على الرغم من كون مسألة الإمامة مبحثاً قديماً، بل هي أول مسألة خلافية واجهت المسلمين بعد وفاة نبيِّهم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما يذكر الأشعري(1) ـ (وأعظم خلاف بين الأمّة .. إذ ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان) على حدِّ قول الشهرستاني(2)، إلاّ أنها لا تزال تحتلّ أهمية كبيرة في حياتنا الراهنة، وتشكِّل الركيزة الأساس في التأسيس للفكر السياسي الإسلامي المعاصر.
لذلك، لا تستهدف هذه الدراسة المقارنة لمفهوم الإمامة بين المذاهب الإسلامية نبش الخلافات القديمة ، وإثارة النعرات والأحقاد الدفينة، إنما تسعى إلى طرح هذه المسألة الخلافية ـ الإمامة ـ على بساط البحث الموضوعي الهادئ، محاولة أن تساهم في التأسيس لنظرية سياسية إسلامية تستند إلى نصوص الشريعة السمحاء ، وتتلاءم مع مقتضيات العصر وتطوّرات الحضارة الإنسانية لا سيما في ميدان الفكر السياسي.
الإمامة في اللغة:
جاء في القاموس المحيط للفيروزآبادي:
أن الإمامة مصدرها فعل (أمَّ) إذ يُقال: (أمّهم وأمَّ بهم: تقدّمهم) , وهي الإمامة، والإمام: كلما ائتُم به من رئيس أو غيره(3).
أمّا في لسان العرب، فيقول ابن منظور: (الإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالّين، .. والجمع أئمة، .. والقرآن إمام المسلمين، وسيِّدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، وإمام الجند قائدهم،.. وائتم به: اقتدى به.
والإمام هو المثال.. والإمام الطريق...)(4).
ويقول الزبيدي في تاج العروس:
(والدليل إمام السفر، والحادي: إمام الإبل ، وإن كان وراءها لأنه الهادي لها...)(5).
وخلاصة هذه التعريفات المتقاربة أن الإمام هو الذي يتقدّم القوم، فيأتمون به، ويتّخذونه مثالاً يقتدون به، فيكون هادياً لهم إلى الطريق، فهو إذاً رئيس القوم وقائدهم.
الإمامة في الكتاب والسنّة:
ورد لفظ (الإمام) في القرآن الكريم بصيغة الإفراد ، وبصيغة الجمع في عدة مواضع منها:
( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً . . . ) البقرة/ 124.
( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا . . . ) السجدة/ 24.
(يَوْمَ نَدْعُوا كُلّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ . . . ) الإسراء/ 71.
( . . . وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) القصص/ 5 .
( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ ) القصص/ 41 .
أما في الحديث النبوي الشريف فقد ورد لفظ الإمام في مواطن كثيرة أبرزها:
(( من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية ))(6).
الإمامة في الاصطلاح:
ثمة تعريفات كثيرة للإمامة تختلف في اللفظ أو في الدلالة والمعنى، ولئن تعددت تعريفات علماء أهل السنّة (واختلفت في الألفاظ فهي متقاربة في المعاني)(7)، لكن الاختلاف الجوهري في تعريف مفهوم الإمامة هو بين علماء السنّة من جهة وأئمة علماء الشيعة من جهة أخرى.
وفيما يلي بعض ابرز تعريفات علماء السنّة لمفهوم الإمامة.
يعتبر الماوردي (364 ـ 450هـ) ـ وهو أول من صاغ النظرية السياسية الإسلامية عند أهل السنّة ـ
أنّ (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا...)(8) .
ويذهب إمام الحرَمَين الجويني إلى أنّ الإمامة (رياسة تامة، وزعامة تتعلّق بالخاصة والعامة في مهمّات الدين والدنيا)(9).
ويعرّفها الإيجي بأنها (خلافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في إمامة الدين...)(10) .
أمّا ابن خلدون فيقول: (وإذ قد بيَّنا حقيقة هذا المنصب وأنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين، وسياسة الدنيا به تسمَّى خلافة وإمامة، والقائم به خليفة وإماماً)(11) .
ويذهب محمد رشيد رضا إلى الرأي نفسه، فيعتبر أنّ (الخلافة والإمامة العظمى وإمارة المؤمنين ثلاث كلمات معناها واحد)(12).
ونرى أن ثمة ترادفاً بين ألفاظ الإمامة والخلافة وإمارة المؤمنين عند أهل السنّة(13).
فالنووي يُجوِّز (أن يقال للإمام: الخليفة والإمام وأمير المؤمنين)(14) .
ويوافقه ابن خلدون(15) ومحمد رشيد رضا(16) .
ويُفسّر الشيخ محمد أبو زهرة ذلك الترادف بقوله: (المذاهب السياسية كلها تدور حول الخلافة وهي الإمامة الكبرى، وسمّيت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في إدارة شؤونهم، وتُسمّى إمامة لأن الخليفة كان يُسمّى إماماً ولأن طاعته واجبة...)(17).
وهكذا أخذت الإمامة عند أهل السنّة معنىً اصطلاحياً، فقصد بالإمام: (خليفة المسلمين وحاكمهم)، فلم يفرّقوا بين لقبَي الخليفة والإمام(18).
أمّا بالنسبة إلى الشيعة (الاثني عشرية)، فإن الإمامة عندهم أصل من أصول الدين، و(حجر الزاوية في المذهب الشيعي)(19).
ولعلّ أفضل تعريف نجده في ما ينسب من القول إلى الإمام الثامن علي الرضا (عليه السلام):
(( إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء، إن الإمامة هي خلافة الله وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، . . ، إن الإمامة هي زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، الإمامة رأس الإسلام النامي وفرعه السامي ، وبالإمامة تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف ، الإمام يُحلُّ حلال الله ويُحرّم حرام الله ويقيم حدود الله ويذبّ عن دين الله، الإمام (هو) المُطهَّر من الذنوب والمبرّأ من العيوب المخصوص بالعلم المرسوم بالحلم، الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب ولا اكتساب، بل اختصاص من المتفضّل الوهّاب . . . ))(20).
اختلاف مفهوم الإمامة بين السنّة والشيعة:
يختلف مفهوم الإمامة عند الشيعة عن مفهوم الإمامة والخلافة عند أهل السنّة كما اتّضح.
لأن الإمامة عند السنّة: (خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به)، أي نيابة عن النبي في سلطته الزمنية دون الدينية، وبالتالي ليس للخليفة صلاحيات الرسول في التشريع، والأحكام التي تصدر عنه اجتهادية لا إلهية(21).
بينما الإمامة عند الشيعة: (خلافة الله وخلافة رسوله) ومنزلتها (منزلة الأنبياء) وهي (إرث الأوصياء).
وعليه فإن الإمام يخلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سلطتيه الدينية والسياسية، أي له صلاحيات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في التشريع، والأحكام التي تصدر عنه هي أحكام إلهية وليست اجتهادية، فهو يحلّ حلال الله ويحرّم حرامه(22).
وعليه يجب أن يكون الإمام كالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوماً عن الذنوب والأخطاء ومخصوصاً بالعلم الإلهي لكي يكون حجّة على العباد، وهادياً لهم، ومؤيداً من الله، وعالماً بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور دينهم ودنياهم.
ويلزم من ذلك أن الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه من الله ورسوله.
ويستدل الشيعة على النصّ على الإمام بآيات من القرآن الكريم:
( وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ . . . ) القصص/ 68 .
( . . . قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً . . . ) البقرة/ 124.
( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً ) الفرقان/74.
( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا . . . ) الأنبياء/ 73.
( . . . وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) القصص/ 5.
( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) السجدة/ 24 .
فهذه الآيات تشير إلى أن الله هو الذي يجعل أو يختار الإمام أو الأئمة للناس .
أما عصمة الإمام فيستدل الشيعة عليها بالآية القرآنية التي يخاطب الله بها النبي إبراهيم (عليه السلام) وهي : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) البقرة/ 124.
إذ قيَّد الإمامة (عهد الله) بعدم الظلم، والمعصية ظلم، وبالتالي يجب أن يكون الإمام معصوماً من جميع المعاصي حتى ينال عهد الله ، أي الإمامة .
ويذهب العلاّمة الطباطبائي إلى أن معنى الإمامة هو غير معاني الخلافة والرئاسة والوصاية.
ففي رأيه أن الإمامة التي جعلها الله لنبيِّه إبراهيم (عليه السلام) (هي كون الإنسان بحيث يقتدي به غيره) في تقليد أفعاله وأقواله .
ويلاحظ السيد الطباطبائي أن الله تعالى كلما تعرَّض في محكم كتابه إلى (معنى الإمامة تعرّض معها للهداية تعرُّض التفسير)، ويستشهد بعدة آيات على ذلك منها:
( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا...) الأنبياء/ 72 ـ 73.( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) السجدة / 24 .
فهو سبحانه قد وصف الإمامة بالهداية وصف تعريف ، ثم قيَّدها بالأمر، فبيَّن أنّ الإمامة ليست مطلق الهداية، بل هي الهداية التي تقع بأمر الله . . . ) .
إذاً فالإمام هو (هادٍ يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه)، لأنه (هو الذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر، كما يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحياة وباطنها...) .
ويستدلّ بقوله تعالى: ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ . . . ) الإسراء/ 71 .
لذلك يشترط في الإمام أن يكون مهتدياً بنفسه لا بغيره ، إذ يقول تعالى:
( . . . أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدّي إِلّا أَن يُهْدَي . . . ) يونس/ 35 .
ويستنتج السيد الطباطبائي (أن الإمام يجب أن يكون معص
https://telegram.me/buratha