عليه وآله) وهو في حجر علي (عليه السلام). كما قد صرح بذلك علي (عليه السلام) نفسه في إحدي خطبه الشهيرة.
رحيل النبي (صلي الله عليه وآله) ومراسم دفنه:
ولم يكن حول النبي (صلي الله عليه وآله) في اللحظات الأخيرة إلا علي بن أبي طالب وبنو هاشم ونساؤه. وقد علم الناس بوفاته (صلي الله عليه وآله) من الضجيج والصراخ الذي علا من بيت الرسول (صلي الله عليه وآله) حزناً علي فراق الحبيب، وخفقت القلوب هلعة لرحيل أشرف خلق الله.
وانتشر خبر الوفاة في المدينة انتشار النار في الهشيم ودخل الناس في حزن وذهول رغم أنه (صلي الله عليه وآله) كان قد مهد لذلك ونعي نفسه الشريفة عدة مرات وأوصي الأمة بما يلزمها من طاعة وليها وخليفة من بعده علي ابن أبي طالب.
لقد كانت وفاته صدمة عنيفة هزت وجدان المسلمين، فهاجت المدينة بسكانها وأزدادت حيرة المجتمعين حول دار الرسول (صلي الله عليه وآله) حينما تكلم عمر بن الخطاب وهو يهدد بالسيف قائلاً: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قد مات، إنه والله ما مات ولكنه قد ذهب الي ربه كما ذهب موسي بن عمران.
ورغم أنه لا تشابه بين غياب موسي (عليه السلام) ووفاة النبي محمد (صلي الله عليه وآله)، لكن مواقف عمر التالية لعلها تكشف النقاب عن إصراره علي هذه المقارنة.
نعم لم يهداً عمر حتي قدم أبوبكر من «السنح» ودخل إلي بيت رسول الله (صلي الله عليه وآله) فكشف عن وجه النبي (صلي الله عليه وآله) وخرج مسرعاً وقال: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله حي لا يموت وتلا قوله تعالي: (وَمَا مُحمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قد خَلت مِن قبلِهِ الرُّسُلُ) وهنا هدأت فورة عمر وزعم أنه لم يلتفت الي وجود مثل هذه الآية في القرآن الكريم.
وأسرع أبوبكر وعمر بن الخطاب مع بعض أصحابها إلي سقيفة بني ساعدة بعد أن عرفا أن اجتماعاً طارئاً قد حصل في السقيفة فيما يخص الخلافة بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه وآله). متناسين تنصيب النبي لعلي بن أبي طالب وكذا بيعتهم إياه بالخلافة وغير مدركين أن تصرفهم هذا يعد استخفافاً بحرمة رسول الله (صلي الله عليه وآله) وجسده المسجي.
وأما علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأهل بيته فقد انشغلوا بتجهيز الرسول (صلي الله عليه وآله) ودفنه، فقد غسله علي من دون أن ينزع قميصه وأعانه علي ذلك العباس بن عبد المطلب وابنه الفضل وكان يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وميتاً.
ثم وضعوا جسد الرسول (صلي الله عليه وآله) علي سرير وقال علي (عليه السلام): إن رسول الله (صلي الله عليه وآله) إمامنا حياً وميتاً فليدخل عليه فوج بعد فوج فيصلون عليه بغير إمام وينصرفون. وأول من صلي علي النبي (صلي الله عليه وآله) علي (عليه السلام) وبنو هاشم ثم صلت الانصار من بعدهم.
ووقف علي (عليه السلام) بحيال رسول الله (صلي الله عليه وآله) وهو يقول: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل إليه ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتي أعز الله دينه وتمت كلمته، اللهم فاجعلنا ممن يتبع ما أنزل الله إليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه، فيقول الناس: آمين، حتي صلي عليه الرجال ثم النساء ثم الصبيان.
وحفر قبر للنبي (صلي الله عليه وآله) في الحجرة التي توفي فيها. وحين أراد علي (عليه السلام) أن ينزله في القبر نادت الأنصار من خلف الجدار: يا علي نذكرك الله وحقنا اليوم من رسول الله أن يذهب، أدخل منا رجلاً يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله. فقال (عليه السلام) ليدخل أوس بن خولي، وكان بدرياً فاضلاً من بني عوف.
ونزل علي (عليه السلام) الي القبر فكشف عن وجه رسول الله ووضع خده علي التراب، ثم أهال عليه التراب.
ولم يحضر دفن النبي (صلي الله عليه وآله) والصلاة عليه أحد من الصحابة الذين ذهبوا الي السقيفة.
https://telegram.me/buratha