يخسر الإنسان المؤمن في الغيبة نعمة ظهور الإمام عليه السلام التي منَّ الله (عزّ وجل) على من شاء أن يمن عليهم من خلقه، وامتحن بغيابه عليه السلام من شاء أن يمتحنهم من عباده، فماذا هم فاعلون عند غيبته؟ هذا ما جاءت به الآثار الشريفة في الاستفسار عن موقف الشيعي في عصر الغيبة، فقد روى الشيخ الطوسي بسندٍ صحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: قلت له: ما تأويل قوله تعالى: ]قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ[ فقال: (إذا فقدتم إمامكم فلم تروه، فماذا تصنعون؟) (راجع الغيبة / الطوسي / ص160 / الطبعة المحققة).
الامتحان الأول: وقوع المؤمن في الحيرة
فأوّلُ امتحانٍ يمرُّ به المؤمن في عصر الغيبة أن يبقى حائراً، ويعيش الحَيرة التي لا بدّ منها، وإنما عليه أن يتدارك الموقف ويتخلص من حيرته بشتى الطرق الصحيحة، فيثبت على الحق، ويؤمن بإمامه ويتيقن بأنه معه يراه ويطّلع على أحواله وأحوال باقي المؤمنين، وأنه يدعو لهم، وبدعائه يدفع الله تعالى البلاء عنهم. وكلما استطالت مدة غيبته اشتد الامتحان إيمانه، فهل يسلّم للأئمة عليهم السلام، ويبقى قائلاً بإمامة الغائب منهم كالحاضر منهم عليهم السلام، أم يُدخِل الشيطان الشك إلى قلبه فيرتد عن دينه؟.
روى الشيخ الطوسي (رحمه الله) بسندٍ صحيح عن الأصبغ بن نباتة قال: أتيت أمير المؤمنين عليه السلام فوجدته ينكت في الأرض، فقلت له: (يا أمير المؤمنين مالي أراك مفكراً تنكت في الأرض، أرغبةٌ منك فيها؟. فقال: لا؛ والله ما رغبت فيها، ولا في الدنيا يوماً قط؛ ولكني تفكرت في مولود يكون من ظهري الحادي عشر من وُلدي، هو المهدي الذي يملأها عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً؛ يكون له حَيرة وغيبة، تضلّ فيها أقوام، ويهتدي فيها آخرون) (راجع الغيبة / الطوسي / ص 165 ــ 166 / الطبعة المحققة).
استغلال الشيطان لغيبة الإمام المهدي لبث ضلالاته
وحينما تطول غيبة إمام الهدى، تتوفر الفرصة السانحة للشيطان ليبثّ فتَنَه وضلالاته.
روى الصدوق (رحمه الله) عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدىً، ولا علم يبرأ بعضكم من بعض، فعند ذلك تميزون وتمحصّون وتغربلون..). (راجع كمال الدين / الصدوق / ج2 / ص348 / ح 36).
وروى الصدوق بإسناده عن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول: (إياكم والتنويه، أمَا واللهِ لَيغيبنَّ إمامُكم سنيناً من دهركم، ولتُمحَّصُنَّ حتى يُقال: مات، أو هلك، بأي وادٍ سلك؛ ولتدمعنَّ عليه عيون المؤمنين، ولتكفأنَّ كما تكفأ السفن في أمواج البحر، ولا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه، وكتب في قلبه الإيمان، وأيّده بروح منه، ولَتُرفَعَنَّ اثنتا عشرة راية مشتبهة، لا يدرى أي من أي. قال: فبكيت. فقال لي: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ فقلت: وكيف لا أبكي وأنت تقول: تُرفع اثنتا عشر راية مشتبهة لا يدرى أي من أي، فكيف نصنع؟ قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفة؛ فقال: يا أبا عبد الله! ترى هذه الشمس؟ قلت: نعم. قال: والله، لأمرنا أبينُ من هذه الشمس). (راجع كمال الدين / الصدوق / ج2 / ص347 / ح35).
الامتحان الثاني: الثبات على العقائد الحقة
لم تكن الحَيرة وحدها تسيطر على الأوضاع العامة والأوضاع الخاصة من حياة الإنسان في عصر الغيبة مما قد يسهل السيطرة عليها أحياناً، أو يمكنه أن يتجاوزها بعد الصعوبات والمشقّة أحياناً أخرى، وإنما قد تكالبت في عصر الغيبة الفتن والأهواء بالإضافة إلى محنة غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وما ظهرت منها من حَيرة. وأفضل وصف لهذا التكالب ما جاء في دعاء الافتتاح الذي يُقرأ في ليالي شهر رمضان في عصر الغيبة: (اَللّهُمَّ اِنّا نَشْكُو اِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنا صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَغَيْبَةَ وَلِيِّنا [إمامنا خ.ل]، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنا، وَقِلَّةَ عَدَدِنا، وَشِدّةَ الْفِتَنِ بِنا، وَتَظاهُرَ الزَّمانِ عَلَيْنا).
فمع أن المصيبة العظمى تتجوهر بغيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف. فإن لهذه الفترة الزمنية نفسها من حياة البشرية بشكل عام امتيازاً خاصاً يختلف عن العصور السابقة، وكذلك يختلف بشكل كلّي ومطلق عن ظروف عصر ما بعد الظهور بكثرة العدو، وقلّة العدد، وشدّة الفتن، وتظاهر الزمان.
وتوضّح الروايات الشريفة أن لعصر الغيبة نفسه مراحلَ متعددة تشترك بظاهرة قاسية تصلح أن نسميها قانوناً ينص على حقيقة تقول: كلّما استطالت الفترة زمناً، وتباعدت عن عصر النص الشريف، ازدادت الفتن.
ومن المؤكد أن لغياب الإمام المعصوم عن مسرح حياة البشرية الأثرَ الأكبر لهذا الافتتان والضياع الذي تعيشه البشرية اليوم بشكل واضح لا لبس فيه.. ويرجع ذلك لعقيدتنا الصحيحة التي تنصّ على أنّ لوجود الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف نِعَماً لا تعدّ ولا تُحصى، ومنها: أن حضور الإمام نفسه عجل الله تعالى فرجه الشريف (وإن لم يعمل ولايته التشريعية على الناس) هو السبب الذي ينتشر به الخير الكثير، وتهرب الفتن إلى جحورها، وحينما يغيب الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف تستغل الخفافيش الفرصة، فتظهر للعراء لتدمّر وتخرّب ما أمكنتها الظروف.. ولعل في الخبر الشريف المروي عن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في الفائدة من وجوده في عصر الغيبة يرمز إلى هذه الحقيقة..
روى الصدوق (رحمه الله) بسندٍ صحيح على الأقوى عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رض) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام، ثم ذكر الأجوبة... إلى أن قال عجل الله تعالى فرجه الشريف: (وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها عن الأبصار السحاب، واني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء..) (راجع كمال الدين / الصدوق / ج2 / ص485 / باب45 / ح4).
فإن للإمام المعصوم عليه السلام دوره التكويني في حفظ الكون والإنسان، وترتيب المسيرة الإنسانية سواءٌ أكان ذلك بحضوره بين الناس، أو حتى في غيابه عنهم.
وجه تشبيه الإمام المهدي في عصر الغيبة بالشمس يجللها السحاب
وتمثيل الأئمة عليهم السلام لغيابه عجل الله تعالى فرجه الشريف بالشمس إذا جلّلها السحاب، يوضّح الحقيقة الكونية وهي ضرورة وجود الإمام عليه السلام في الدنيا إما ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً.. فيمكننا أن نفهم من هذا التشبيه أن الإمام مستمر بالقيام بدوره الإلهي في الكون، حتى مع غيابه عن الأمّة، لأن دوره غير منحصر بالعمل السياسي أو الاجتماعي أو العلمي أو الثقافي والفكري، وإنما للإمام عليه السلام دور أعظم بما يؤدّيه من وظيفة تكوينية مرتبطة بهذا الكون بالشكل الذي لا يمكننا أن ندرك كُنْهَ حقيقته بهذه العُجالة.
ولذلك فلا تعطل هذه الوظيفة الكونية بغياب الإمام المعصوم عليه السلام عن مجتمعه بل تستمر هذه الحركة الطبيعية بشكل عادي.. كما ينطبق ذلك بشكل مادي على الشمس التي قد تغيب عن الناس في بقعة من بقاع العالم، ولكن البقاع الأخرى من الكون تبقى تستفيد منها فهي مشرقة عليها.
وهناك شيء آخر يمكننا أن نفهمه من هذا التشبيه هو أن بغياب الشمس عندما يجلِّلها السحاب تحين الفرصة لبعض الجراثيم والميكروبات والفيروسات أن تظهر بالأفق، فتسبب انتشار بعض الأمراض والأوبئة، ولكن يبقى دور تلك الفترة محدودة الزمن لا تستوعب السنة، ومحدودة القوة فلا تستطيع أن تحكم سيطرتها كما يحلو لها.
وهكذا يمكن تطبيق المثال على ظروف أهل الحَيرة في عصر الغيبة، فإنه قد تتوفر الفرصة لأصحاب الفتن والأهواء بأن يُظهروا بدعهم وتشكيكاتِهم وأهواءَهم، وقد يتصوّروا أن الزمن زمنهم يلعبون بدين الناس وعقولهم كما يحلوا لهم، ولم يدروا أن للدين ربّاً يحميه، وأنه تعالى قد حمى الناس بوليّه الأعظم عجل الله تعالى فرجه الشريف فإنه الحامي والمُعين والمُدافع، كما في التوقيع الشريف وقد جاء فيه:
(نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح، ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزُب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتقوا الله (جلّ جلاله) وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم ...) (راجع الاحتجاج / الطبرسي / ج2 / ص322ـ 323 / ط النجف 1966).
لماذا نمتحن؟ الم يكن من الأفضل رفعه كي لا يضل الناس؟
وربما يثار هذا السؤال في عرض الحديث عن الفتن وفلسفتها في (الفهم الإسلامي) لحركة الإنسان.. وقد يقال كسيرة المشكّكين: ألم يكن من الأفضل رفع المغريات من أمام الإنسان لتسهل حركته؟.
ويضاف إليه: ألم يكن وضع تلك الفتن أمام الإنسان تغريراً به للانسياب إلى الباطل، مما يعرقل حركته السليمة والإيقاع به بالتالي بزلاّت الخطيئة؟.
ان الجواب على هذه التساؤلات يكمن في معرفة ان الإنسان لا يكون أهلاً لتسلّم هذا الموقع المهم في الكون ــ موقع الخلافة والنصرة ــ إلا إذا كان قوياً قادراً على مواجهة الصعوبات والمآزق، كما هو المفترض بالإنسان الذي يؤهّل للقيام بالأدوار المهمة في الحياة السياسية أو الإدارية أو العسكرية، ولذلك فإنه سوف يدخل بدورات تأهيلية شاقّة تجعله في المستقبل بمستوى مسؤولية المهمة التي يراد منه القيام بها.
ولذلك كان الامتحان الإلهي للبشرية ضرورياً عبر تاريخها في جميع الرسالات والأمم السابقة، وكانت نتيجة الامتحان أن ينتخب الناجحين بالامتحان ويعزلهم عن أممهم ومجتمعاتهم، ثم يسلّط عذابه على الراسبين ويهلكهم جميعاً ولا يبقي منهم أحداً.
كما حدث لقوم نوح وهود وصالح (على نبينا وآله وعليهم السلام)؛ وكانت تختلف الامتحانات والفتن باختلاف الأدوار التاريخية الموكلة بكل أُمة من تلك الأُمم السابقة. فكلما كانت المهمة أكبر، والدور أهم كان الامتحان أصعب والمشقة أكثر.وكل ذلك من صالح البشرية ومستقبلها لبناء مجتمع فاعل مسؤول.
فقد كان الامتحان الإلهي في تاريخ الأنبياء السابقين عليهم السلام سبباً لتكامل البشرية ورقيّها، واستئهالها لحمل رسالة السماء، وتسنّم منصب خلافة الله تعالى في الأرض، وكذلك سوف يكون الامتحان الإلهي في التاريخ المستقبلي للبشرية في تكوين الإنسان القوي المؤهل لقيادة مستقبل البشرية.
وإذا عرفنا أهمية التاريخ المتبقي للبشرية في هذه الأرض من حيث حصد زرع جهود جميع الأنبياء الماضين عليهم السلام والأئمة المعصومين عليهم السلام، ورسم نهاية الكون بشكلها الجميل، فإننا سوف ندرك أن ذلك الدور الإنساني الخطر لا يمكن أن يقوم به إلا الإنسان الشجاع والقوي بالإرادة والإيمان الممتحن الناجح.
ولذلك جاء الامتحان صعباً جداً. ومع أن الإنسان المسلم قد مرّ بالامتحان الشخصي والنوعي في تاريخ الإسلام، وقد تمكن من ولادة الصالحين المؤهلين لتحمل الأدوار الصعبة، ولكنه يقف في نهاية مسيرة قبل الظهور أمام أصعب الامتحانات وهو يعيش إرهاصات الظهور، ليختار وينتخب الإنسان المؤهل لتحمل مسيرة ما بعد الظهور؛ وبما أن دور ما بعد الظهور هو أهم أدوار البشرية وأشقّها وأصعبها، فلذلك استلزم أن يكون الامتحان الإلهي للإنسان المسؤول أشق تلك الامتحانات وأصعبها، كما نطقت بهذه الحقيقة النصوص الشريفة والتي عبرت عنه بالتمحيص الذي يكون في عصر الغيبة وقبل الظهور.
ويمكن لنا إرجاع أهمية التمحيص وشدته إلى الأسباب التالية:
1: لأنه الطريقة الوحيدة التي يتكامل بها الإنسان المؤمن ليستحق أن يكون من جنود السيد الأكبر والولي الأعظم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
2: وسوف تكون هذه الفترة الزمنية التي تُبتلى بها البشرية مؤشّر خير إلى قرب الفرج بقرب ظهور الولي المخلّص عجل الله تعالى فرجه الشريف.
3: كما سوف تكون تلك الفترة من تاريخ الإنسانية مرحلة خطرة جداً ومملوءة بالمخاطر الصعبة والتلبيسات الإبليسية التي يركب بعضها بعضاً، ولذلك حذّر الأئمة عليهم السلام منها كما ورد ذلك في مجموعة من الأخبار منها ما رواه الكليني في الكافي، والنعماني في الغيبة عن المفضل بن عمر وقد ذكرناها سابقاً.
وروى الصدوق بإسناده عن منصور قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (يا منصور أن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد إياس، لا والله لا يأتيكم حتى تميّزوا، لا والله لا يأتيكم حتى تمحّصوا، ولا والله لا يأتيكم حتى يشقى مَن شقي ويسعد مَن سعد) (راجع كمال الدين / ص346 / ح32، وقريب منه في الكافي ج1 / ص 417 / ح3).
وروى الطوسي في غيبته بإسناده عن محمد بن منصور عن أبيه قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة نتحدث فالتفت إلينا فقال: (لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتى تُغربلوا، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتى تميّزوا [لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتى يتمحّصوا] لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم إلا بعد إياس، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتى يشقى مَن شقي ويسعد مَن سعد) (الغيبة / الطوسي / ص335 / ح281).
18/5/13418
https://telegram.me/buratha