حينما يكون الحديث عن المسؤولية فإنّني أشعر بخطورة هذا الحديث. فلقد أرى أنّني أمام بحث يفرض عليّ مزيداً من الإمعان، ومزيداً من الموضوعية. إنّ البحث عن المسؤولية، وعمّا ينبغي أن نفعل، وعمّا هو الواجب علينا، ليس بحثاً نظرياً أستطيع أن أقول فيه كلمتي دون أن ألاحظ بذلك موقف الناس وموقف الأمّة، وموقف الرجل المسلم. حينما أحدّد المسؤولية في شيء فإنّني أكون قد وضعت الموقف العملي للرجل الشيعي، ورسمت له المنهج الذي تتطلّبه المرحلة، ومن هنا تنشأ خطورة هذا البحث.
إنّه بطبيعته بحث مسؤول، يشعر الداخل فيه أنّه مسؤول عن كل كلمة يقولها، ويسجّلها بهذا الصدد. على أنّ خطورة هذا الحديث تنشأ من أهميته وفاعليته في حياتنا في ذات الوقت. فليس هو موضوعاً عابراً، تصادفه مرّة أو مرّات معدودة في العمر، بل إنّنا نعيش معه في كل لحظة ونرسم على ضوئه منهج حياتنا طول العمر. فالخطأ فيه ليس أمراً قد يهون.
والتأثر بالعواطف والخلجات النفسية، والعقد الباطنية في مثل هذا الموضوع يعتبر في غاية الانحراف والتجاوز عن حدود المسؤولية. وأنا غير شاك في أنّ طبيعة مزاج الشخص، ونوع ميوله النفسية، قد يقف حاجباً بينه وبين أن يصل لحقيقة الموقف الذي ينبغي أن يتخذه. كثيراً ما نرى أنّها تعمل عملها في تفهم واقع المرحلة، وتحديد الموقف على ضوئه.
فبطبيعة الحال نجد أنّ الانهزاميين والجبناء والمتشبثين بالأرض، الطامعين في ترف الأرض ومجد الأرض هؤلاء.. نستطيع أن نجزم مسبقاً بالحكم الذي سيصدرونه حينما يكونون بصدد تحديد المسؤولية. لا تنتظر سوى أحكام متخاذلة جبانة. سوف ترى مواقف تهرّب، وكسل، وخوف. سوف تشهد على الدوام، صمتاً، صمتاً، صمتاً. قف، لا تتحرّك القضية خطرة، الإقدام لا يخلو من تهلكة. لا عليك، ولا يعنيك الأمر، ما أنت وذا؟ "لا يكلّف الله نفساً إلاّّ وسعها".
وعلى النقيض حينما تكون القضية محقّقة لمصلحة شخصية، مجد في الأرض، جاه عند الناس، ثروة من الثروات، تفوّق على الآخرين بحساب المادّة. هنا تستخدم كل الحيل، وكل الوسائل. أقصى ما يملك هذا الرجل من لباقة، وفطنة، وعبقرية يضعه لحساب البرهنة والتدليل على صواب موقفه. يدافع بكل حرقة، وكل حرارة، كما لو كان الموضوع يهم الإسلام والمسلمين. يفتش عن آخر طريق يستطيع النفاذ من خلاله ليقول: إنّ مسؤوليته تحكم عليه بهذا الموقف، ومن ثمّ يكون قد كسب المال، والمجد والراحة، أو ما حلى له من طيّبات الدنيا، باسم المسؤولية، وباسم الدين والشرع والقانون.
لقد رأينا هذه النماذج من الناس. لقد عرفناهم معنا، وعرفناهم في امتداد التأريخ. من منكم لا يعرف عمرو بن العاص، أو أبا موسى الأشعري. ماذا كانت مواقفهم؟ ماذا قالوا للناس؟ المواقف جميعاً كانت لحساب مصالح شخصية. لحساب الطمع، والجشع، والهوى. أليس قد انحاز عمرو بن العاص إلى جبهة معاوية، وإنّه ليعرف أنّ معاوية لعلى ضلال؟ لقد راجع قضيته في نفسه مسبقاً، وعرض عليها الخيار بين الدنيا وبين الدين، أشار عليه أحد ولديه بأن يتّبع علياً طالما هو يعرف أنّه على حق، والحق أحق أن يتبع. بينما وسوس له الآخر الدخول في سلك معاوية، فإنّ الدنيا تنضح من إنائه.
ماذا كانت النتيجة؟ لم يصمد (ابن العاص) أمام إلحاح الذات، وقوّة الهوى، واندفع مهرولاً يلثم أعتاب معاوية، وإنّه يلتمس لنفسه المعاذير عن هذا الموقف ويودّ لو يجد من الشريعة ما يسمح له بذلك. وأبو موسى الأشعري؟ أنت تدري أنّه هو الذي كان يخذّل الناس عن عليّ, وهو بطل التحكيم، وفارس لعبة السلام، حينما اتفق مع مبعوث معاوية، عمرو بن العاص على أن ينزع كل منهم الخلافة من صاحبه ويريحوا الأمّة من عناء الخلاف والقتال.
هؤلاء يعرفون الحقيقة جيداً، وإنّهم لعلى يقين. لكن الحقيقة لم تكن دوماً مع هوى الإنسان أو عواطفه ومزاجه.
ولذا فقد ابتعدوا عنها، لأنّها لا ترضي طموحهم، ولا تروي ظمأهم للترف والجاه والمال. ولقد برّؤوا ساحتهم بشتى المعاذير، لكن أيّها كان صادقاً؟
لقد اخترت هذه النماذج من قائمة الصحابة. صحابة الرسول الذين سمعوا، وشاهدوا، وعرفوا، أكثر مما سمعنا وشاهدنا، وعرفنا. لقد كان هؤلاء من نفس القائمة التي كان منها الأبطال المخلصون، أبو ذر، وعمّار، وسلمان، وبلال. بلا شك كان (ابن العاص) و (الأشعري) يعرف كل شيء عن المسؤولية، وعن الواجب، وعن خط الشريعة القديم. لكنّها لا تعمى الأبصار، وإنّما تعمى القلوب التي في الصدور. فمهما يكن الشخص عالماً، واعياً، مشحوناً بقضايا العلم والدين، فإنّ ذلك لا يكفي للثقة بمواقفه ورؤيته، إذا لم يتجرّد عن دوافع الأنا ونزعات الذات.
ومن ذلك يصبح المطلوب هو أن نعرف: كيف نحدّد مسؤوليتنا بعيداً عن المزاج، والعاطفة، والطموحات الشخصية.
وهذا أمر لا أراه يسيراً.
ومهما يكن فإنّ علينا الآن تحديد مسؤولياتنا. ما هو الدور الذي يجب أن نلعبه في ساحة الصراع العام بين قوى الحق، وقوى الانحراف. وما هو الموقف الذي يجب ترسيخ أقدامنا فيه؟ بأي نفسية يجب أن نكون؟ وإذا كانت قيادتنا المعصومة مغيّبة عنّا، فهل نملك قيادات ثانوية نيابية؟ وما هو أسلوب تعاملنا مع تلك القيادات؟ لقد وجدت أنّ بالإمكان اختصار مسؤولياتنا تحت العنوان التالي: "التمهيد للدولة الإسلامية الكبرى". التقدّم خطوات من أجل تحقيق الإنقاذ العام للبشرية. التمهيد لسحق آخر كتيبة من كتائب الظلم، وفتح أبعد حصن من حصونه.
التمهيد لتحقيق شرائط الوعد الإلهي القاطع. (وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ(1))
إنّ البشرية التي مارست مختلف الأطروحات وحرصت على التشكيك بكل وسيلة، من أجل الحياة المطمئنة السعيدة. ثمّ خابت كل آمالها، ويئست من كل الحلول، وتكشف لها الضلال، والخداع، والزيف حيثما ولّت وجهها، ولمست العفونة والتعسّف حيثما وضعت يدها. إنّ هذه البشرية التي حرفتها أيادي الغاشمين، المستبدين عن رسالة السماء، ستعود إلى رسالة السماء. ريثما تنكشف الخدعة، وريثما يتجهّز الحق للهجوم الأخير الظافر. فتملأ الأرض بالقسط، وتسود العدالة.
ماذا علينا الآن؟ ما علينا إلاّ أن نواصل العمل. أن نكسب انتصارات، أن نحقّق أهدافاً. أن نفتح حصوناً. أن نكتشف الخدع والمؤامرات. أن نفضح الغاشمين، فراعنة الأرض في كل مكان. أن نفتح عيون البشرية على الطريق. أن نمسك الزمام ثمّ نتقدّم. إنّك حين تكسب واحداً للحق، تكون قد مهّدت لدولة الحق, وحينما تفضح زيف الباطل تكون قد عرقلت مسيرته. إنّ ساعة النصر قريبة لكنها مرهونة بمقدار ما نحققه من انتصارات جزئية، تمزّق كبد الظلم والطاغوت، وتدعم جبهة الحق، وشعوب الحق.
إنّ مسؤوليتنا هي:
أن نقطع مسافة أكبر من الطريق الذي بدأه الأنبياء والمرسلون والأوصياء، والذي سلكه كل المناضلين من أجل الحق. إنّ هذا الطريق الذي وصل محمّد صلى الله عليه وآله إلى آخر حلقة من حلقاته. ودخل آخر منعطف من منعطفاته. إنّ علينا أن لا نقف فيه وإنّما نمضي. لقد أصبحنا وأصبحت البشرية على شرف النصر الساحق. وإنّ مسافة ليست طويلة هي التي بقي علينا أن نقطعها. وحينما نكون أمام النتيجة نجد راية القائد المنتظر في أوساطنا، ومن داخل جبهتنا. البشرية بانتظار قيادتنا.
لقد جزعت من كل الحلول والقرارات، والبروتوكولات. أصبحت تضج بما حولها. هائمة في مجاهل الظلام. والمصباح بأيدينا، يجب أن نوصله. لتهفو البشرية إلينا بكل شغف. وتهوي إلى وحي السماء أفئدة أهل الأرض المعذّبين. تلك هي مسؤوليتنا. وعن ذلك نحن محاسبون. لقد جعلنا الله والقرآن أمّة وسطاً، وشهداء على الناس، والرسول علينا شهيداً. ورسالة السماء بيدنا أمانة، نحن استلمناها، وتعهّدنا أن لا نبيعها رخيصة.
كيف نفرّط بهذه الأمانة؟
أم كيف ننسى قيمومتنا، وشهادتنا على الناس؟ ولو نسينا أليس الرسول علينا شهيداً، فمن يبرّئ عنده ساحتنا؟ لقد وجدت أنّني أملك البرهان الواضح على مسؤوليتنا التي تحدّثت عنها. هذا البرهان آخذه من الرسالة التوجيهية القيادية التي كتبها القائد المنتظر للشيخ المفيد. لقد كتب إليه وهو يوجّه الحديث لكل الشيعة في الأرض، حملة راية الإسلام الحرّة الأبيّة: اتّقوا الله جلّ جلاله. وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم.."(2).
أرأيتم ماذا يطلب؟ العمل الدائب، إعانته في تحقيق أهدافه الكبرى، مظاهرته في عملية إنقاذ العالم وإنقاذنا. اتخاذ كافة التدابير الموصلة لذلك، والتي تضمن نجاح ثورته المظفّرة. " ظاهرونا على انتياشكم..". لا تتركوا الساحة لغيركم. لا تقفوا وسط الطريق. لا تطرحوا من أيديكم سلاح الحق. إنّنا عند ندائكم، وفي انتظار لحظة الحسم، فأعينونا، وظاهرونا، ومهّدوا الأرض. امسحوا العراقيل، إردموا الثغرات، افتحوا عيون الناس عليكم. وستجدون أنّني هنا.
هكذا يقصد القائد المنتظر. ولقد أصبح واضحاً ـ وأنّه لواضح من قبل ـ كما تحدّث الإمام الصادق عليه السلام: لقد سأله الراوي عن مسؤولية زمن الغيبة، حيث الفتن، والضلال وتيارات الانحراف. قال: فكيف نصنع؟ وهنا نظر الإمام إلى شمس داخلة في الصفّة، فقال: يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس؟ قلت: نعم قال: "والله لأمرنا أبين من هذه الشمس(3).
والآن أفضّل العودة معكم إلى طبيعة مهمّتنا بنحو أكثر تفصيلاً. فلقد قلت: إنّ مهمتنا يمكن أن نختصرها كالتالي:
" التمهيد للدولة الإسلامية الكبرى". وأعتقد أنّ ذلك بحاجة إلى تفصيل أكثر. فما هي حدود هذا التمهيد ؟ وما هي كيفيته؟ وإجابة على هذا السؤال سأتحدّث عن العمل المطلوب منّا في إطارين: الأوّل: العمل على صعيد الذات. الثاني: العمل على صعيد الخارج.
أولاً: العمل على صعيد الذات
كيف نعمل على مستوى ذواتنا؟ أقصد.. بأي نفسية يجب أن نواجه مشكلتنا؟ وعلى أي محتوى، وعلى أي استعدادات يجب أن نطوي صدورنا؟ إنّنا نواجه مشكلة عنيفة، وفي غاية العنف. إنّنا نعيش صراعاً مريراً قاسياً غاية القسوة. حكم الطاغوت والفراعنة يستبد، ويتجبّر، ويُبيد. والباطل يعمّ وينتشر ويقارع الحق بأخبث كيد، وأعقد وسيلة. الباطل يتسرّب باتجاهاته، وتياراته إلى صفوف الحق. وكثيرون راحوا ضحية هذه الاتجاهات المدسوسة.
الانحراف عن الحق لم يعد أمراً غريباً.
أصبحت ترى مظاهر الانحراف في كل مكان وفي كل جادّة، وفي كل بيت! والانحراف هو الذي يملك الحكم، وأجهزة السلطة. يملك الجند، والشرطة، وأجهزة الأمن. يملك المادّة, والسلاح، والرجال. يملك وسائل الإعلام، وسبل الدعاية. حقارته تزداد يوماً بعد يوم. يقتل، يشرّد، يعذب، يحبس. يخادع، ينافق، يمكر، يغوي. وغرق كثير من الناس في البحر، وطمّهم الموج. ابتعدوا عن النور. ركضوا وراء كل صيحة. نعقوا وراء الناعقين. لا ثبات لهم على الأرض. ولا قرار لهم على رأي، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعاً. والخطر يداهم كل واحد منا. لم تبق بيننا وبين الانحراف حدود، ولا سدود. تداخلت الجبهات، فالباطل يعيش في ديار الحق. هذه هي مشكلتنا.
ومعها.. فإنّا نريد النصر لجبهتنا، نريد أن لا ننحرف، ولا ننصهر، ولا نيأس. نريد أن نتقدّم كل يوم، نخنق أنفاس الباطل، نضيّق عليه الأرض. غزو متبادل، ومعركة في غاية التعقيد والضراوة. فصائل من قوى الانحراف انضمت إلى جبهة الحق. وفصائل من قوى الحق أسرها الانحراف، فاستسلمت. كيف نعمل على مستوى ذواتنا إذن؟ من أجل حمايتها. ومن يدّلنا على طبيعة هذا العمل؟ مدرسة أهل البيت عليهم السلام هي التي تحدّد لنا طبيعة العمل.
إنّ علينا أن نلتزم بثلاث:
الثبات:
حينما نعرف أنّنا على حق فما علينا إلاّ أن نثبت. وحينما نعرف أنّ خصومنا على ضلال فما علينا إلاّ أن لا نتنازل لهم. (يُثَبّتُ اللهُ الّذينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثّابِتِ(4)). هل تعرفون ثبات أبي ذر، وميثم التمّار وحجر بن عدي؟ لقد ثبت أبو ذر.
كيف ثبت؟
لقد أربك الانحراف، حتى اضطرّوا إلى نفيه للربذة، الخالية من الناس والخالية من القوت، ولكن شيئاً من ذلك لم يمنعه عن الإصراح بالحق، والصراخ في وجوه الظالمين. ولقد قال له علي ساعة توديعه وهو راحل إلى الربذة: " يا أبا ذر إنّك غضبت لله، فارجُ من غضبت له. إنّ القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك"(5). ولقد ثبت ميثم التمّار، ولم يعبأ أن تقطع يداه ورجلاه، ثم يقطع لسانه. فهو مشدود إلى جذع نخلة، لم ينقطع عنه نزيف الدم، كان يفضح الباطل، ويشهّر بحكم الطواغيت، ويعرّف الناس بالحق. ويلقّنهم درساً في الثبات والنضال، حتى اضطرّ خصومه لأن يقطعوا لسانه فيكفّ عن الكلام. وأنت تعرف حجر بن عدي، بطل من أبطال جبهة علي عليه السلام.
هؤلاء كيف ثبتوا؟ لقد وثقوا أنّ الحق معهم، والحق لا يعدله شيء، والهزيمة عن الحق ارتماء في أحضان الضلال، وجرم ليس مثله جرم. (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فأولئك حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ في الدُنيا وَالآخِرَة(6)). ولقد شرح لنا الحسين عليه السلام قيمة الثبات، وهو في معرض الحديث عن القائد المنتظر، فقال: " له غيبة يرتدّ فيها أقوام، ويثبت على الدين آخرون، ويقال لهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ أما أنّ الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله"(7).
وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:
"إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسّك فيها بدينه كالخارط للقتاد.. ثمّ قال: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة، فليتق الله عبد وليتمسّك بدينه"(8).
والثبات يتطلّب منّا جهداً. فعلينا أن نعرف مواقع العدو، وخدع العدو. وعلينا أن نحصّن أنفسنا بالسلاح الكافي للحماية، والكافي للهجوم في ذات الوقت. علينا أن نعرف كاملاً عقيدتنا، لنملك حينذاك تمام الثقة بها، والقدرة على الدفاع عنها، فإنّ العقل الفارغ مغارة إبليس كما ورد في الحديث الشريف.علينا أن نكتشف باستمرار زيف التشكيلات التي يقدّمها أعداؤنا.
ثم علينا أن نعرف أنّ القضية قضية نفس لا بدّ أن نعوّدها الصبر، والعزّ، والإقدام، والتضحية, والشجاعة. يجب أن نصبح على مستوى قضيتنا، فكل شيء إزاءها رخيص وكل شيء من أجلها يهون. ولنتمثل جيداً منطق المقداد حين استشار رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه للحرب، فقام إليه وقال: " يا رسول الله: امض لما أراك الله فنحن معك. والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون"(9).
يحدّثنا عمّار الساباطي، أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أيّما أفضل العبادة في السر مع الإمام منكم المتستّر في دولة الباطل، أو العبادة في ظهور الحق ودولته مع الإمام منكم الظاهر؟ فقال: يا عمّار: الصدقة في السرّ أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك والله عبادتكم في السر مع إمامكم المتستّر في دولة الباطل وحالة الهدنة أفضل ممن يعبد الله عزّ ذكره في ظهور الحق مع إمام الحق الظاهر في دولة الحق. وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن في دولة الحق. ولقد عجب عمار وهو يسمع هذا الجواب من الإمام، ولم يكتم استغرابه،
فقال: " قد والله رغّبتني في العمل، وحثثتني عليه. ولكن أُحب أن أعرف كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام الظاهر منكم في دولة الحق، ونحن على دين واحد. فقال: إنّكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله عز وجل، وإلى الصلاة والصوم والحج، وإلى كل خير وفقه، وإلى عبادة الله عزّ ذكره سراً من عدوكم، منتظرين لدولة الحق، خائفين على إمامكم وأنفسكم من الملوك والظلمة.. مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف من عدوّكم، فبذلك ضاعف الله عز وجل الأعمال، فهنيئاً لكم"(10). وهكذا يصبح الثبات عظيماً، حين نعيش تحت سيطرة الظلم، دون أن نصافحه، أو نلين له.
إذا كنّا نريد أن نخدم الحق، ونقدّم له، فإنّ الثبات أولاً شرط ذلك. وإذا كنّا قد خسرنا من جبهة الحق عدداً من الناس، فلماذا نخسر أنفسنا، ونضيّع على الحق حتى طاقتنا نحن؟!. ومهما يكبر حجم الضلال، ويزداد عدد الزالقين في واديه، فإنّه لا يجوز لنا أن نترك الساحة خالية من أحد، ونولّي للمعركة دبرنا، إنّا إذن لظالمون. (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَومَئِذٍ دُبُرَهُ.. فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ(11)).
والمعسكر يتكوّن من آحاد. أولسنا نشكّل أولئك الآحاد لنكوّن معسكراً. لقد تحدّث الإمام الصادق عن ضرورة الثبات في عصر الغيبة قائلاً: " كونوا على ما أنتم عليه حتى يطلع الله عليكم نجمكم"(12). لا ننحرف إلى يمين أو شمال. لا تجذبنا عن مواقع الحق إغراءات الباطل. ولا تقلعنا من أرض الصدق رعدات الفراعنة واليزيديين. أم نريد أن نكون مثل قوم موسى؟ حين غاب عنهم نبيّهم أربعين ليلة فاتخذوا العجل إلهاً. (قالوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتى يَرْجِعَ إليْنا مُوسى(13)).
لقد ذهبوا مثلاً في التأريخ. مثلاً للسقوط في الفتنة، والفشل عند الامتحان. لقد كانت لهم فتنة أن غاب عنهم نبيّهم، وأغواهم السامري. وإنّا لفي فتنة يضل فيها من يضل، ويثبت فيها الثابتون. لقد روي عن إبراهيم بن هليل أنّه قال لأبي الحسن عليه السلام: " جعلت فداك مات أبي على هذا الأمر، وقد بلغت من السنين ما قد ترى، أموت ولا تخبرني بشيء؟ فقال: يا أبا إسحاق، أنت تعجل! فقلت: أي والله, وما لي لا أعجل، وقد بلغت من السن ما قد ترى؟ فقال: يا أبا إسحاق ما يكون ذلك حتى تميّزوا وتمحّصوا وحتى لا يبقى فيكم إلاّ الأقل.."(14).
الإنتظار:
وعلى مستوى ذواتنا أيضاً، وكأسلوب من أساليب تحصينها ضد الانحراف، وتجهيزها للعمل والنشاط, علينا أن نكون في حالة انتظار. في حالة ترقّب دائم مستمر لبزوغ فجر الثورة الكبرى، ثورة القائد المنتظر. يجب أن نعيش حالة توقّع غير يائس، ولا جازع. عيوننا متطلّعة للحدث الأكبر. أسماعنا متلهفة لاستماع خبر النهضة العظمى. أفئدتنا مفعمة بالشوق والشغف لساعة الوعد الإلهي. أن نكون على أهبة الاستعداد. ننتظر المفاجأة ونستشرف لمواجهتها. لا يغيب عن بالنا قضية الإمام المنتظر. ولا ننسى الوعد الإلهي بالنصر الظافر.
هكذا أراد لنا الأئمّة أنفسهم، وسجّلوه كموقف يجب أن نتخذه, وكحالة نفسية يجب أن نستشعرها ونعيشها باستمرار. استمع معي للإمام علي عليه السلام وهو يقول: " انتظروا الفرج، ولا تيأسوا من روح الله، فإنّ أحبّ الأعمال إلى الله انتظار الفرج(15).
واستمع لحديث آخر عن أبي الجارود من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام: "قلت لأبي جعفر عليه السلام: يا ابن رسول الله هل تعرف مودّتي لكم وانقطاعي إليكم، وموالاتي إيّاكم؟. فقال: نعم.. والله لأعطينّك ديني ودين آبائي الذي ندين الله عز وجل به: " شهادة لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله.. وانتظار قائمنا والاجتهاد والورع"(16).
ولكن لماذا الانتظار؟
ما هي طبيعته؟ ما هو مردوده النفسي؟ لا حاجة إلى تأكيد القول: إنّ الانتظار يعني في جملته حالة الأمل، وعدم القنوط. الأمل الذي هو شرط لكل حركة، نحن مدعوّون إلى تمثله دائماً. واليأس الذي هو مدعاة للانحراف، المطلوب منّا رفضه واقتلاع جذوره من أعماق وجداننا. الانتظار يعني أنّنا ما زلنا على أمل بالنصر. لا مجرّد أمل، وإنما ثقة مطلقة بتحقق هذا النصر. فالذين يأملون في شيء قد لا يملكون قناعة بأنّهم سينالوه، وهم ينتظرون لكن على وجل وفي ريبة.
كل الناس يأملون بانتصار الحق، ومحق الباطل، مسلمين وغير مسلمين، لكن من يملك اليقين الذي نملكه؟ والذي كان يملكه الأنبياء والأوصياء، ويغرسونه في نفوس أشياعهم. إنّنا لا نأمل بالنصر، وإنّما نرى أنفسنا ونحن نقترب منه. لا يمضي يوم إلاّ وتكون المسافة قد تقلّصت، وأصبحنا على المشارف. هذا هو معنى الانتظار المطلوب. أن لا يخامرنا شك، أدنى شك في أنّنا سننتصر. أن نرى بعين البصيرة رايات الحق تتقدّم، وها نحن ننتظرها كيما تصل إلينا أو نصل إليها. والذين يصابون باليأس يفقدون السلاح وهم وسط المعركة.
فما أيسر أن يقعوا في أسر الضلال والانحراف، وتلك هي الفتنة, وقد قال الإمام عليه السلام: " إنّ هذا الأمر لا يأتيكم إلاّ بعد يأس"(17). ومن هنا تأتي قيمة الانتظار. على أنّ الانتظار له مدلول آخر، ومعنىً عميق غاية العمق. هذا المدلول هو الذي يفسّر لنا لماذا كان الانتظار مطلوباً، وواحداً من مسؤولياتنا مع ذواتنا؟
فالانتظار تعبير عن قناعتنا بجدارة الحل الإسلامي. واستعدادنا لتقبّله، والمشي في ركبه. من يعيش حالة الانتظار لنهضة القائد المنتظر، لا يستطيع إلاّ الثقة بحيوية الإسلام، وقابليته الأزلية على حلّ مشاكل البشرية، وسكب السعادة في قلوبها الحرّى. أنت حينما تنتظر من رجل القانون أن يرسم لك حلّ المشكلة، أو يختار لك الصيغة المفضّلة، فإنّك لا محالة واثق بقدرته، وجدارته ولو لا ذاك فإنّك لم تكن مستعداً للتفاهم معه في حل المشكلة.
وأنت حين تزور طبيباً تطلب الدواء، لا تفعل ذلك عبثاً، وإلاّ كان من الأيسر لك أن تذهب إلى جيرانك وتعرض له مرضك، وإنّما أنت على قناعة كافية بأنّ الطبيب هو الجدير والمؤهّل لإعطاء العلاج، وتشخيص الداء، ولذا فأنت تؤثر زيارته، وتنتظر منه. فالانتظار إذن هو القناعة بالجدارة والأهلية. ونحن حينما ننتظر الحل الإسلامي الذي يسود العالم كله تحت راية القائد المنتظر، لا بد أن نكون على أعمق الثقة بهذا الحل. فالتقدّم الحضاري، والتطوّر الذي شهدته الأرض.
والتقلب الذي عمّ كل شيء، في التركيب الاجتماعي، والوضع الاقتصادي، وطبيعة الحالة النفسية العامة. إنّ كل ذلك لا يغير من واقعية الإسلام، وقدرته على النجاح، سواء على مستوى النظرية، أو على مستوى التطبيق. فسيبقى الإسلام هو الحلّ الحتمي أزلاً وأبداً. ومهما انحرفت البشرية عنه، فإنّها ستؤوب إليه، وستجده حينذاك مصدر كل السعادة، ومقتلع جذور الشقاء في الأرض. ما هي طبيعة الانتظار؟ إذا كان علينا أن ننتظر, فما هي طبيعة الانتظار المطلوب؟
هناك نوعان من الانتظار: الانتظار الجامد، والانتظار المتحرّك. انتظار أشبه بالموت، أو هو الموت. وانتظار أشبه بالحياة، أو هو الحياة. الأسير المقيّد بالأغلال، والمدفوع نحو المقصلة، ينتظر. والبطل الذي يخوض غمار الحرب، وهو شاكي السلاح، شديد العزم، ينتظر أيضاً. كل من هذين ينتظر الموت والقتل.. لكن هناك فرق كبير بين نوعي الانتظار. فالأوّل مستسلم، لا يستطيع حراكاً، ولا يفكّر حتى في الفرار. والثاني متحرّك، مقدام، ينتظر الشهادة بكل بطولة, بل هو يسعى إليها، ويرحّب بها. فكيف علينا أن ننتظر القائد المنتظر؟ الإجابة على هذا السؤال نأخذها من القرآن، ومن محمّد صلى الله عليه وآله، ومن أهل البيت عليهم السلام. من هذه المدرسة الواحدة نأخذ الإجابة الصحيحة.
لقد كان محمّد صلى الله عليه وآله ينتظر. كيف كان ينتظر؟ كان القرآن يأمره بالانتظار، أيّ انتظار ؟ (وَقُلْ للّذينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا على مَكانَتِكُم إنّا عامِلُونَ، وانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ((18). لقد انتظر النصر والفتح، لكن هو الذي كان يمهّد للنصر وللفتح لا غيره. لم يكن يطلب أن يأتيه النصر منحة خالصة من السماء ومن دون ثمن.
لقد هاجر، ولقد قاتل، ولقد دعا، ولقد عمل كل شيء في سبيل النصر، ثم كان ينتظر النصر. الانتظار في القرآن، وعند محمّد صلى الله عليه وآله رديف العمل (اعمَلُوا على مَكانَتِكُمْ، إنّا عامِلُونَ). (وَانْتَظُرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ). فهناك عمل ثم انتظار. الانتظار في مفهوم القرآن لا يعني الجمود والتوقّع البارد الزائف الميت. إنما يعني التربّص، المداورة مع العدو، التحرّك في شتّى الطرق، استغلال لحظات الضعف، عدم تضييع الفرص، هذا هو التربّص وهو الانتظار القرآني. (قُلْ كُلٌ مُتَرَبّصٌ، فَتَرَبّصُوُا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أصْحابُ الصّراطِ السَّوي، وَمَنِ اهتَدى((19).
ولقد انتظر أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله. كيف انتظروا؟ (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ((20)لكنه لا ينتظر أن يأتيه الموت، وهو في قعر داره. وإنّما يتقدّم ليكسب الموت، أو يكسب الفتح، فما هو إلاّ إحدى الحسنيين. لقد كان أئمّتنا ينتظرون الفرج، ويوصون أصحابهم بالانتظار. وكما ننتظر اليوم قائم آل محمّد، لقد كانوا مثلنا ينتظرون. لكن هل تركوا العمل والتضحية، والنشاط الدائب من أجل الحق.
هل وقفوا أسارى الصدف؟ إنّ انتظارهم لم يكن يعني إلاّ الاستعداد الدائم والعمل المتواصل، في السرّ أو في العلن، والتمهيد للنتيجة المطلوبة. هذا هو الانتظار في مفهوم مدرسة أهل البيت عليهم السلام. بث الدعوة، وتوجيه الناس. تحصين قواعد الشيعة، وتوسيع دائرتها. ألم يبارك الأئمّة ثورات العلويين. ثورة زيد، والنفس الزكية، وحركات الحسنيين المتصلة. لقد مدّوا لها جميعاً يد العون في السر، بينما كانوا يحافظون على الخطوط الخلفية، ويحصنون قواعد الشيعة في ذات الوقت. ألم تكن أموالاً طائلة تصب في دورهم ليلاً، وتجمع لهم سرّاً؟ أين كانت تصرف؟ وما معنى هذا العمل؟ لو عرف الأئمّة من الانتظار معنى الجمود فلماذا طاردهم العدو، واضطهدهم ورماهم في غياهب السجون؟!
فالانتظار عمل وليس سكوناً. ومن هنا كان " أحب الأعمال إلى الله انتظار الفرج " كما عبّر الإمام(21)، فإذا كنا مدعوّين إلى الانتظار، فإنما نحن مدعوون إلى العمل إلى الانتظار المتحرّك الحي، لا إلى الانتظار الجامد الميت. في الحديث عن علي بن الحسين عليه السلام: يا أبا خالد: إنّ أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان... أولئك المخلصون حقاً، وشيعتنا صدقاً والدعاة إلى دين الله سرّاً وجهراً"(22). إنّ مثلنا في عصر الغيبة مثل الطليعة التي تنتظر كتائب الجيش. بعد أن تكون قد مسحت لها الأرض، وكشفت لها الساحة.
الهوامش
(1) النور (24) : 55
(2) الاحتجاج للطبرسي: 2/323.
(3) الكافي : 1/336 الحديث3.
(4) إبراهيم (14) : 27.
(5) نهج البلاغة: 2/12 الخطبة 130, الكافي : 8/207.
(6) البقرة (2) : 217.
(7) إكمال الدين وإتمام النعمة: 317 الحديث 3.
(8) الكافي: 1/335 الحديث 1, إكمال الدين وإتمام النعمة: 343 الحديث 25.
(9) سيرة ابن كثير : 2/392, بحار الأنوار : 19/248.
(10) الكافي : 1 /333 الحديث 2.
(11) الأنفال (8) : 16.
(12) إكمال الدين وإتمام النعمة: 349 الحديث41.
(13) طه (20) : 91.
(14) الغيبة للنعماني : 208 الحديث 14.
(15) الخصال للصدوق : 616.
(16) الكافي : 2/22 الحديث 10
(17) إكمال الدين وإتمام النعمة: 346 الحديث 31, الأنوار البهيّة : 366.
(18) هود (11): 121و122.
(19) طه (20) : 135.
(20) الأحزاب (33) : 23.
(21) الأمالي للشيخ الصدوق: 436.
(22) إكمال الدين وإتمام النعمة: 320 الحديث 2, الاحتجاج للطبرسي : 2/50
39/5/13502
https://telegram.me/buratha