n من النائيني الى السيستاني:
في بداية القرن الماضي وعندما انطلقت أهم حركة سياسية عرفتها إيران، والتي أطلق عليها اسم "المشروطة" للمطالبة بوضع دستور للبلد وإقامة نظام نيابي للحد من استبداد الشاه، كان الشيخ النائيني الذي استلم مقاليد المرجعية بعد ذلك، من أهم وأكبر الدعاة الذين ساندوا هذه الحركة ودعموها ليس بالمواقف والفتاوى بل بكتابة اهم كتاب أصّل للمشروطة ودافع عن الحكم الدستوري، ونعني به (تنبيه الأمة وتنزيه الملة). في هذا الكتاب الذي اعتبره عدد من الكتاب والمؤرخين اللبنة الأولى التي انطلق منها وتأسس عليها الفكر السياسي الشيعي الحديث والمعاصر نجد تحليلاً دقيقاً للاستبداد وكشفاً لمساوئه. ودفاعاً عن حقوق الأمة السياسية.
لقد اكتشف الشيخ النائيني تجذر الاستبداد السياسي في وجدان الأمة ومفاصلها الاجتماعية والثقافية والدينية. وصعوبة اقتلاعه بين عشية وضحاها، لذلك جاء دفاعه عن الحكم المشروط والمقيد إيماناً منه بأن تقييد الاستبداد بالدستور والبرلمان ومراقبة الشعب للحكومة ومشاركته في انتخاب نوابه هو مرحلة ومحطة أولى وأساسية للقضاء على الاستبداد من حياة الأمة.
إنّ الحاكم المطلق (أي الشاه) وغيره من المستبدين يغتصبون في آن معاً منصب الإمام الغائب عليه السلام وحقوق الناس والشعب، وإذا كان إنهاء اغتصاب منصب الإمام الغائب، مرتبطاً بظهوره يوماً ما ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وهذا اليوم في علم وحكمة الله عز وجل، فإن إنهاء اغتصاب حقوق الناس والشعب موكول اليهم (فبإمكانهم لو أرادوا) ان يتحرروا من هذا الاستعباد الذي فرض عليهم الظلمة عبر العصور حتى ظنوا (لجهلهم) أنه قضاء وقدر وهو ليس كذلك.
من هنا انطلق الشيخ النائيني ليصب جام غضبه على جهل الناس وليرفع صوته عالياً منادياً بضرورة التحرر من الاستبداد السياسي، عن طريق إيجاد دستور مكتوب على غرار المسائل والفتاوى الشرعية، ينص فيه كاتبوه وواضعوه على جميع حقوق الرعية وخصوصاً السياسية منها، لكي يعرف الكل حقوق الحاكم والسلطات السياسية الأخرى وصلاحيات هذه السلطات في مجالات التشريع والتنفيذ والحكم، ويكون الشعب وأفراده على بيّنة من حقوقهم كافة.
لقد تحدث الشيخ النائيني مطولاً عن مشروعية النظام النيابي، وضرورة إحكام المراقبة والمحاسبة من طرف مندوبي الشعب على السلطات الحاكمة، وقدم تأصيلاً شرعياً متميزاً لتحديد السلطة، وأهمية الشورى في الحكم، وردّ على جميع المغالطات التي كان يروج لها الشاه وأتباعه من المفكرين ورجال الدين المستفيدين من الاستبداد، لتشويه صورة الحكم المشروط أو المقيد، وخصوصاً مغالطة الجميع بين التحرر من الاستبداد السياسي والتحرر من أحكام الشريعة، أو الإدعاء بأن المطالبة بإيجاد دستور يتنافى مع وجود القرآن الكريم والسنة النبوية لدى المسلمين وهما دستورهما الشرعي، وكذلك الشبهة المتعلقة بعمل النواب وصلاحيتهم التشريعية، وكما قلنا فند الشيخ النائيني كل هذه المغالطات والشبهات وقدم خطة متكاملة لعلاج الاستبداد السياسي والقضاء عليه، ولم يكتف بالتنظير بل شارك في دعم حركة المشروطة بكل ما أوتي من جهد وقوة. وإذا حالت الظروف والملابسات التي أحاطت معركة المشروطة دون نجاح هذه التجربة السياسية كما نظّر لها الشيخ النائيني، إلا أن جهوده التنظيرية لم تذهب سدى، لأن التراكمات على المستويين الفكري والواقائعي أسفرت عن تطور مهم ومرحلة جديدة، بل محطة أساسية في تطور الفكر السياسي الشيعي، فإذا كانت مطالب الشيخ النائيني في بداية القرن الماضي لم تتجاوز الدعوة والمطالبة بتقييد الاستبداد بالدستور والمجلس النيابي، واكتفاء الفقيه أو الفقهاء بمراقبة السلطة التشريعية كي لا تخالف تشريعاتها الأحكام والمبادئ الإسلامية، فإن الفقيه والمرجع روح الله الموسوي الخميني، سيطالب بإلغاء الاستبداد السياسي جملة وتفصيلاً وإقامة نظام إسلامي يتولى فيه الفقيه المرجع، السلطة والولاية السياسية ويشرف على تطبيق الشريعة الإسلامية وإدارة الحكم، وبذلك أنهى الإمام السيد الخميني قدّس سرّه حقبة طويلة من الانتظار السلبي، لينقلب على النظرية التقليدية التي لا تعتقد بشريعة أي عمل أو تحرك سياسي من أجل إقامة دولة إسلامية زمن الغيبة. وبذلك (وسع نجاح الثورة الإسلامية في إيران) كان الفكر السياسي الشيعي على موعد مع محطة جديدة ونقلة نوعية أخرى، من المطالبة بتقييد الاستبداد الى القضاء عليه، ومن المشاركة المحدودة للفقهاء في البرلمان لصفة مراقب، الى استلام الحكم وإدارة الدولة مباشرة ولا تزال التجربة قيد المراقبة والاختبار، وقد حققت الكثير من الإنجازات وسط بحر من التحديات الداخلية والخارجية، والتاريخ كفيل بالحكم عليها.
n العراق الجريح وموقف المرجعية:
لن نخوض في تفاصيل الشأن العراقي، قبل صدّام وبعد الإطاحة به واحتلال العراق فهي معروفة لدى الكل. فالفضائيات العربية والغربية تنقل أخبار العراق لحظة بلحظة، لكن ما يهمنا هنا هو موقف المرجعية الشيعية وبالخصوص موقف المرجع الديني الأعلى الإمام السيد علي السيستاني الذي تربع على كرسي المرجعية في النجف الأشرف بعد وفاة الإمام السيد الخوئي قدّس سرّه وفي ظروف سياسية بالغة التعقيد، حيث خرج العراق من حربه ضد إيران منهكاً ومدمراً اقتصادياً ليتورط في حرب أخرى مع الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، زادته إنهاكاً وتدميراً، ثم تلتها سنوات من الحصار الاقتصادي أكلت الأخضر واليابس في العراق لتنتهي باستعماره واحتلال أراضيه.
على طول هذه السنوات ورغم ما شهده العراق من أحداث جسام كان صوت المرجعية خافتاً باستثناء شهرة الإمام السيد الخوئي ومرجعيته التي بلغت الآفاق، وقد وجهت للنجف الكثير من الانتقادات واتهم علماؤها (البعض منهم وليس كلهم) بالسلبية وقلة الفاعلية، لكن المطلع على حقائق الأمور يعرف أن صدام لم يترك للحوزة العلمية أي مجال للتحرك، بل كان يتعامل مع علمائها وطلبتها تعامل الحجاج بن يوسف الثقفي مع أعداء بني أمية، فقد كان يقتل على الظن ويتهم القلوب وما تخفي الصدور، بل إن صدام كان مستعداً لإبادة المناطق الشيعية برمتها وهدم النجف الأشرف على رؤوس ساكنيها، علماء وعامة، وهذا ما ظهر بوضوح في ثورة الجنوب سنة (1991 م).
لذلك تصرفت الحوزة العلمية وعلماؤها حسب ما تمليه عليهم ظروفهم القاسية، حفاظاً على النفس من جهة وحفاظاً على الحوزة العلمية وتراثها العلمي ومآثرها ومراقد الأئمة الأطهار ، ومع ذلك كله فإن مسلسل الاغتيالات للعلماء والمراجع لم يتوقف أبداً، فقد استشهد عدد من كبار العلماء وهجّر البعض الآخر، ودمّرت البيوت والحسينيات بل قصفت مراقد الأئمة الأطهار كذلك
هذا الموقف السلبي للمرجعية من الأحداث الداخلية والخارجية سرعان ما بدأ يتغير بعد سقوط نظام صدام واحتلال العراق، حيث توجه الكل صوب المرجعية الدينية الأهلية ومواجهة الاستعمار الأمريكي، مما كان من المرجعية (ممثلة في الإمام السيد علي السيستاني) إلا ان لبّت نداء الجموع التي تقاطرت على ذلك البيت المتواضع في النجف الأشرف مطالبة بالمساعدة والتدخل، وخلافاً لكل التوقعات كان رد فعل المرجعية إيجابياً الى حد كبير، فقد أخذ السيستاني زمام المبادرة وبدأ فعلاً في توجيه الرأي العام العراقي، بفتاواه وآرائه الحكيمة التي ساعدت العراقيين على الخروج من صدمة الانتقال من فترة الاضطهاد الصدامي الى فترة الحرية المقيدة والمشروطة في ظل الاحتلال الامريكي.
لقد كان لتدخل المرجعية والتفاف العراقيين حولها دلالات عدة، يمكن الإشارة الى أهمها:
فاستنجاد العراقيين بالمرجعية وثقتهم المطلقة بها، وحرصهم على الرجوع إليها والخضوع لآرائها، يؤكد المكانة التي لا تزال تحظى بها المرجعية الدينية في العراق، رغم ما تعرض له من تهميش ومضايقات لفصلها عن الواقع والقضاء على روابطها الاجتماعية والتخفيف من تأثيرها وقدرتها على التوجيه، وهذا بدوره يؤكد ان المرجعية الدينية لا يمكن القضاء عليها أو إسكات صوتها الى الأبد، بل أنها تتحين الفرصة فقط للإدلاء بدلوها في كل ما يتعلق بمجتمعها وقضاياه المصيرية، من جهة أخرى أثبتت المرجعية الدينية ومن خلال تعاطي السيد السيستاني مع الأحداث المحلية أن الموقف التقليدي للمرجعية من العمل السياسي هو موقف مرن، فعندما تتعرض الأمة للخطر تتصرف المرجعية بمسؤولية وبما يمليه عليها الواجب الشرعي، وهكذا كان موقف أئمة أهل البيت ، رغم موقفهم من السلطة غير الشرعية والمغتصبة لحقهم، لذلك فالذين تفاجؤوا بموقف المرجعية الرائد لا يقرؤون التاريخ، فالمرجعية لم تغير رأيها بل هي منسجمة مع مبادئها وقيمها وهذا ما كشف عنه الإمام السيستاني.
الأمر الآخر الذي فاجأ المراقبين والمحللين سواء داخل العراق أو خارجه وحتى في الأوساط الدولية، سرعة تعاطي المرجعية الدينية مع الشأن السياسي بحكمة وواقعية، كشف عن انفتاحها على قضايا العصر ومعرفتها الدقيقة بملابسات الشأن الداخلي وعلى جميع المستويات، وكذلك إطلاعها على الوضع العالمي وتعقيداته، في الوقت الذي كان البعض يعتقد أن المرجعية تعيش في برجها العالي و أن لا علاقة لها بالواقع.
n تحرك المرجعية على أرض الواقع:
تحرك آية الله العظمى الإمام السيد السيستاني بأناة وحكمة ورويّة، نأت به من تأييد الاحتلال الأمريكي ناهيك بالتعاون والتنسيق، حتى أنه رفض مقابلة أي مسؤول أمريكي ما دام الاحتلال قائماً، ولكن في الوقت نفسه أعلن ان المقاومة يجب ان تكون سلمية، وأبى ان يدفع الشيعة لحمل السلاح في معركة يجني أعداؤهم ثمارها، كما فعل غيره، لم تحكمه عقدة "الشعارات" ولا انخدع باللافتات والعناوين الوهمية، ولا انبهر بتسليط الأضواء والظهور على شاشات التلفزة والإعلام، ولا اختزل الآخرين في شخصيته ليصبح بطل الخط وخط البطل، ولا سعى لبطولات فارغة تطرى شجاعته وجهاده وما الى ذلك بل عاش المسؤولية فكان خيمة تظلل على الجميع ومارس الحس الأبوي بتمام معناه... فدماء الأبناء أغلى ما يكون، ولا يجوز تسخيرها في معارك وجهات وهمية لا مردود من ورائها إلا ثناء الفضائيات العربية ورضا بعض التيارات المتشددة! فـ "المؤمن" وحرمته أعظم ما يهم الإمام السيستاني، وهو ينظر الى كل مسلم على أنه ابن له، يحرص على سلامته لا الجسدية فقط، بل حتى الروحية والأخلاقية، فلا يذهب بولائه شرقاً ولا غرباً. لذا لم يتاجر بدماء المؤمنين ولم يسمح لنفسه ان يجعل من معارك وحروب تراق فيها الدماء، أوراقاً تلقى على مائدة اللعبة السياسية.
لم يلج الإمام السيستاني الميدان السياسي إلا بهمّة العظيم المتعالي على صغائر الأمور وجزئياتها، حيث اكتفى بالكليات والخطاب العام الذي لا تتجاوز محاوره: رفض الاحتلال عبر المقاومة السلمية، والدعوة للانتخابات، وصياغة دستور إدارة الدولة العراقية، وبين هذا وذاك دعوة علماء الدين للابتعاد عن الخوض في الشأن السياسي، وترك هذا الميدان لغيرهم فالتجربة الإيرانية تلقي بظلالها، وتداعيات الموقف الدولي تحتم تحركاً يفصل شيعة العراق فصلاً تاماً عن النظام الإيراني على مختلف الأصعدة، بدءً من الارتباط التنظيمي، وانتهاءً بالجانب التنظيري والفكري الذي يستلهم التجربة الإيرانية
وعندما دعاه الداعي وألحّ في طلبه حتى شكّل واجباً متعيناً... مضى آية الله الإمام السيد السيستاني بثبات ووقار، كالجبل الأشم لا تهزه العواصف، وراح يقود المعركة من داره المتواضعة، كربّان خبير، يدير دفة سفينة في بحر متلاطم، ويصارع أعتى الأمواج، ينشر شراعاً هنا، ويطوي آخر هناك، يلقي ببعض الحمولة تارة ليقي سفينته ريحاً هوجاء، ويسرع تارة أخرى ليقطع طريق العصيان والهلاك على بعض البحارة حيث يصرون على أن ترسو السفينة في جزيرة لاحت لهم أو ميناء خادع مرّوا به!
ولم تكن الأحداث قد كشفت حقيقة الدور الذي ينهض به هذا السيد الجليل حين قارب نهاياته، فلا حب ظهور هنا، ولا عقد شهرة كالتي تحكم بعض السياسيين والدنيويين! عندما نزلت به الأزمة القلبية واقتضى الأمر سفره الى الخارج للعلاج وقعت أزمة حصار النجف الأشرف من قبل القوات الأمريكية والحكومية، إثر تمادي التيار الصدري وتحصنه في الصحن الحيدري الشريف، فقطع السيد دام ظله فترة نقاهته وراحته بعد العلاج وعاد مسرعاً الى العراق، ولكن بتكتيك أربك من كان يبيّت الشر بالنجف الأشرف عامداً أو جاهلاً، وأزعج غيرهم ممن لم يكن يعبأ بالدماء والمقدسات.
نزل البصرة قادماً من الكويت، وعبئ العشائر ودعاهم للإلتحاق بركبه، وأعلن أنه سيزحف بجموع الجماهير باتجاه النجف الأشرف ليفك حصارها، ويخرج المتمردين منها.. ورغم السعي الحثيث لثنيه عن هذا الموقف بشتى الذرائع والأعذار ومنها الخطر الذي يتهدّده، تقدّم بإصرار لم يملك أمامه كلا الطرفين المتصارعين إلا القبول والنزول على رأي السيد.
دخل النجف الأشرف، بل فتحها، وأنهى الأزمة وحال دون مجزرة كانت ستردي بالآلاف، وستدمر أشرف العتبات الشيعية، مرقد أمير المؤمنين عليه السلام، وعاد ليخوض المعركة السياسية من جديد، وكان فصلها التالي تحديد موعد الانتخابات للجمعية الوطنية التي ستدون الدستور العراقي، وتشكيل الحكومة المنتخبة التي ستجلي الاحتلال، وهنا بدأ السعي المعاكس مرة أخرى لتأجيل موعد الانتخابات، وراحت الضغوط لتبلغ حداً خيالياً زعزع الجميع فكاد يثنيهم، الا ان سماحة الامام السيستاني أصر، ودفع في هذا الطريق، حتى لم تجد الحكومة المؤقتة وقوات الاحتلال بداً من العمل بالموعد المقرر، وعندما أصدر حكمه التاريخي بوجوب المشاركة في الانتخابات وإلزام كل مكلف بها، حتى النساء، وعاد من جديد، حين وجد ان الأمر في طريقه للفلتان والضياع، وان تضحيات القبور الجماعية، ودماء الشهداء، وما لا يحصى من المعاناة ستضيع في معترك الصراع الحزبي والفئوي.. ليأمر بلجنة للتنسيق والتآلف، ثم تدخل بكلمات مقتضبة، أنارت الطريق للأمة الملتزمة ولم تترك المؤمنين في تيه: "التصويت لقائمة الائتلاف العراقي مبرئ للذمة".
وكانت الاستجابة الشعبية رقماً أذهل العدو والصديق، وعلى امتداد هذه الخطوات المصيرية، كابد الإمام السيستاني وجاهد بصبر وتحمّل أذهل الجميع، وهو يأبى على الجماعات والعشائر الشيعية الرد على الاستفزازات الطائفية التي بلغت حد القتل على الهوية، وكان يحرم الانتقام! فأنجى البلاد من الفتنة والحرب الأهلية، وحصّن ذمم الشيعة من الخوض في دماء أهل السنة، فالانتقام لم يكن ليتوجه الى القتلة بطبيعة الحال، بل كان سيأخذ منحاً طائفياً وعشائرياً ظالماً، وظل مصراً على الصيغة الحضارية والعقلائية المتمثلة بترك الأمر للدولة والسلطات المختصة حتى تأخذ إجراءاتها.
بعد هذا التحرك الواعي والمتزن وهذه المواقف الحكيمة يحق لنا أن نتساءل: كيف ملك هذا الرجل القلوب؟ ماذا كان الشعب سيفعل لو كانت الأمور بيد غيره؟ إلى أين كان سينتهي الصراع السياسي الداخلي؟
إنه نموذج لمن تربّى في مدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، فنهل من علوم الحوزة العلمية، فقهاً، وأصولاً، وفكراً، مكنته وهيأته لفهم أدق الحركات الاجتماعية، والتحركات السياسية المعقدة... وتزوّد من التقوى والورع ما ألهمه بصيرة نافذة، وحباه حنكة وحكمة، فأصبح إماماً للحرية والمحبة والتسامح والحوار والسلام.
n أساسيات المشروع السياسي لدى الإمام السيستاني:
لا يمكن الحديث الآن عن مشروع سياسي متكامل قدمته المرجعية إلا أن مواقفها وفتاواها وتعاطيها الإيجابي مع الواقع كشف عن ملامح مشروع سياسي في طريقه للتبلور. فعلى مستوى شخص المرجع نرى أن الإمام السيستاني كما يقول الكاتب الأستاذ عمار البغدادي: ينتمي الى المرجعيات المتحركة التي تستجيب لمتطلبات العصر وأسئلته الاستثنائية وضغطه المتواصل، كما مقتضيات الزمان والمكان، وتلاحق المستجدات والمتغيرات، وتلك هي المهمة الحقيقية الملقاة على عاتق المرجعيات المرجعيات الدينية القيادية الكبيرة 2 .
v الحرص على مصلحة الشعب العراقي أولاً وأخيراً، والتشخيص الدقيق لاحتياجات المرحلة، لذلك نجده يحرص على قيام الدولة ومؤسساتها، باعتبار ذلك يحقق استمرارية الشعب وبقائه موحداً.
v الحرص على الانتخابات الشعبية النزيهة، ليتمكن الشعب من انتخاب حكامه وبذلك يتجاوز مشاكل وأزمات الشرعية السياسية التي عانى منها النظام السابق، وهذه الحكومة المنتخبة والشرعية هي التي ستنجز الاستقلال الكامل وتجنب البلاد كل المشاكل التي قد تترتب عن عدم وجود حكومة شرعية يعترف بها الشعب ويدعمها، وتستطيع أن تجعل الاستعمار الغربي يستمع لها، باعتبارها حكومة شرعية.
v موقفه الحكيم من الصراعات المحلية، فهو لم يقف مع طرف ضد طرف سياسي او طائفي وانما احتفظ بنفس المسافة تجاه التيارات العراقية المختلقة، وهذا الموقف لا ينطلق من فراغ او مجرد موقف سياسي يواكب المرحلة الحرجة من تاريخ العراق، وانما ينطلق من إيمانه بالاختلاف والتعددية سواء داخل الوسط الشيعي أو خارجه.
v موقفه المتميز من الطائفية، فقد حرص منذ البداية على حماية الشيعة والسنة من أخطار الفتن الطائفية التي تحاول بعض الجهات الخارجية تأصيلها وتكريسها في أواسطهم ومما قاله المرجع الإمام السيستاني للدكتور عبد الحميد أنه لو تم اغتياله في النجف الأشرف على يد رجل سني، فلا يفترض ان يعلن هذا الخبر على الملأ ويستفيد منه أعداء الوحدة الإسلامية وأعداء الشيعة والسنة في العراق 3 .
لذلك فقد حافظ على هدوئه وطالب بضبط النفس وعدم الانجرار وراء القتل والانتقام وهو يسمع ويشاهد المجازر اليومية التي يتعرض لها الشيعة وقياداتهم الدينية والسياسية، وقد طالت هذه الاغتيالات بعض المقربين منه، لكن ذلك لم يغير من رأيه في مواجهة الطائفية البغيضة وعدم السقوط في أوحالها، لأن أي حرب أهلية ستعطي للمستعمر المبررات للبقاء أطول.
v إيمانه بالحوار الموضوعي الصادق والواقعي كوسيلة لحل جميع الخلافات بين العراقيين السياسية منها وغير السياسية، وان يلامس ويعالج هذا الحوار كافة القضايا والمشكلات العقلية، وطي صفحة الماضي وأساليبه التي كان يستخدمها ضد المخالفين له في الرأي، أي الإقصاء والاغتيالات.
v دعوته الى ان يكون الانتماء السياسي انتماء للوطن ولقضايا المجتمع والدولة، والى ترسيخ الوحدة الوطنية على قاعدة القيم والأخلاق والمبادئ، وليس على قاعدة الحصص والمكاسب الفئوية، على قاعدة التزام كل فريق بالآخر، بما له من مخاوف وآلام، والتزام الكل بالكل، بالحقوق المتساوية للجميع، والواجبات المتساوية للجميع، والكرامة للجميع.
هذه بعض ملامح المشروع السياسي للمرجعية الدينية في العراق، وقد كشفته النتائج الأولية لتطبيق بنوده عن صوابية آرائه وصحة تشخيصه للوضع العراقي واحتياجاته، فقد تمت الانتخابات بكثافة وإقبال حيّر المراقبين، كل ذلك بفضل دعوات الإمام السيستاني الشعب للمشاركة في هذه الانتخابات واختيار مندوبيهم في المجلس الوطني، كما انبثقت عن هذه الانتخابات حكومة شرعية تمثل العراقيين جميعاً، وقد بدأت بمعالجة الملفات الشائكة التي ورثها عن النظام البائد، كما بدأت مفاوضاتها مع المستعمر لجدولة خروجه من العراق...
لكن لا يمكن الحكم على مشروع المرجعية هذا الا بعد فترة طويلة تكون ملامحه فيها قد اكتملت وتكون نتائجه كذلك قد كشفت عن نفسها، فالتاريخ وحده هو الحكم وهو الذي سيقول رأيه في نجاح او فشل هذا المشروع، كما يقدم التقييم الحقيقي له بعيداً عن التأثيرات العاطفية الآنية سواء كانت إيجابية ام سلبية.
.............................................................................................................................
[1] كاتب سعودي، رئيس تحرير مجلة الساحل.
2 لمحات من حياة الإمام السيستاني: فقيه عصر ورجل سياسة، عمار البغدادي، دار قمر العشيرة، بيروت، لبنان ط1/2004، ص 18.
3 معركة النجف: دراسة تحليلية في اتفاق النجف ودور الامام السيستاني في صياغته وإبرامه، عمار البغدادي، البداية للأبحاث والدراسات السياسية، بيروت، لبنان، ط1/2005، ص8.
23/5/13225
https://telegram.me/buratha