25 / 7 / 2009م
النظام السياسي المستوحى من الفكر السياسي الإسلامي الأصيل يرتكز على الحق والعدالة كصبغة وإطارٍ لكل التشريعات والأنظمة واللوائح، وعلى التقوى والعلم كصبغة وخصالٍ للحاكم وكل الولاة له, وعلى الولاية للحاكم العادل، والحرية للمحكوم الرشيد، والشورى مع الفقهاء الذين يفقهون الوحي والواقع من أهل الاستنباط أصحاب البصيرة القرآنية الذين يتميزون بالرؤى الثاقبة والمواقف الرشيدة، فيرتكز على الولاية والحرية والشورى كنظام ونهج للعلاقة بين الحاكم والمحكوم وأصحاب البصيرة التي لا يمكن أن يُشيَّد بناؤها إلا بالالتزام بالحقوق والواجبات من الحاكم أولاً والمحكوم تالياً ومن دون فصل. من دون هذه الركائز يفقد نظام الحكم شرعيته الإسلامية، ويكون حاله كحال كل أنظمة الحكم الوضعية, وإن زعم أنه يمثل النموذج الإسلامي، أو ينطلق من أصول الفكر والعقيدة الإسلامية, بل الإسلام منه براء كبراءة الذئب من دم يوسف.
ومع جلاء ووضوح هذه النظرية وبالخصوص عدم الشرعية للظالم يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ ولعدم جواز الركون للظالم يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ إلا أننا نجد أهل الهوى من علماء البلاط، ووعاظ السلاطين، والشعراء الغاوين، والسحرة المتزلفين في الحاضر والماضي، وعلى امتداد التاريخ الإسلامي يشرعنون للظالم ولايته على العباد، وحكمه للبلاد، ويفلسفون له أنظمته ولوائحه، ويبررون له ظلمه واستبداده، ويكيلون التُّهم على مخالفيه، ويُدِينون كل مَنْ يعارضه فضلاً عمَّن يعاديه, وهؤلاء هم الذين أدخلوا وأرسوا وأقروا دعائم الظلم والجور والطغيان والاستبداد في النظام السياسي الإسلامي, ولذلك تجدهم أبواقاً يُنظِّرون ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً لحق الحاكم المستعلي على المحكوم المستضعف, وفي المقابل تجدهم يتغافلون عن حق المحكوم المستضعف على الحاكم المستعلي، ولم يَنْبَسُّوا ببنت شفة عن حق المحكوم على الحاكم, مما أصَّل لعملية التزوير لمبادئ الإسلام العليا، والتحريف لتشريعاته السمحة، والتشويه لرؤاه الرسالية، وكأن الشريعة الإسلامية، والتشريعات الإلهية ما نزلت ولا شُرِّعت إلا من أجل حماية الحاكم المستعلي من المحكوم المستضعف، والمدح والثناء للحاكم المستعلي، والذم والإدانة للمحكوم المستضعف، وهكذا انكمشت واختزلت الشريعة والتشريعات كلها في الدفاع عن الحاكم المستعلي، والهجوم على المحكوم المستضعف, فجعلوا سعادة البشرية ورفاهيتها وأمنها، بل والجنة والرضوان الإلهي كل ذلك يكمن في عبادة الحاكم، واتخاذه ربَّاً من دون الله، وزعموا أن السعادة والرفاه والأمن مطويات في قوة واستبداد وبطش ويمين الحاكم المستعلي، والتفاف الجماعة حوله وطاعته, فابتدعوا عنوان ومفهوم السنة والجماعة، ووحدة الجماعة، وعصا الطاعة، بل ولو جلد ظهرك، وكان لهذه المفاهيم التأثير البليغ في تزوير البنية المرجعية للفكر والتفكير السياسي في الإسلام، ومن ثم تشكيل التفكير السياسي الإسلامي بمنطلقات طاغوتية، وتدوين الفكر السياسي في الإسلام بمعطيات أموية.
ولقد كان للنظام الأموي الدور الأكبر في تأصيل وشرعنة الظلم والجور والطغيان السياسي للوالي، وتأسيس الملك العضوض، وبدعة السنة والجماعة، وحرمة الخروج على الحاكم الجائر ولو جلد ظهرك، وإباحة قتل المجاهدين المستضعفين إذا خرجوا على حاكم الجور, واكتمل بنيان هذه الفلسفة في عهد يزيد فمنذ البداية من توليه الحكم بدأ الهوامنة أو الهامانات [1] المتزلفون وعلى رأسهم أفعى اليهود سرجون [2] ينسجون الفلسفة التي تبرر وتشرعن لطغيان يزيد, فقاموا باختلاق وتلفيق التهمة على الإمام الحسين (عليه السلام) حين رفض البيعة ليزيد الفاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرمة، وبثوا سمومهم بأن الحسين (عليه السلام) خارجي!! لأنه لم يبايع الخليفة يزيد (لع) !! ولأنه خارج على حكم الخليفة يزيد فلابد من قتاله!! والنتيجة أن الحسين (عليه السلام) خرج عن حده فليقتل بسيف جده!!.
ولكن لأن شريعة السماء في الضدِّ من هذه المهازل والفلسفة المريضة كان لا بد من لوك الشريعة وليها لتتحول الفلسفة إلى فتوى حتى تأخذ بعداً شرعياً، ومَنْ لهذه المهمة إلا علماء البلاط، ووعاظ السلاطين, ولم يكن هناك أتعس وأسوء من شريح القاضي [3] قاضي الحكومة، وواعظ السلطان، وعالم البلاط الأموي الذي باع دينه بدنيا غيره, فقال متجرأ على الله ورسوله: " أن الحسين خرج عن حده فليقتل بسيف جده." فصدر القرار السياسي بقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، وشُرْعِن بالفتوى الدينية وعُضِد بالترهيب والترغيب لتتشكل في المجتمع ثقافة سلطوية تبرر للطغاة، وتدين المصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين, حتى تأصلت الثقافة وتجذرت في المجتمع، وألبست بثوب الفتوى الشرعية، وباتت منهج حكم للطغاة ينتهجها ويعيد إنتاجها ورثة بني أمية إلى يومنا هذا!!
الوجيه الذي يستضيء بنور المجاهدين
" لما عزم الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) الخروج من مكة انتقل الخبر إلى أهل المدينة بأن الحسين بن علي (عليهما السلام) يريد الخروج إلى العراق، فكتب إليه عبد الله بن جعفر: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ، للحسين بن علي (عليهما السلام) من عبد الله بن جعفر، أما بعد! أنشدك الله أن لا تخرج عن مكة، فإني خائف عليك من هذا الأمر الذي قد أزمعت عليه أن يكون فيه هلاكك وأهل بيتك، فإنك إن قتلت أخاف أن يطفئ نور الأرض، وأنت روح الهدى وأمير المؤمنين، فلا تعجل بالمسير إلى العراق فإني آخذ لك الأمان من يزيد، وجميع بني أمية على نفسك ومالك وولدك وأهل بيتك، والسلام."
الطاغي ينتهك الحرمات ولا أمان له
" فكتب الحسين بن علي (عليهما السلام) إلى عبد الله بن جعفر: ﴿ أما بعد! فإن كتابك ورد علي فقرأته وفهمت ما ذكرت، واعلمك أني رأيت جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامي فخبرني بأمر وأنا ماضٍ له، لي كان أو علي، والله، يا ابن عمي! لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني ويقتلوني؛ والله، يا ابن عمي! ليُعْتَدَنَّ علي كما اعتدت اليهود على السبت، والسلام).
الوجيه ترس للمجاهدين وليس بوقاً للسلاطين
" فذهب عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلمه وقال: اكتب إلى الحسين (عليه السلام) كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنيه فيه البر والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنه أحرى أن تطمئن نفسه إليه ويعلم أنه الجد منك"
إن الدور الحقيقي والمشروع للوجيه الصالح هو أن يكون رسول المجاهدين إلى السلاطين فينطق بلسانهم ويتبنى رؤيتهم ومواقفهم, وليس دوره أن يكون رسول السلاطين إلى المجتمع والمجاهدين فينطق بلسان الطغاة ويروج لسمومهم وشيطنتهم.
مزاعم الطغاة والمفاهيم المغلوطة على لسان أعوانهم
" فكتب عمرو بن سعيد: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ، من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي، أما بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عما يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، وإني أعيذك من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إلي معهما، فإن لك عندي الأمان والصلة والبر وحسن الجوار، لك الله بذلك شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسلام عليك"
ولأن الإمام الحسين (عليه السلام) خرج لإصلاح الأمة ورفض البيعة للطاغي يزيد, فإنه -وهكذا كل مصلح صادق ومجاهد مخلص- سيكون في شريعة الطاغي وأعوانه متَّهم بـ:
1. ارتكاب الموبقات من الذنوب والمعاصي ." أن يصرفك عما يوبقك
2. الغي والسفه وعدم الرشد. " وأن يهديك لما يرشدك"
3. مثير للفتن والشقاق وتمزيق وحدة الأمة. " أعيذك من الشقاق"
4. أنه هو السبب في الإضرار على نفسه. " فإني أخاف عليك فيه الهلاك"
5. فعدم البيعة للطاغي أو معارضته أو مخالفته موبقات، وعدم رشد، وشقاق، وهلاك.
فضح المزاعم وتصحيح المفاهيم
" فلما خرج الحسين (عليه السلام) من مكة لحقه عبد الله بن جعفر، واعترضه رُسُل عمرو بن سعيد بن العاص عليهم يحيى بن سعيد، فأقرأه يحيى الكتاب, وكتب إليه الحسين (عليه السلام) : ﴿أما بعد, فإنه لم يشاقق الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من دعا إلى الله عز وجل وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبر والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يأمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبري فجزيت خيرا في الدنيا والآخرة، والسلام﴾.
المدافعة والممانعة الحسينية
" فقال رُسُل عمرو بن سعيد بن العاص وعلى رأسهم يحيى بن سعيد للإمام الحسين (عليه السلام) : انصرف، أين تذهب؟! فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط، ثم إن الحسين (عليه السلام) وأصحابه امتنعوا امتناعاً قوياً، ومضى الحسين (عليه السلام) على وجهه"
شعار التزوير والمغالطة الشيطانية الكبرى
" فنادوه: يا حسين! ألا تتقي الله؟! تخرج من الجماعة وتفرق بين هذه الأمة! فتأول الحسين (عليه السلام) قول الله عز وجل: ﴿ لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
ومتى كانت وحدة الجماعة تحت راية التيه والضلال في ظل جور الطغاة وظلم البغاة تقارن أو تقاس بوجوب تحمل مسؤولية إصلاح الأمة وتغيير واقعها الفاسد حتى تقدم عليه فضلاً عن الدفاع عن مبدأ التوحيد الإلهي الخالص وعن قيم الرسالة بدءً من الكرامة، ومروراً بالعدالة والحرية، وختاماً بالأمن والسلام، وعن معالم الدين، وحدود الشريعة التي ما بعث الرسل إلا من أجل إحيائها, وهذه المسؤولية تتجلى في سيرة كل الأنبياء والرسل والأولياء والأئمة (عليهم السلام) والمصلحين ولو بتفريق وحدة الجماعة وشق عصا الطاعة للحاكم الظالم, ولقد كلَّفت تلك المسيرة أعظم التضحيات حيث كان آلاف الأنبياء وآلاف الأولياء قرابينها.
لكن دائماً ما يُتَّهم المصلحون الصادقون، والمجاهدون المخلصون من قبل الظلمة وأعوانهم والمتمصلحين والمتحزبين والجهلة بتفتيت الوحدة، وشق الصف، وتفكيك الجماعة، وتمزيق المجتمع، ومصادرة قرار الطائفة، وتفريق الأمة, وكلها ادِّعاءات وأوهام ومزاعم يتشدقون بها، ولا وجود لها إلا في ألاعيب وخداع الزعامات الفاشلة، وفي مصالح المتحزبين لأن الأمة من بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي متفرقة إلى فِرَقٍ ولن يجمعها إلا التمسك بالكتاب والعترة النبوية.
وأما قرار الطائفة وما أدراك ما قرار الطائفة فمنذ أمد بعيد قام مَنْ يعلَمُهُمُ الله بمصادرته واغتياله، وأُلبس الكفن، وصلَّوا عليه، ودُفن في المقبرة، ولا مِنْ شاهد ولا مَنْ رأى, فلا يوجد قرار عند الطائفة حتى يصادر لأنها مع الأسف مستلبة الحقيقة، ومسلوبة القرار لأن العقلية الحزبية التي تعشعش في الرؤوس الكبرى فضلاً عن الأتباع هي تحكم وتتحكم في المؤسسة المرجعية والمؤسسة الحركية, والمجتمع فِرَقٌ متحزبة تبعاً لتحزب المؤسسة المرجعية والمؤسسة الحركية, والجماعة اختزلت في الزعيم الأوحد, والصف لم نجده يوماً حتى في أحلك الأزمات, والوحدة حلم مزَّقه البغي والتسلط, ولو وجدت الوحدة لحكمنا العالم, فكلها تشدُّقات وادِّعاءات ومزاعم أو أماني أو شعارات زائفة, وأقل ما تعنيه هي كلمة حق يراد بها باطل، والهدف منها ضرب المصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين ليس إلا.
لكن هذه النقنقة وهذا النعيق ما هو إلا تكرار وتجديد لنقنقة ونعيق مشركي قريش الذين قالوا لأبي طالب (عليه السلام) كافل اليتيم ومؤمن قريش : " كفَّ عنَّا ابن أخيك فإنه سفَّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وأفسد شبابنا وفرَق جماعتنا". يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
أبو اللسلاس والمنطق الجاهلي.. وعبد الله بن جعفر والمنطق المبدئي
" فلما بلغ عبدالله بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) مقتل ابنيه مع الحسين (عليه السلام), دخل عليه الناس وبعض مواليه يعزونه ومنهم مولاه أبو اللسلاس.
فقال أبو اللسلاس: هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين.
فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله ثم قال: يابن اللخناء أللحسين تقول هذا؟! والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لمما يسخي بنفسي عنهما، ويهون علي المصاب بهما، أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه. ثم أقبل على جلسائه، فقال: الحمد لله! عزَّ علي بمصرع الحسين (عليه السلام) أن لا يكن آسَتْ حسينا يَدَيَّ فقد آساه ولديّ"
ولاريب أن كل موالٍ منَّا يستنكر ويُدين أبا اللسلاس على منطقه الخائر وموقفه الجاهلي, ولكن البعض منَّا -وإن كانوا قلة- يسكن في داخلهم أبو اللسلاس, والأقل منهم يمثل نموذج أبي اللسلاس أو أكثر منه وأعظم في منطقه الخائر وموقفه الجاهلي بداعي الخوف والرهبة، أو بداعي الحزبية والعصبية، أو بداعي المصلحة والشخصنة حيث يَسْلِق المضطهدين المستضعفين والمصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين بألسنة حداد، ويحملهم مسؤولية بطش وإرهاب وظلم وجور وطغيان واعتقال وتعذيب وتخريب وفساد الطاغي, ولا مسؤولية ولا شغل ولا هدف لأبي اللسلاس المعاصر إلا محاربة المضطهدين المستضعفين، والمصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين. ولكن هؤلاء لم يأتوا بشيء جديد وإنما هم الورثة الجدد لأبي اللسلاس. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
وهذا عبد الله بن عمر وهو الذي يروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ﴿ مَنْ رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ﴾ ويروي عن أبي بكر، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ﴿إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه ﴾ ولكنه سريعاً ما يتغافل ويتناسى هذه القيم الرسالية، والمبادئ السماوية التي تمثل سنام الشريعة عندما يطلب منه الإمام الحسين (عليه السلام) النصرة والخروج معه لمدافعة ومقاومة يزيد فما كان من عبد الله بن عمر إلا الخذلان والتشبث بثقافة التشويش والتضليل والتبرير فيقول للإمام الحسين (عليه السلام): " أنشدك الله يا أبا عبد الله أن لا تخرج ولا تفرق وحدة الجماعة " وليت شعري وهل المبيت في الجماعة الخانعة الضالة المنغمسة في الفساد والخزي والذل والعبودية للطاغي خيرٌ من تحمل مسؤلية إصلاح الأمة، وتغيير واقعها الفاسد، وبيان معالم الدين؟ ثم يتمادى في تبرير خذلانه ويقوم بإدانة الإمام الحسين (عليه السلام) فيقول قولته المشهورة: " غلَبَنا الحسين بن علي (عليه السلام) بالخروج. لعمري لقد كان رأي أبيه وأخيه أمراً, ورأى من خذلان الناس لهم, ما كان ينبغي أن يتحرك ما عاش, وأن يدخل في صالح الناس فإن الجماعة خير". وأي خيرٍ في جماعة تخنع للطاغي غير الذل والخزي والجور والظلم والطغيان والعدوان والكبت والبطش واستلاب الذات فضلاً عن استلاب الأمن والحرية.
وقد تغافل وتناسى أنه هو من رفض البيعة للإمام علي (عليه السلام) ولم يدخل في الجماعة المؤمنة وساهم في تفريق الجماعة وضيع الخير وهو أول مَنْ خذل الأمير (عليه السلام) وخذل الإمام الحسن (عليه السلام) وكذلك هو أول مَنْ خذل الإمام الحسين (عليه السلام).
وما زال المهووسون ينعقون بإدانة المجاهدين
إن التضليل الفكري، وتزوير الحقائق، وتشويش المفاهيم، وبلبلة الرؤى لم ينتهي بقتل الحسين (عليه السلام), لأن القضية أكبر من ذلك, لأن التزوير والتشويش والتجهيل والتضليل والبلبلة فلسفةُ حكمٍ للطواغيت حيث يتخذون منها منهجاً لدعائم تسلطهم وبغيهم، ولا يتحقق الطغيان والبغي إلا بهذه الفلسفة التشويشية التي كانت سلاح كل الطواغيت وأذيالهم لمواجهة الرسل وحوارييهم، وهي ما زالت ولن تزال سلاح كل الطواغيت لمواجهة المضطهدين المستضعفين، والمصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين بعد الحسين (عليه السلام).
وهكذا شرع المهووسون بخفة عقولهم، واضطراب أفكارهم، وحيرة مواقفهم يبثون سموم فلسفتهم لتزوير تعاليم الرسالة، واستغفال الناس، وتشويش مفاهيمهم لتبرير ظلم وجور الطاغي، وإدانة المضطهدين المستضعفين، والمصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين.
وقد خُدع الكثير بهذا المنهج التحريفي، والثقافة التبريرية، والفلسفة السلطوية، لأن الناعقين بهذه الفلسفة، والمروجين لهذا المنهج هم المنتحلين لعلم الشريعة، وفقه الحياة من علماء البلاط، ووعاظ السلاطين, فهذا شريح القاضي ينعق بأن الحسين (عليه السلام) خرج عن حده فليقتل بسيف جده وهذا ربيب المُخَلَّفات من البيت الأموي ابن عربي ركن وزعيم التصوف والفلسفة المعاد تكوينها أموياً يرث المنهج ليبرر للطغاة، ويكرر خبث شريح القاضي، فيتجرأ على إدانة الإمام الحسين (عليه السلام) في ممانعته ومدافعته ومقاومته لطغيان يزيد بدل أن يدين فساد يزيد الطاغي وسفكه للدماء, فيزعم قائلاً : " إن الحسين لما خرج عن حده قتل بسيف جده ". ويليه المتضلع والعارف بالتاريخ والثقافة العربية والإسلامية، ومَنْ يُسمَّى ويُعْرَف بالمؤرخ، وعالم الاجتماع العربي والمسلم الأول ابن خلدون ربيب موائد الطغاة فيزعم قائلاً: " إن الحسين قتل بسيف جده ". وهل يجرأ ابن عربي أو ابن خلدون فيقول إن الناكثين طلحة والزبير ومن قُتل معهما الذين خرجوا على الإمام علي (عليه السلام) قتلوا بسيف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).. سيف الحق والعدالة؟ إنهما لا يجرُآن بقول ذلك.
ويزعم ابن خلدون أيضاً قائلاً :" والحسين مثاب في اجتهاده والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق واجتهاد ".
حقاً إنها ثقافة التحريف والتشويش للفكر والمفاهيم من أجل التبرير للطغاة والسلاطين, وإلا كيف يتعقل المسلم الذي سمع أقوال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإمام الحسين (عليه السلام) ويقبل ويصدق بأن مَنْ كان مع يزيد في قتل الإمام الحسين (عليه السلام) على حق؟! لأن قبول هذا يعني أن قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) مثابون على قتلهم الإمام الحسين (عليه السلام) وأن الإمام الحسين (عليه السلام) على باطل وافترق عن كتاب الله، وكل روايات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإمام الحسين (عليه السلام) التي منها ﴿حسين مني وأنا من حسين﴾ تتعارض و تتناقض مع خروجه على يزيد, ولو صدَّق العاقل جدلاً هذا الزعم فسوف يسأل كيف يثاب الإمام الحسين (عليه السلام) على عمل الباطل؟ وكيف يثاب القاتل والمقتول في آن واحد على قضية تمثل صراع بين الحق والباطل؟ وأين العدالة السماوية في جدلية العقاب والثواب إذا كان الجميع يثاب على الحق أو على الباطل؟ ولكنها ثقافة التحريف والتضليل التي ينتهجها كل مَنْ تربى وترعرع في أحضان الطغاة واُتْخِم بطنه من فتاتهم وفضلاتهم إلى حدِّ عمى البصيرة فارتكس وانغمس في ضلال وتيه السلطان ليبرر الظلم والطغيان لسلاطين الجور والعدوان ومن ثم ليلحس من فضلات الطغاة, ولذلك ابتدعوا السنة والجماعة، ودانوا بالمصلحة، وكفروا بالحق، ونعقوا بوحدة الجماعة الفاسدة، وحاربوا الجماعة الصالحة, وإلا كيف يكون من قتل الإمام الحسين (عليه السلام) على حق؟ وكيف يكون مَنْ حارب الحق الجلي -عِدْلُ الكتاب- الذي تجسد في الإمام الحسين (عليه السلام) مثاباً على محاربة الحق؟.
فهل خفي على المتفقه شريح القاضي، أو على المتفلسف المتصوف ابن عربي، أو على ابن خلدون وهو الذي يُعدٌّ أهم عالم اجتماع عربي ومسلم, عدم شرعية تولي يزيد لخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل وعدم صلاحيته وعدم أهليته لتدبير أمور الدولة، وحكم السلطنة؟ وهم الذين يوقنون بفسقه، وأن موالاته مساس للنار، وركون للظالمين، ومخالفة صريحة لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ . وقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : ﴿من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنَّة رسول الله فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله﴾.
وهذا الشيخ الأزهري الشيخ محمد الخضري الذي يعتبر من كبار علماء الأزهر ولكنه كأسلافه ينعق بثقافة التضليل والتشويش والتبرير فيقول: " الحسين أخطأ خطأ عظيماً في خروجه هذا الذي جرَّ على الأمَّة وبال الفرقة وزعزع ألفتها إلى يومنا هذا"
ولازم هذا أن الإمام الحسين (عليه السلام) هو المسؤول عن جهل الأمة وانحرافها وضلالها وشقاقها وتمزقها، ويحمل على ظهره كل أوزارها وذنوبها ومعاصيها.
ولكن هل يقول الخضري أن معاوية أو طلحة أو الزبير أو عائشة أو أي صحابي خرج على الإمام علي (عليه السلام) أنه أخطأ خطأ عظيماً في خروجه على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مما جرَّ على الأمَّة وبال الفرقة، وزعزع ألفتها إلى يومنا هذا؟, فيكون طلحة والزبير وعائشة ومعاوية وبقية الصحابة الخارجين على الإمام علي (عليه السلام) هم المسؤولون عن ضلال الأمة وجهلها وانحرافها وشقاقها وتمزقها، ويحملون على ظهورهم كل أوزرها وذنوبها ومعاصيها, وبالتالي تسلم ساحة الإمام الحسين (عليه السلام) من التهمة والإدانة.
كان الأحرى بهذا الشيخ أن يصدع بالحق، ويُدِين أرباب السلطة السياسية, وهم الطغاة والظلمة الذين تسلطوا على رقاب هذه الأمَّة، ومعهم أرباب السلطة الدينية, وهم علماء البلاط، ووعاظ السلاطين الذين زوروا الحقائق، وحرفوا المفاهيم، وشوشوا الرؤى، ونظروا للسلاطين، وبرروا لهم الظلم والطغيان, هم دون سواهم مَنْ جرَّ على الأمَّة وبال الفرقة، وزعزع ألفتها إلى يومنا هذا.
وهذا مفتي الشام محمد أبو اليسر عابدين على سيرة أسلافه ينعق بقوله: " بيعة يزيد شرعية، ومن خرج عليه كان باغياً " ولازم هذا القول وجوب قتال الإمام الحسين (عليه السلام) تطبيقاً لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾.
ولا ريب أن أمر الله عند محمد أبو اليسر هو البيعة ليزيد شارب الخمر وقاتل النفس المحرمة, ولكن هل يصرح أبو اليسر بأن بيعة الإمام علي (عليه السلام) شرعية وأن معاوية وعائشة وطلحة والزبير و.. و.. الذين خرجوا على الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا بغاة ولم يفيؤا إلى أمر الله.
إن مَنْ يتتبع سيرة ما يسميهم أشباه الناس بالعلماء من وعاظ السلاطين، وعلماء البلاط يجد أن هؤلاء قد تعهدوا بحماية الطغاة والظلمة والجائرين والمستبدين من صراخ وأنين المضطهدين المستضعفين, واختزلت وظيفتهم في تعبيد الناس لأرباب السلطة السياسية، والنعيق بالتنظير والتفلسف لتبرير ظلم الظالمين، وجور الجائرين، وعدوان المعتدين، وطغيان الطاغين.
كل أولئك يوجهون سهام رماحهم لطعن نهج ومنهج الحسين (عليه السلام), وهم في نفس الوقت يُشمِّرون أقلامهم وألسنتهم ليبرروا خروج الناكثين والقاسطين والمارقين على الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) وخليفة رسول رب العالمين (صلى الله عليه وآله وسلم), بل ويختلقون المخارج لتبرءة ساحاتهم المتعفنة,ولو كان أمير المؤمنين (عليه السلام) طاغياً وحاشاه أن يكون كذلك – لما سلِم أولئك الناكثين والقاسطين والمارقين من أقلامهم الموبوءة، وألسنتهم النتنة, ولو خرج الإمام الحسين (عليه السلام) على حاكم عادل -وحاشاه أن يكون كذلك- لاختلقوا له التبريرات وأوجدوا له المخارج.
ولكن الأدهى والأمر حينما نجد مَنْ هو محسوب على أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وهم ضحايا هذه الفلسفة السلطوية، وهذا المنهج التبريري الذي يبرر للطاغي، ويدين المضطهدين، والمصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين نجد هؤلاء المهووسين يتبنون فلسفة الطاغي، ويمارسون منهجه, فيُشمِّرون عن أقلامهم ليبثون التزوير، ويدسون السموم، ويثيرون الشبهات في أذهان الضعفاء ضد المضطهدين، والمصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين ويتهمونهم بافتعال الأزمات، وجلب المشاكل، وسلب الأمن، ويحملوهم -بدلاً من الطاغي- بمساوئ الوضع, وبذلك يشاركون الطاغي في إدانة المضطهدين، والمصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين، بل ويمهدون للطاغي الطريق للبطش بهم.
وليت شعري أين هؤلاء من نهج أمير المؤمنين (عليه السلام) ؟ وماذا سيجيبونه؟ وهو ميزان العدل وقسيم الجنة والنار حين يسألهم لماذا خاصمتم المضطهدين المستضعفين، والمصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين، وتدَّعون أنكم لي شيعة وأتباع؟ وما شيعتي وأتباعي إلا مَنْ عمل بقولي: ﴿كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً﴾.
حقاً إنهم الورثة الجدد لأبي اللسلاس، وهم سامريوا الحاضر وامتداد أبي الحسن البصري، وببغاوات علماء البلاط، ونعاق الطغاة، وعاظ السلاطين، ولن تخلوا منهم الساحة إلا بعد حكم القائم عجل الله فرجه الشريف. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
--------------------------
* الهوس: هو خفة العقل والاضطراب في الفكر والحيرة في الموقف.
[1] جمع هامان.
[2] نديم يزيد وهو من المنافقين ويعد كعب الأحبار الثاني في الإسلام.
[3] القاضي الذي أفتى بإباحة دم سيد الشهداء (عليه السلام)
https://telegram.me/buratha