بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، من الأولين والآخرين.
وبعد : فهذه دراسة سريعة في « نهج البلاغة » لمعرفة أهل البيت وعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كما وصفهم سيّدهم أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.
ونهج البلاغة للشريف الرضي ، وكل ما فيه مختاراته من خطب الإمام وكلماته ورسائله المشتملة على تعاليمه وأفكاره ونظراته وآرائه ، في مختلف الشؤون.
ولقد كاد أن يكون التشكيك في نسبة الكتاب إلى الشريف ، أو الكلمات الشريفة إلى الإمام ، على حدّ التشكيك في وجود الامام والشريف نفسهما.
وكان جديراً بنا أن نرجع إلى « نهج البلاغة » لمعرفة مكانة « أهل البيت » ومنزلتهم ، لأنّه عليه السّلام سيّدهم ورئيسهم ، وأعرف الناس بهم ، وهو ـ مع ذلك ـ البارع في الوصف والعادل في الحكم.
لقد جاء ذكر « أهل بيت » في مواضع كثيرة من « نهج البلاغة » ، ولأغراض مختلفة ، وهو ـ في الأغلب ـ يركّز بشتّى الأساليب على أفضليّتهم المطلقة وأولويّتهم بالكتاب والسنّة وتطبيقهما ، وأحقيّتهم بالإتّباع والطاعة.
وإذا ما راجعنا تلك الأوصاف ومعانيها ، ونظرنا في شواهدها من الكتاب والسنّة ومبانيها ، عرفنا عدم دخول من أجمع المسلمون على عدم عصمته ، تحت عنوان « آل النبيّ » و « أهل بيته » و « عترته ».
فهلم معي إلى « نهج البلاغة » لمعرفة جانب من شأن « أهل البيت ».
لا يقاس بآل محمّد من هذه الاُمّة أحد يقول عليه السلام : « لا يقاس بآل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من هذه الاُمّة أحد ، ولا يسوّي بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً » (1).
وهذه كلمة جامعة وعبارة مطلقة :
« لا يقاس بآل محمّد ـ ص ـ » ، أي : في شيء من الأشياء.
« من هذه الاُمّة » ، أيّ : ومن غيرها بالاولوية ، لأنّ هذه الاُمّة « خير اُمّة اُخرجت للناس » (2).
« أحد » أي : كائناً من كان.
« ولا يسوّي بهم » ، أي : فضلاً عن أن يفضل عليهم.
« من جرت نعمتهم بهم » ، والنعمة هنا عامّة.
« أبدا » تأييد للنفي ، أو : إنّ كلّ ما كان وما يكون إلى الأبد من نعمة فهو منهم . وهذا معنى دقيق جليل سنتعرض له ببعض التوضيح في شرح قوله عليه السلام : « إنا صنائع ربّنا والناس صنائع لنا ».
وكلام الإمام هذا يسد باب المفاضلة بين « أهل البيت » وغيرهم من الأنبياء والمرسلين ، والملائكة المقرّبين ، فضلاً عن أصحاب رسول ربّ العالمين ، ولقد أنصف وأحسن بعض المحقّقين من أهل السنّة فقال بأنّ من يفضّل فلاناً على سائر الصحابة لا يقصد تفضيله على علي ، لأنّ عليّاً من أهل البيت.
فأفضل الخليفة بعد محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ آلُهُ ، وهذا هو الواقع والحقيقة ، لأنّهم فاقوا كالنبي كلّ النبيّين ـ وهم أشرف المخلوقات ـ في الخلق والخلق والكمالات.
ما في « الخلق » فقد خلقوا والنبي صلى الله عليه وآله من نور واحد ومن شجرة واحدة ، كما في الأحاديث المستفيضة المتّفق عليها.
فقد روى أحمد بن حنبل ، عن عبد الرزاق ، عن معمّر ، عن الزهري ، عن خالد بن معدان ، عن زاذان ، عن سلمان ، قال : قال رسول الله ـ ص ـ : « كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي الله تعالى ، قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام ، فلمّا خلق آدم قسم ذلك النور جزءين ، فجزء أنا وجزء علي » (3).
وروى الكنجي ، عن الخطيب البغدادي ؛ وابن عساكر ، عن ابن عبّاس ، قال : قال النبي ـ ص ـ : « خلق الله قضيباً من نور قبل أن يخلق الدنيا بأربعين ألف عام ، فجعله أمام العرش ، حتّى كان أوّل مبعثي ، فشقّ منه نصفاً فخلق منه نبيّكم ، والنصف الآخر علي بن أبي طالب » (4).
وأخرج الحاكم ، عن جابر بن عبدالله ، قال : « سمعت رسول الله ـ ص ـ يقول لعلي : يا علي ، الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة ، ثمّ قرأ رسول الله ـ ص ـ : « وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ » ، هذا حديث صحيح الاسناد » (5) .
وروى الكنجي ، عن الطبراني وابن عساكر ، عن أبي اُمامة الباهلي ، قال : « قال رسول الله ـ ص ـ : إنّ الله خلق الأنبياء من شجر شتّى وخلقني وعليّاً من شجرة واحدة ، فأنا أصلها ، وعلي فرعها ، وفاطمة لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها ، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا ، ومن زاغ عنها هوى ، ولو أنّ عبداً عَبَدَ الله بين الصفا والمروة ألف عام ثمّ ألف عام ، ثمّ لم يدرك محبّتنا أكبّه الله على منخريه في النار ـ ثم قال : ـ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ » (6).
وإليه أشار عليه السلام بقوله : « عترته خير العِتَر ، واُسرته خير الاُسر ، وشجرته خير الشجر ، نبتت في حرم ، وبسقت في كرم ، لها فروع طوال ، وثمر لا ينال » (7).
وقال : « اُسرته خير أسرة ، وشجرته خير شجرة ، أغصانها معتدلة ، وثمارها متهدلة » (8).
وقال : « نحن شجرة النبوة » (9).
بل إنّ « آل محمّد » هم « بضعة » منه ، ففي الحديث المتّفق عليه : « علي منّي وأنا منه » (10) ، و « فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني » (11) ، واستناداً إلى هذا الحديث قال الحافظ السهيلي بأنّ فاطمة عليها الصلاة والسلام أفضل من أبي بكر وعمر (12) ، لكونها بضعة من النبي ، وكذا قال الحافظ البيهقي (13) ، ولا شكّ في أنّ ولديهما والأئمّة من ولد الحسين بضعة منهما ، فهم بضعة النبي الكريم.
بل إنّ « آل محمّد » هم « نفس » النبيّ ، فإنّ عليّاً عليه السلام نفسه لآية المباهلة (14). وقد خاطب ابنه الحسن بقوله : « وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي » (15) . وكذلك الحسين والأئمّة من ولده ...
وأمّا في « الخلق » ، فعند آل محمّد جميع كمالات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفضائله ، لأنّهم تربّوا في حجره وتعلّموا على يديه ، يقول عليه السّلام :« أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب ، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر ، وقد علمتم موضعي من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به ـ صلى الله عليه وآله ـ من لدن أنْ كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره . ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبيّ ، ولكنّك لوزير ، وإنّك لعلى خير.
... وإنّي لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، سيماهم سيّما الصدّيقين ، وكلامهم كلام الأبرار ، عمّار الليل ومنار النهار ، مستمسكون بحبل الله ، يحيون سنن الله وسنن رسوله ، لا يستكبرون ولا يعلون ، ولا يغلون ولا يفسدون ، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل » (16).
يركّز الامام عليه السلام في هذا الكلام على نقطة مهمّة جدّاً وهي: إنّ من يقوم مقام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في شؤون الرسالة لابدّ أن يكون أفضل المتخرّجين عليه والمتأدّبين منه، ويؤكّد على أنّه هو الواجد لهذه المواصفات والحائز لتلك المقامات، وإنّه ما من علم علمه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وأذّن في تعليمه، وما من خلق وأدب كان الرسول عليه إلاّ وقد أخذه منه ، حتّى تأهّل لأن يسمع ما كان يسمع ويرى ما كان يرى، ولولا ختم النبوّة بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لكان هو النبيّ من بعده ، ولذا استثنى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم النبوّة قائلاً له: « إلاّ أنّك لست بنبيّ ، ولكنّك لوزير » . وفي قوله : « ولكنّك لوزير » إشارة إلى قوله عزّ وجلّ حكاية عن موسى : « وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي» (17).
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم له عليه السلام :« أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » (18).
ثمّ إنّه أشار إلى طرف من صفات أهل البيت المعنويّة التي خصّهم الله عزّ وجلّ بها ، قائلاً : « وإنّي لمن قوم لا تأخذهم ... ».
وإن أشرف الأشياء التي أخذوها من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأعلاها : علومه ومعارفه وأسراره ، وهذا ما كرّر الإمام ذكره وأعلن به فخره ، يقول عليه السلام : « هم موضع سرّه ، ولجأ أمره ، وعيبة علمه، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه . بهم أقام انحناء ظهره ، وأذهب ارتعاد فرائصه » (19).
والضمائر كلّها راجعة إلى « الله » أو « النبيّ » ، إلاّ الضمير في « ظهره » و « فرائصه » فإنّهما عائدان إلى « الدين ».
والمراد من « السرّ » العلوم التي لا يحتملها أحد غيرهم ، ومن « الأمر » كلّ ما يحتاجه الناس لدينهم ودنياهم ، فالأئمّة هم المرجع والملاذ فيه ، قال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ... » (20) وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام نفسه إلى هذا المعنى ، مستدلاً بالآية الكريمة ، في قوله الآتي ذكره : « إنا لم نحكم الرجال ... ».
والمراد من « عيبة علمه » أنّ الأئمّة أوعية لعلوم الله التي أودعها النبي ، وإليه أشار هو بقوله : « ... علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ، ودعا لي بأنّ يعيه صدري وتَضْطمّ عليه جوانحي » (21) وبه أخبار رواها الكليني في الكافي (22).
والمراد من « الحكم » مطلق الأحكام الشرعيّة أو خصوص الحكم بمعنى القضاء ، وقد تواتر عن أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله قولهم : « أقضانا علي » (23) والأخبار الواردة عنهم في النهي عن التحاكم إلى غيره كثيرة ، أورد بعضها الحرّ العاملي في الوسائل (24).
والمراد من « كتبه » هي الكتب السماوية إن كان مرجع الضمير « الله » والقرآن والسنّة وغيرهما من آثار النبيّ إن كان المرجع « النبيّ » ، أمّا علم القرآن فهم أهله والمرجع فيه ، ومنهم اُخذ وعنهم انتشر ، وناهيك بعبدالله بن العباس ونظرائه ، الذين إليهم تنتهي علوم القرآن ، وهم تلاميذ أمير المؤمنين ، وأمّا الكتب السماويّة فالأخبار عنهم في كونها عندهم كثيرة ، روى بعضها الكليني في الكافي (25) وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام :« سلوني قبل أن تفقدوني ، فأنا عيبة رسول الله ، وأنا فقأت عين الفتنة بباطنها وظاهرها ، سلوا من عنده علم المنايا والبلايا والوصايا وفصل الخطاب ، سلوني فأنا يعسوب المؤمنين حقّاً ، وما من فئة تهدي مائة أو تضلّ مائة إلاّ وقد أتيت بقائدها وسائقها ، والذي نفسي بيده لو طوى لي الوسادة فأجلس عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم ، ولاهل الانجيل بإنجيلهم ، ولأهل الزبور بزبورهم ، ولأهل الفرقان بفرقانهم.
فقام ابن الكوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام وهو يخطب الناس فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن نفسك ، فقال : ويلك ، أتريد أن اُزكّي نفسي وقد نهى الله عن ذلك ؟! مع أنّي كنت إذا سألت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أعطاني ، وإذا سكت ابتداني ، وبين الجوانح منّي علم جمّ ، ونحن أهل البيت لا نقاس بأحد » (26).
والمراد من « جبال دينه » هو بقاء الدين ببقائهم كما سيأتي. ويقول : « هم عيش العلم وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم ، لا يُخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحقّ إلى نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ، لا عقل سماع ورواية ، فإنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل » (27).
وفي قوله : « لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه » أشار إلى حجّيّة قول الواحد منهم فكيف بإجماعهم !! وفي الخبر عن أبي الحسن عليه السلام : « نحن في العلم والشجاعة سواء » (28).
وفيه عن أبي عبدالله عليه السلام أنّ النبي وأمير المؤمنين وذريّته الأئمة « حجّتهم واحدة وطاعتهم واحدة » (29).
وفيه عنه : « نحن في الأمر والفهم والحلال والحرام نجري مجرى واحداً ، فأمّا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وعلي فلهما فضلهما » (30).
ويقول عليه السلام : « نحن شجرة النبوّة ، ومحطّ الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومعادن العلم ، وينابيع الحكم » (31).
وبهذا أخبار رواها الكليني في الكافي عن أئمّة أهل البيت (32).
ويقول عليه السلام :
« تالله لقد علمت تبليغ الرسالات ، وإتمام العدات ، وتمام الكلمات ، وعندنا ـ أهل البيت ـ أبواب الحكم وصياء الأمر » (33).
أي: علّمه رسول الله صلّى الله عليه وآله طرق تبليغ المعارف والأحكام التي جاء بها النبيّون ، لا سيّما نبيّنا الكريم صلّى الله عليه وآله ، فإنَّ من كان أساساً للدّين ووعاء للعلوم ، لابدّ وأن يعرف كيفيّة حفظ الدين وتبليغه . وطريق نشر العلم وتعليمه ، فإنّ ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والاُمم والأشخاص ، فليس لأحد أن يعترض عليه في فعل أو ترك ، أو قول ، أو صمت.
وعلّمه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ حقائق العدات التي كانت بين الله عزّ وجلّ وسفرائه الكرام إلى العباد ، وكيفيّة إنجازها وإتمامها ، أو علّمه رسول الله ـ ص ـ العدات التي وعدها للناس وكيفيّة إنجازها من بعده ، لكونه وصيّه ومنجز وعده ، كما في الأحاديث عند الفريقين.
وعلّمه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ الكلمات التي كانت بين الله تعالى ورسله وتمامها « وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ » (34). ولعلّها أشياء غير الكتب السماويّة والصحف الإلهيّة .
قال : وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الأمر ، و « الحكم » إمّا بضمّ الحاء وسكون الكاف وهو القضاء، فلأهل البيت في أحكامهم هداية ربّانيّة قد لا تحصل إلاّ للمعصومين مثلهم ، قال تعالى : « إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ... » (35) أو المراد مطلق الأحكام ؛ وإمّا بكسرها وفتح الكاف، وهو جمع الحكمة.
و « الأمر » الولاية والخلافة ، أو الأحكام ، أو مطلق الاُمور فإنّهم عالمون بها بإذن الله.
ويؤكّد في موضع آخر على أنّ حقائق الكتاب والسنّة عند أهل البيت ، وأنّهم أحقّ بها وأولى من غيرهم ، فيقول : « إنّا لم نحكم الرجال وإنّما حكمنا القرآن ، هذا القرآن إنّما هو خطّ مستور بين الدفّتين ، لا ينطق بلسان ، ولابدّ له من ترجمان ، وإنّما ينطق عنه الرجال ، ولمّا دعانا القوم إلى أن نحكم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله سبحانه وتعالى ، وقد قال الله سبحانه : « فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ » ، فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه ، وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته . فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحقّ الناس به ، وإنّ حكم بسنّة رسول الله فنحن أحقّ النّاس وأولاهم بها ... فأين يُتاه بكم ! ومن أين أتيتم ! » (36).
في هذا المعنى روايات كثيرة عن أهل البيت ، رواها الكليني في الأبواب المختلفة من كتاب الحجّة من الكافي.
ويصرّح عليه السلام بأنّ أهل البيت ـ لا سواهم ـ هم الراسخون في العلم ، فيقول :
« أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا ، أنْ رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرّمهم ، وأدخلنا وأخرجهم » (37).
ولعلّه يشير إلى قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ .. » (38).
وعن أبي عبدالله عليه السلام : « نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله » ومثله غيره (39).
وأهل البيت يعلمون بما كان ويكون ـ إلاّ ما خصّ الله علمه بنفسه ، ولا يعلمه أحد إلاّ هو ـ يقول عليه السلام : « وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطمّ عليه جوانحي » (40). ويقول في موضع آخر : « والله لو شئت أن اُخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف أن تكفروا فيَّ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ألا وإنّي مفضيه إلى الخاصّة ممّن يؤمن ذلك منه ، والذي بعثه بالحقّ واصطفاه على الخلق ما أنطق إلاّ صادقاً ، وقد عهد إليّ بذلك كلّه ، وبمهلك من يهلك ، ومنجى من ينجو ، ومال هذا الأمر ، وما أبقى شيئاً يمرّ على رأسي إلاّ أفرغه في أذني وأفضى به إليّ » (41).
وعنه عليه السلام : « سلوني ، والله ما تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلاّ أخبرتكم ... » (42) و « أهل البيت » هم « الأبواب » ، يقول عليه السلام :
« نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقاً » (43).
وعن أبي عبدالله عليه السلام : « الأوصياء هم أبواب الله عزّ وجلّ التي يؤتى منها ، لولاهم ما عرف الله عزّ وجلّ ، وبهم احتجّ الله تبارك وتعالى على خلقه » (44).
ومن قبل جعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نفسه « مدينة العلم » ، وجعل عليّاً « باب » تلك المدينة . أخرج الترمذي عن أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّ رسول الله ـ ص ـ قال : أنا مدينة العلم وعلي بابها » (45).
وأخرج الحاكم عن جابر بن عبدالله يقول : « سمعت رسول الله ـ ص ـ يقول : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب » (46).
وأخرج الطبراني عن جابر قال : « قال رسول الله ـ ص ـ : أنا مدينة العلم وعلي بابها » (47).
وأخرج الخطيب عن ابن عبّاس « قال : سمعت رسول الله ـ ص ـ يقول : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب » (48).
وأخرج الترمذي عن علي : « قال رسول الله ـ ص ـ : أنا دار الحكمة وعلي بابها » (49)
إنّهم صنائع ربّنا والناس صنائع لهم
ويقول عليه السلام في كتاب له إلى معاوية :« إنّ قوماً استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ـ ولكلّ فضل ـ ، حتّى إذا استشهد شهيدنا ، قيل : سيد الشهداء ، وخصّه رسول الله صلّى الله عليه وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه ، أو لا ترى أنّ قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ـ ولكلّ فضل ـ حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم ، قيل : الطيّار في الجنّة وذو الجناحين.
ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة ، تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجّها آذان السامعين ، فدع عنك من مالت به الرمية.
فإنّا صنائع ربّنا والناس بعد صنائع لنا.
لم يمنعنا قديم عزّنا ولا عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا ، فعل الأكفاء ، ولستم هناك ...
فنحن مرّة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطاعة. ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلّى الله عليه وآله فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم » (50).
وقد اشتمل هذا الكتاب ـ فيما اشتمل من الفضل لأهل البيت ـ على جملة معناها عظيم ، وتحتها سرّ جليل ، قال عليه السلام : « إنا صنائع ربّنا والناس بعد صنائع لنا ».
وقد وردت هذه الجملة في كتاب لوليّ العصر والإمام الثاني عشر ـ عجل الله تعالى فرجه ـ إلى الشيعة قال عليه السلام :« بسم الله الرحمن الرحيم ، عافانا الله وإيّاكم من الفتن ، ووهب لنا ولكم روح اليقين ، وأجارنا وإيّاكم من سوء المنقلب.
إنّه انهي إليّ ارتياب جماعة منكم في الدين ، وما دخلهم من الشكّ والحيرة في ولاة أمرهم ، فغمّنا ذلك لكم لا لنا ، وساءنا فيكم لا فينا ، لانّ الله معنا ، فلا فاقة بنا إلى غيره ، والحقّ معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا ، ونحن صنائع ربّنا ، والخلق بعد صنائعنا.
يا هؤلاء ما لكم في الريب تتردّدون ، وفي الحيرة تنعكسون ، أو ما سمعتم الله يقول : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ » ؟! أوَ ما علمتم ما جاءت به الآثار ممّا يكون ويحدث في ائمّتكم ، على الماضين والباقين منهم السلام ؟! أوَ ما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون إليها وأعلاماً تهتدون بها ، من لدن آدم ـ عليه السلام ـ إلى أن ظهر الماضي عليه السلام ؟! كلّما غاب علم بدأ علم ، وإذا أفل نجم طلع نجم » (51).
وصنيعة الملك من يصطنعه الملك لنفسه ويرفع قدره.
https://telegram.me/buratha