واحة الفكر ـ وكالة أنباء براثا ، مؤسسة السبطين العالمية، شبكة الإمام الرضا ( عليه السلام ) .
السيدة زينب عليها السلام - في محراب العبادة
عبادة الخالق والقرب منه هي المرتكز والمحور في الشخصية الإيمانية، بل هي مقياس الأنسانية والتحرر في شخصية الأنسان، فالبديل عن التعبد لله والخضوع له هو العبودية للشهوات وللمصالح المادية الزائلة.
إن التعبد لله يعني انسجام الأنسان مع فطرته النقية، واستجابته لنداء عقله الصادق بأن للحياة خالقاً يمسك بأزمتها واليه مصيرها.
والتعبد لله هو النبع الذي يروي منه الأنسان ظمأه الروحي، ويتزود من دفقاته بدوافع الخير ونوازع الصلاح.
فكلما أقبل الأنسان على ربه، وأخلص في عبادته، تجلت انسانيته أكثر وتجسدت القيم الخيرة في شخصيته.
ففي الحديث القدسي الذي ينقله الرسول الأعظم السيدة زينب عليها السلام محراب عن الله سبحانه أنه قال: " لا يزال عبدي يتقرب اليّ بالنوافل حتى أحبه فأكون أنا سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، فاذا دعاني أجبته، واذا سألني أعطيته " 1.
والسيدة زينب وهي العالمة بالله و إنما يخشى الله من عباده العلماء وهي الناشئة في أجواء الأيمان والعبادة والتقوى كانت قمة سامقة في عبادتها خضوعها للخالق عز وجل .
كانت ثانية أمها الزهراء في العبادة. وكانت تؤدي نوافل الليل كاملة في كل أوقاتها حتى أن الحسين السيدة زينب عليها السلام محراب عندما ودع عياله الوداع الأخير يوم عاشوراء قال لها: " يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل ". كما ذكر ذلك البيرجندي، وهو مدون في كتب السير.
وعن عبادة السيدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرم يقول الشيخ محمد جواد مغنية: وأي شيء أدل على هذه الحقيقة من قيامها بين يدي الله للصلاة ليلة الحادي عشر من المحرم، ورجالها بلا رؤوس على وجه الأرض تسفي عليهم الرياح، ومن حولها النساء والأطفال في صياح وبكاء ودهشة وذهول، وجيش العدو يحيط بها من كل جانب... إن صلاتها في مثل هذه الساعة تماماً كصلاة جدها رسول الله في المسجد الحرام، والمشركون من حوله يرشفونه بالحجارة، ويطرحون عليه رحم شاة، وهو ساجد لله عز وعلا، وكصلاة أبيها أمير المؤمنين في قلب المعركة بصفين، وصلاة أخيها سيد الشهداء يوم العاشر والسهام تنهال عليه كالسيل.
ولا تأخذك الدهشة ـ أيها القارئ الكريم ـ اذا قلت: ان صلاة السيدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرم كانت شكراً لله على ما أنعم، وانها كانت تنظر الى تلك الأحداث على أنها نعمة خص الله بها أهل بيت النبوة من دون الناس أجمعين، وانه لولاها لما كانت لهم هذه المنازل والمراتب عند الله والناس.
وروي عن ابنة أخيها فاطمة بنت الحسين قولها: " وأما عمتي زينب فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة في محرابها تستغيث الى ربها فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنة ".
أما كيف كانت تتخاطب السيدة زينب مع ربها ؟ وبماذا كانت تناجيه ؟ فإن المصادر التاريخية قد احتفظت لنا ببعض القطع والفقرات من أدعيتها ومناجاتها نذكر منها ما يلي: " يا عماد من لا عماد له، ويا ذخر من لا ذخر له، ويا سند من لا سند له، ويا حرز الضعفاء، ويا كنز الفقراء، ويا سميع الدعاء، ويا مجيب دعوة المضطرين، ويا كاشف السوء، ويا عظيم الرجاء، ويا منجي الغرقى، ويا منقذ الهلكى، يا محسن، يا مجمل، يا منعم، يا متفضل، أنت الذي سجد لك سواد الليل، وضوء النهار، وشعاع الشمس، وحفيف الشجر، ودوي الماء، يا الله يا الله الذي لم يكن قبله قبل، ولا بعده بعد، ولا نهاية له، ولا حد ولا كفؤ ولا ند، بحرمة اسمك الذي في الآدميين معناه المرتدي بالكبرياء والنور والعظمة، محقق الحقائق، ومبطل الشرك والبوائق، وبالأسم الذي تدوم به الحياة الدائمة الأزلية، التي لا موت معها ولا فناء، وبالروح المقدسة الكريمة، وبالسمع الحاضر والنظر النافذ، وتاج الوقار، وخاتم النبوة، وتوثيق العهد، ودار الحيوان، وقصور الجمال، ويا لله لا شريك له ".
ومن الأدعية والتسبيحات التي كانت تواظب على قراءتها هو: " سبحان من لبس العز وتردى به، سبحان من تعطف بالمجد والكرم، سبحان من لا ينبغي التسبيح الا له جل جلاله، سبحان من أحصى كل شيء عدداً بعلمه وخلقه وقدرته، سبحان ذي العزة والنعم، اللهم، إني اسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الاعلى، وكلماتك التامات التي تمت صدقاً وعدلاً، أن تصلى على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، وأن تجمع لي خيري الدنيا والآخرة، بعد عمر طويل، اللهم أنت الحي القيوم، أنت هديتني، وأنت تطعمني وتسقيني، وأنت تميتني برحمتك يا أرحم الراحمين ".
ومن أدعية أبيها التي كانت تدعو بها بعد صلاة العشاء: " اللهم أني اسألك يا عالم الأمور الخفية، ويامن الأرض بعزته مدحية، ويامن الشمس والقمر بنور جلاله مشرقة مضيئة، ويا مقبلاً على كل نفس مؤمنة زكية، ويا مسكّن رعب الخائفين وأهل التقيّة يا من حوائج الخلق عنده مقضية، يا من ليس له بواب ينادى، ولا صاحب يغشى، ولا وزير يؤتى، ولا غير رب يدعى، يا من لا يزداد على الإلحاح إلا كرماً وجوداً، صل على محمد وآل محمد واعطني سؤلي انك على كل شيء قدير ".
أمام الباحث المتأمّل في شخصيّة عقيلة الهاشميّين عليها السلام طريقان لتحديد ملامح تلك الشخصيّة الفذّة:
أ ـ دراسة سيرتها الذاتيّة وكلامها وخُطبها عليها السّلام.
ب ـ دراسة كلام المعصومين عليهم السّلام في شأنها، وكيفيّة تعاملهم معها.
في هذه المقالة نتحدّث عن شخصيّة السيّدة زينب عليها السلام من خلال كلمات النبيّ صلّى الله عليه وآله وأئمّة الهُدى عليهم السّلام في شأنها عليها السّلام والطريقة التي كانوا يتعاملون بها معها.
النبيّ صلّى الله عليه وآله يسمّي زينب عليها السّلام:
أطلّت السيّدة زينب عليها السّلام على الدنيا في الخامس من شهر جمادى الأولى في السنة الخامسة للهجرة في بيتٍ أذن اللهُ أن يُرفع ويُذكر فيه اسمُه، وفتحت الوليدة المباركة عينيها تتطلّع إلى وجوهٍ أكرمها ربّ العزّة عن أن تسجد لصنمٍ قطّ، مُتسلسلةً في أصلاب الطاهرين وأرحام المطهّرات.
وحَمَلت سيّدةُ نساء العالمين: فاطمة عليها السّلام وليدتها إلى خير الخلق بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله: أميرِ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام تسأله أن يختار للنسمة الطاهرة المباركة اسماً، فأبى أن يَسبِق رسولَ الله صلّى الله عليه وآله ـ وكان غائباً يومذاك ـ في تسميتها، ثمّ عاد النبيُّ صلّى الله عليه وآله إلى المدينة، فحملت الزهراء عليها السّلام وليدتها إلى أشرف الكائنات وخاتم الرسل صلّى الله عليه وآله من الوحي اسماً لها، فسمّاها « زينب » (1).
لماذا بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله في ولادة زينب ؟
من غير المعهود أنّ الأب أو الجدّ إذا رُزِق ولداً أو حفيداً بكى وانتحب وذرف الدموع سِخاناً، فلماذا يحدّثنا التاريخ أن الحسين عليه السّلام حَمَل إلى أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام بشارةَ ولادة أخته زينب، وأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام بكى ـ بأبي هو وأمّي ـ لمّا بُشّر بولادتها، فسأله الحسينُ عليه السّلام عن علّة بكائه، فأخبره أنّ في ذلك سرّاً ستبيّنه له الأيّام.
ثمّ حُملت الوليدة الطاهرة إلى جدّها الحبيب محمّد صلّى الله عليه وآله، فاحتضن رسولُ الله صلّى الله عليه وآله الطفلةَ الصغيرة وقبّل وجهها، ثمّ لم يتمالك أن أرخى عينَيه بالدموع.
وكان جبرئيل عليه السّلام الذي هبط باسم « زينب » من ربّ العزّة قد أخبر حبيبه المصطفى صلّى الله عليه وآله بأنّ هذه الوليدة ستشاهد المصائب تلو المصائب، وأنّها ستُفجَع بجدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله، وبأمّها فاطمة سيّدة النساء عليها السّلام، وبأبيها أمير المؤمنين عليه السّلام، وبأخيها الحسن المجتبى عليه السّلام سِبطِ رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ تُفجع بمصيبةٍ أعظمَ وأدهى، هي مصيبة قتل أخيها الحسين عليه السّلام سيّد شباب أهل الجنّة في أرض كربلاء (2).
أُمّ المصائب:
تُسمّى العقيلة زينب سلام الله عليها أمَّ « المصائب »، وحقّ لها أن تُسمّى بذلك، فقد شاهَدَت مصيبةَ جدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومحنةَ أمّها فاطمة الزهراء سلام الله عليها، ثمّ وفاتها؛ وشاهدت مقتلَ أبيها الإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه، ثمّ شاهدت محنةَ أخيها الحسن سلام الله عليه ثمّ قَتْله بالسمّ، وشاهدت أيضاً المصيبةَ العظمى، وهي قتل أخيها الحسين عليه السّلام وأهل بيته، وقُتل ولداها عَونٌ ومحمّد مع خالهما أمام عينها، وحُملت أسيرةً من كربلاء إلى الكوفة، وأُدخلت على ابن زياد في مجلس الرجال، وقابلها بما اقتضاه لُؤمُ عنصره وخِسّةُ أصله من الكلام الخشن الموجع وإظهار الشماتة المُمِضّة. وحُملت أسيرةً من الكوفة إلى ابن آكلة الأكباد بالشام، ورأسُ أخيها ورؤوس ولدَيها وأهل بيتها أمامها على رؤوس الرماح طول الطريق، حتّى دخلوا دمشق على هذه الحالة، وأُدخلوا على يزيد في مجلس الرجال وهم مُقرّنون بالحبال (3).
ثواب البكاء على مصائب زينب عليها السّلام:
روي أنّ جبرئيل عليه السّلام لمّا أخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله بما يجري على زينب بنت أمير المؤمنين عليهما السّلام من المصائب والمحن، بكى النبيّ صلّى الله عليه وآله وقال: من بكى على مصاب هذه البنت، كان كمن بكى على أخوَيها الحسن والحسين عليهما السّلام (4).
ومن الجليّ أنّ البكاء على مصائب أهل البيت عليهم السّلام والتلهّف والتوجّع لِما أصابهم، يتضمّن معنى مواساتهم والوفاء لهم وأداء بعض حقوقهم التي افترضها الله تعالى في آية المودّة وغيرها، فقال عزّ مِن قائل: قُل لا أسألُكُم عليه أجراً إلاّ المودّةَ في القُربى (5)، وقد روى علماء المسلمين أنّه لمّا نزلت هذه الآية الكريمة قالوا: يا رسول الله، مَن قَرابتُك الذين وَجَبَت علينا مودّتُهم ؟ قال صلّى الله عليه وآله: عليّ وفاطمة وابناهما (6).
كما يتضمّن البكاء على مصائب العترة الطاهرة انتماءً من المؤمن الباكي إلى صفّ أهل البيت عليهم السّلام، وإعلاناً منه لنفوره من أعداء أهل البيت عليهم السّلام وقتلتهم، وإدانةً منه لتلك الجرائم البشعة التي ارتُكبت في حقّ العترة الطاهرة، وإعلاناً من الباكي عن استعداده للسير تحت لوائهم والانضواء في رَكبهم والالتزام بنهجهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
احترام الإمام الحسين عليه السّلام لأخته زينب عليها السّلام:
نُقل عن الإمام الحسين عليه السّلام أنّه كان إذا زارته زينب عليها السّلام، يقوم إجلالاً لها، وكان يُجلِسُها في مكانه (7).
وقال السيّد جعفر آل بحر العلوم الطباطبائي: « ويكفي في جلالة قَدْرِها ونَبالةِ شأنها ما ورد في بعض الأخبار من أنّها دخلت على الحسين عليه السّلام، وكان يقرأ القرآن، فوضع القرآن وقام لها إجلالاً (8).
السيّدة زينب عليها السّلام مفسّرة القرآن:
ذكر أهلُ السِّيَر أنّ العقيلة زينب عليها السّلام كان لها مجلس خاصّ لتفسير القرآن الكريم تحضره النساء، وليس هذا بمُستكثَر عليها، فقد نزل القرآن في بيتها، وأهلُ البيت أدرى بالذي فيه، وخليقٌ بامرأةٍ عاشت في ظِلال أصحاب الكساء وتأدّبت بآدابهم وتعلّمت من علومهم أن تحظى بهذه المنزلة السامية والمرتبة الرفيعة.
ذكر السيّد نور الله الجزائري في كتاب « الخصائص الزينبيّة » أنّ السيّدة زينب عليها السّلام كان لها مجالس في بيتها في الكوفة أيّام خلافة أبيها أمير المؤمنين عليه السّلام، وكانت تفسّر القرآن للنساء. وفي بعض الأيّام كانت تفسّر « كهيعص » إذ دخل عليها أمير المؤمنين عليه السّلام فقال لها: يا قرّةَ عيني، سمعتكِ تفسّرين « كهيعص » للنساء، فقالت: نعم.
فقال عليه السّلام: هذا رمز لمصيبة تُصيبكم عترة رسول الله صلّى الله عليه وآله. ثمّ شرح لها تلك المصائب، فبكت بكاءً عالياً (9).
السيّدة زينب عليها السّلام المحدِّثة العالِمة:
رُوي أن العقيلة زينب عليها السّلام خَطَبت في الكوفة خُطبتَها الغرّاء فتركت أهل الكوفة يَموجُ بعضُهم في بعض، قد رَدُّوا أيديهم في أفواههم، حيارى يبكون وقد تمثّل لهم هولُ الجناية التي اقترفوها، قال الإمام زين العابدين عليه السّلام لعمّته زينب عليها السّلام: أنتِ بحمد الله عالِمةٌ غيرُ مُعلَّمة، فَهِمةٌ غيرُ مُفهَّمة (10).
وكلام الإمام زين العابدين عليه السّلام يدلّ ـ بما لا غبار عليه ـ على المنزلة العلميّة الرفيعة التي ارتقت إليها عقيلة الهاشميّين عليها السّلام، فهي عالمة بالعلم اللدُنّيّ المُفاض من قِبل ربّ العزّة تعالى وليس بالعلم المتعارَف الذي يُكتسب بالدرس والبحث.
وقال الشيخ المامقانيّ في ( تنقيح المقال ) في معرض حديثه في السيّدة زينب عليها السّلام: زينب، وما زينب! وما أدراك ما زينب! هي عقيلة بني هاشم، وقد حازت من الصفات الحميدة ما لم يَحُزْها بعد أمّها أحد، حتّى حقّ أن يُقال: هي الصدّيقة الصغرى، هي في الحجاب والعفاف فريدة، لم يَرَ شخصَها أحدٌ من الرجال في زمان أبيها وأخوَيها إلى يوم الطفّ، وهي في الصبر والثبات وقوّة الإيمان والتقوى وحيدة، وهي في الفصاحة والبلاغة كأنّها تُفرِغ عن لسان أمير المؤمنين عليه السّلام كما لا يَخفى على مَن أنعم النظر في خُطبتها. ولو قلنا بعصمتها لم يكن لأحد أن يُنكر ـ إن كان عارفاً بأحوالها في الطفّ وما بعده. كيف ولولا ذلك لما حمّلها الحسين عليه السّلام مقداراً من ثقل الإمامة أيّام مرض السجّاد عليه السّلام، وما أوصى إليها بجملة من وصاياه، ولَما أنابَها السجّادُ عليه السّلام نيابةً خاصّة في بيان الأحكام وجملة أخرى من آثار الولاية (11).
العقيلة تُحدِّث بعهد رسول الله صلّى الله عليه وآله:
للسيّدة زينب عليه السّلام مواقف عديدة في الذبّ عن إمام زمانها، فنراها تستمر في مواقفها في المنافحة عن الإمام زين العابدين عليه السّلام بعد استشهاد أبيه سيّد الشهداء الحسين عليه السّلام، تعزّيه تارةً وتصبّره، وتحافظ عليه من القتل وتَفديه بنفسها تارة أخرى. وقد نقل لنا التاريخ ـ من ضمن مواقفها ـ أنّها شاهدت حزنَ الإمام زين العابدين عليه السّلام الشديد على أبيه الحسين عليه السّلام، فقالت له: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّةَ جدّي وأبي وإخوتي؟
فقال عليه السّلام: وكيف لا أجزَع وأهلَع وقد أرى سيّدي وأخوتي وعُمومتي ووُلد عمّي مُصرَّعين بدمائهم مُرمَّلين بالعراء مُسلَّبين لا يُكفَّنون ولا يُوارَون ولا يُعرّج عليهم أحد، ولا يَقرَبُهم بشرٌ، كأنّهم أهلُ بيتٍ من الدَّيلم والخَزَر ؟!
فقالت عليها السّلام: لا يُجزعَنّك ما تَرى، فواللهِ إنّه لَعهدٌ من رسولِ الله صلّى الله عليه وآله إلى جدّكَ وأبيكَ وعمّك، ولقد أخذ اللهُ ميثاقَ أُناسٍ من هذه الأمّةِ لا تَعرِفُهم فَراعنةُ هذه الأمّة، وهم معروفون في أهل السماوات، أنّهم يجمعون هذه الأعضاءَ المتفرّقةَ فيوارونها، وهذه الجسومَ المضرّجة، ويَنصِبون بهذا الطفّ عَلماً لقبرِ أبيك سيّد الشهداء لا يُدرَسُ أثرُه، ولا يَعفو رسمُه على كُرور الليالي والأعوام، ولَيجهَدَنّ أئمّةُ الكفر وأشياعُ الضلالةِ في مَحوه وتَطميسه، فلا يزدادُ إلاّ ظهوراً، وأمرُه إلاّ عُلوّاً (12).
إخبار أمير المؤمنين عليه السّلام ابنتَه العقيلةَ بواقعة الطفّ:
روى الشيخ المجلسيّ عن السيّدة زينب عليها السّلام ـ في حديث طويل ـ أنّها قالت: لمّا ضَرَب ابنُ مُلجَم لعنه الله أبي عليه السّلام، ورأيتُ أثرَ الموت منه، قلت له: يا أبَه، حَدَّثَتني أمُّ أيمن بكذا وكذا، وقد أحببتُ أن أسمعه منك.
فقال: يا بُنيّة، الحديثُ كما حدّثتكِ أمُّ أيمن، وكأنّي بكِ وببنات أهلكِ سبايا بهذا البلد أذلاّء خاشعين تخافون أن يَتخطّفكم الناس، فصبراً صبراً! فَوَالذي فَلَق الحبّةَ وبرأ النسمةَ، ما للهِ على ظهر الأرض يومئذٍ وليٌّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم، ولقد قال لنا رسولُ الله صلّى الله عليه وآله حين أخبرَنا بهذا الخبر: إنّ إبليسَ في ذلك اليوم يطير فَرَحاً فيجول الأرضَ كلَّها في شياطينه وعَفاريته فيقول: يا معشرَ الشياطين، قد أدركنا من ذريّةِ آدم الطَّلِبَة، وبَلَغنا في هلاكهم الغايةَ، وأورثناهُمُ النارَ إلاّ من اعتصمَ بهذه العصابة، فاجعلوا شُغلكم بتشكيك الناس فيهم، وحَملِهم على عداوتهم، وإغرائهم بهم وأوليائهم، حتّى تستحكمَ ضلالةُ الخلق وكُفرهم، ولا ينجو منهم ناجٍ، ولقد صَدّق عليهم إبليسُ وهو كذوب، أنّه لا ينفع مع عداوتكم عملٌ صالح، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنب ( من ) غير الكبائر (13).
السيّدة زينب عليها السّلام تنقل خطبة أمّها الزهراء عليها السّلام:
قال أبو الفرج الإصفهانيّ: والعقيلةُ هي التي روى ابنُ عبّاس عنها كلامَ فاطمةَ عليها السّلام في فدك، فقال: حَدّثتني عقيلتُنا زينبُ بنت عليّ عليه السّلام (14).
وروى الشيخ الصدوق بإسناده عن أحمد بن محمّد بن جابر، عن زينب بنت عليّ عليه السّلام قالت: قالت فاطمة عليها السّلام في خطبتها في معنى فدك:
للهِ فيكم عَهدٌ قَدَّمه إليكم، وبقيّةٌ استخلفها فيكم: كتاب الله بيّنة بصائره، وآيٌ منكشفة سرائره، وبرهان متجلّية ظواهره، مديمٌ للبريّة استماعُه، وقائد إلى الرضوان اتّباعُه، ومُؤدٍّ إلى النجاة أشياعَه، فيه تِبيانُ حُجج الله المنيرة ومَحارمِه المحرّمة، وفضائله المدوّنة، وجُمَله الكافية، ورُخَصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، وبيّناته الجالية؛ فَفَرَض الإيمانَ تطهيراً من الشِّرك، والصلاةَ تنزيهاً من الكِبْر، والزكاةَ زيادةً في الرزق، والصيامَ تثبيتاً للإخلاص، والحجَّ تسيليةً للدِّين، والعدلَ مَسْكاً للقلوب، والطاعةَ نظاماً للملّة، والإمامةَ لَمّاً من الفُرقة، والجهادَ عِزّاً للإسلام، والصبرَ مَعونةً على الاستيجاب، والأمرَ بالمعروف مصلحةً للعامّة، وبِرَّ الوالدين وِقايةً عن السخط، وصِلةَ الأرحام مَنْماةً للعَدد، والقِصاصَ حَقْناً للدماء، والوفاءَ للنَذرِ تعرّضاً للمغفرة، وتوفيةَ المكائيل والموازين تغييراً للبخسة، واجتنابَ قَذف المُحصَناتِ حَجْباً عن اللعنة، واجتنابَ السرقةِ إيجاباً للعِفّة، ومُجانبةَ أكلِ أموالِ اليتامى إجارةً عن الظلم، والعدلَ في الأحكامِ إيناساً للرعيّة، وحرّمَ اللهُ عزّوجلّ الشِّركَ إخلاصاً للبربويّة، فاتّقوا الله حقَّ تُقاته فيما أمَرَكم به، وانتَهُوا عمّا نهاكم عنه.
ثمّ ذكر الشيخ الصدوق أنّه يروي هذا الحديث بطريقين آخرين عن السيّدة زينب عليها السّلام (15).
السيّدة زينب عليها السّلام تروي قصّة ولادة أخيها الحسين عليه السّلام:
روى الخزّاز القمّي بإسناده عن الإمام زين العابدين عليه السّلام، عن عمّته زينب بنت عليّ عليها السّلام، عن فاطمة عليها السّلام، قالت: دخل إليَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله عند ولادة ابني الحسين، فناولتُه إيّاه في خِرقةٍ صفراء، فرمى بها وأخَذ خِرقةً بيضاءَ فلفّه ( بها )، ثمّ قال: خُذيه يا فاطمة، فإنّه الإمام وأبو الأئمّة؛ تسعةٌ من صُلبه أئمّة أبرار، والتاسع قائمهم (16).
العقيلة تروي عبادةَ أمّها الزهراء عليها السّلام:
وروي عن عبدالله بن الحسن، عن أمّه فاطمة الصغرى، عن أبيها الحسين عليه السّلام وعمّتها زينب بنت أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّ فاطمة عليها السّلام قامت في محرابها في جُمعتِها، فلم تَزَل راكعةً ساجدةً حتّى اتّضحَ عمود الصبح، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتُسمّيهم وتُكثِرُ الدعاءَ لهم ولا تَدعو لنفسِها بشيء، فقال لها الحسين عليه السّلام: ألا تَدعِينَ لنفسكِ كما تَدعِينَ لغيرِك ؟
فقالت: الجارُ ثمّ الدار (17).
العقيلة تروي قصّة دفن أمير المؤمنين عليه السّلام:
وروي عن السيّدة زينب عليها السّلام أنّها قالت: كان آخر عهدِ أبي إلى أخوَيّ عليهما السّلام أنّه قال لهما: يا بَنيّ، إذا أنا متُّ فغَسِّلاني ثمّ نَشّفاني بالبُردةِ التي نُشّفَ بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وفاطمة، وحيِّظاني وسَجّياني على سريري، ثمّ انظُرا حتّى إذا ارتَفَع لكما مُقدَّمُ السرير فاحمِلا مؤخَّره.
قالت: فخرجتُ أُشيّعُ جنازةَ أبي، حتّى إذا كنّا بظهرِ الكوفة وقَدِمنا بظهرِ الغَريّ ركزَ المقدَّم، فوَضَعنا المؤخّر، ثمّ بَرَز الحسنُ عليه السّلام مُرتدياً بالبُردةِ التي نُشِّف بها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وفاطمةُ وأميرُ المؤمنين عليهما السّلام، ثمّ أخذَ المِعوَلَ فضرَبَ ضربةً فانشَقّ القبرُ عن ضريح، فإذا هو بساجةٍ مكتوبٍ عليها سطران بالسُّريانيّة: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا قبرٌ حَفَره نوحٌ النبيّ لعليٍّ وصيِّ محمّدٍ قَبلَ الطُّوفان بسبعمائة عام.
قالت عليها السّلام:... سمعتُ ناطقاً لنا بالتعزية وهو يقول: أحسَنَ اللهُ لكم العزاءَ في سيّدكم وحجّة الله على خلقه (18).
السيّدة زينب عليها السّلام تروي قصّة نزول طعام الجنّة:
روى عماد الدين الطوسيّ عن زينب بنت عليّ عليهما السّلام، قالت: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله صلاة الفجر ثمّ أقبل على أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: هل عندكم طعام ؟
فقال: لم آكل منذ ثلاثة أيّام طعاماً، وما تركتُ في بيتنا طعاماً.
فقال صلّى الله عليه وآله: سِرْ بنا إلى فاطمة!
فلمّا دخلا على فاطمة نظرا إليها وقد أخَذَها الضَّعف من الجوع وحولَها الحَسَنان عليهما السّلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا فاطمة فِداكِ أبوكِ، هل عندكِ شيء من الطعام ؟
فاستَحيَت فاطمةُ أن تقول لا.. وقامت واستقبلت القِبلة لتصلّي ركعتَين، فأحسّت بحسيس، فالتفتت وإذا بصُحفة ملأى ثَريداً ولحماً، فأتت بها ووضعتها بين يدَي أبيها صلّى الله عليه وآله، فدعا رسولُ الله صلّى الله عليه وآله بعليّ والحسن والحسين، ونظر عليّ عليه السّلام إلى فاطمة متعجّباً وقال:
يا بنتَ رسول الله، أنّى لكِ هذا ؟
فقالت: هو من عند الله، إنّ الله يَرزقُ من يشاء بغير حساب (19).
العقيلة زينب عليها السّلام المتهجّدة العابدة:
أشبَهَت عقيلةُ بني هاشم عليها السّلام أمَّها سيّدةَ نساء العالمين فاطمةَ الزهراء عليها السّلام في عبادتها، فكانت تقضي ليلها بالصلاة والتهجّد، ولم تترك نوافلها حتّى في أحلَك الظروف وأصعبها، فقد روي عن الإمام زين العابدين عليه السّلام أنّه قال إنّ عمّته زينب ما تَرَكت نوافلها الليليّة مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقهم إلى الشام (20).
لم تَقعُد بها تلك المصائب الراتبة التي تَهدّ الجبالَ عن أن تتهجّد وتُناجي ربّها الكريم.
ونُقل عن ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله، الإمام الحسين عليه السّلام، أنّه لمّا ودّع أخته زينب عليها السّلام وَداعَه الأخير قال لها: يا أُختاه، لا تنسيني في نافلة الليل (21).
وروى الجواهري في ( مثير الأحزان ) عن فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السّلام أنّها قالت:... وأمّا عمّتي زينب فإنّها لم تَزَل قائمةً في تلك الليلة ـ أي ليلة العاشر من المحرّم ـ في محرابها تستغيث إلى ربّها، فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رَنّة (22).
وروي عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام إنّه قال: إنّ عمّتي زينب كانت تؤدّي صلواتها من قيام ـ الفرائض والنوافل ـ عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلّي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك، فقالت: أصلّي من جلوس لشدّة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال؛ لأنّها كانت تُقسّم ما يُصيبها من الطعام على الأطفال، لأنّ القوم كانوا يدفعون لكلّ واحد منّا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة (23).
وفي هذه الأخبار دلالة لا أوضح منها على أنّ السيّدة زينب عليها السّلام كانت من القانتات اللائي وَقَفنَ حركاتهنّ وسكناتهنّ وأنفاسهنّ للباري تعالى، فحصلن بذلك على المنازل الرفيعة والدرجات العالية التي حَكَت برفعتها منازلَ المُرسلين ودرجات الأوصياء عليهم الصلاة والسلام.
العقيلة زينب ع
https://telegram.me/buratha