كانت منطقة الكوفة ملتقى لثقافات متعددة بما فيها الثقافة الإسلامية العربية الوافدة إليها بعد تمصير الكوفة ، وقد نزل الكوفة بعد تمصيرها عدد من الصحابة الذين كان كثير منهم ذا معرفة بكتاب الله وسنة رسوله ، قال ابن سعد : (هبط الكوفة ثلاثمائة من أصحاب الشجرة وسبعون من أهل بدر .. وكان عمار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود من بين هؤلاء ، وكان ابن مسعود من مشاهير علماء عصره ، وقد وصفه عمر بن الخطاب بسعة العلم ، وقال : (آثرت أهل الكوفة بعبد الله على نفسي) .
وكتب إلى أهل الكوفة يقول : (بعثت إليكم بعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا .. فخذوا عنه) .
وقد اشتغل ابن مسعود بإقراء القرآن وتفسيره ورواية الحديث ، روى الطبري : أن شخصا اسمه مسروق ، قال : (كان عبد الله (بن مسعود) يقرأ علينا السورة ، ثم يحدثنا فيها ويفسرها عامة النهار) ، ويظهر أن جهود ابن مسعود في التعليم والرواية أثمرت بصورة جيدة ، وذات مرة قال إبراهيم التيمي : (كان فينا ستون شيخا من أصحاب عبد الله) .
كما أن عبد الله بن مسعود أصبح صاحب طريقة خاصة به في قراءة القرآن ، ثم كان لوجوده في الكوفة أثر في شيوع طريقته تلك بالعراق ، فكان العراقيون حسب رواية الطبري يقرؤون بقراءة ابن مسعود ، بينما أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب) .
ويظهر أن آراء ابن مسعود في التفسير والإقراء كانت متقاربة مع آراء علي بن أبي طالب ، إذ : كان أصدق الناس عند الناس على علي أصحاب عبد الله) .
وبعد أن جعل علي (عليه السلام) الكوفة قاعدة خلافته عمل هو وعدد من أصحابه على نشر الثقافة الإسلامية فيها ، وكان علي (عليه السلام) على أغلب الروايات أكثر الصحابة علما وأغزرهم معرفة بالقرآن والسنة .
وسمع علي مرة يقول : (لو سألتموني عن أية آية في ليل نزلت أو في نهار أنزلت ، مكيها ومدنيها ، وسفريها وحضريها ، ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم ..) .
ووصف الخليل بن أحمد الفراهيدي عليا بأنه : أعلم الصحابة ، ويقول ابن شهر آشوب : أن القراء السبعة إلى قراءة علي يرجعون ، وأن حمزة والكسائي يعولان على قراءة علي وابن مسعود ، وليس مصحفهما مصحف ابن مسعود ، فهما إنما يرجعان إلى علي ويوافقان ابن مسعود فيما يجري من الأعراب ، وقد قال : (ابن مسعود : ما رأيت أحدا أقرأ من علي بن أبي طالب للقرآن) .
وأما عاصم فقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي ، وقال أبو عبد الرحمن السلمي : (قرأت القرآن كله على علي بن أبي طالب ، فقالوا أفصح القراءات قراءة عاصم ، لأنه أتى بالأصل وذلك أنه يظهر ما أدغمه غيره ويحقق من الهمز ما لينه غيره ، ويفتح من الألفات ما أماله غيره) .
ونال علي (علي السلام) فضلا عن ذلك شهرة واسعة في الفقه ، وقد أورد المفيد وابن شهر آشوب طائفة من قضاياه وفتاواه الفقهية ، وتأثر جماعة من فقهاء الأجيال اللاحقة في الكوفة بآراء علي الفقهية .
قال ابن شهر آشوب : (أما الكوفة وفقهاؤهم سفيان الثوري ، والحسين بن صالح بن حي ، وشريك بن عبد الله ، وابن أبي ليلى ، وهؤلاء يفرعون المسائل ويقولون هذا قياس قول علي ، ويترجمون الأبواب بذلك) .
وابن سيرين الفقيه البصري ، يفصح بأنه أخذ عن الكوفيين ، وقال : (محمد بن الحسن الفقيه : لولا علي بن ابي طالب ما علمنا حكم أهل البغي ، ولمحمد بن الحسن كتاب يشمل على ثلاثمائة مسألة في قتال أهل البغي بناه على فعله) .
واذا علمنا ان محمد بن الحسن هذا المعروف بالشيباني ، كان تلميذ أبي حنيفة ، والشارح الرئيسي لآرائه الفقهية ، نقدر مدى تأثير فقه علي (عليه السلام) في مدرسة الكوفة الفقهية المستندة على الرأي والقياس ، والتي أسسها في الكوفة أبو حنيفة ، الفقيه الكوفي المعروف ، وقد أصبحت آراء أصحاب تلك المدرسة بمثابة الفقه الرسمي للدولة الإسلامية خلال العهد العباسي .
وذكر اليعقوبي جماعة من تلامذة الإمام علي (عليه السلام) الذين كانوا يحملون العلم عنه ، وكان من بينهم الحارث الأعور ، وأبو الطفيل عامر بن وائلة ، وحبة العرني ، ورشيد الهجري ، وجويرية بن مسهر ، والأصبغ بن نباتة ، وميثم التمار ، والحسن بن علي .
وكان أبو رافع من تلامذة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أيضا ، وألف كتاب (السنين والأحكام والقاضايا).
وتبنى فقه علي أحفاده وشيعته من بعده ،ومن أشهر الفقهاء ، من أحفاد الإمامين محمد الباقر ، وجعفر الصادق (عليهما السلام) اللذين كانا رغم وجودهما في الحجاز على صلة وثيقة بشيعتهما بالكوفة ، وكان الإمامان المذكوران من أشهر واضعي أسس الفقه الإسلامي بعامة والجعفري بخاصة ، وقد وصفهما الجاحظ بأنهما علما الناس الفقه ، أما دور الإمام الصادق في نقل العلوم الإسلامية للكوفيين فيقول عنه الوشاء : (أدركت في هذا المسجد تسع مائة شيخ ، كل يقول حدثني جعفر بن محمد) .
ونختم كلامنا عن دور الكوفة في وضع أسس الدراسات الفقهية عند المسلمين برواية ياقوت ، عن سفيان الثوري ، الذي قال : (خذوا المناسك عن اهل مكة ، وخذوا القراءة عن أهل المدينة ، وخذوا الحلال والحرام عن أهل الكوفة) .
أما النثر البليغ ، فكان نصيب الكوفة منه في الفترة التي تناولناها في البحث غير قليل ، وقد قضى علي سيد خطباء العرب شطرا من حياته كما ألقى معظم خطبه في الكوفة .
قال ماسنيون : (وأما في النثر ففي الكوفة تكونت تلك المجموعة المعتبرة النفيسة (نهج البلاغة) الحاوية على الخطب والمواعظ التي ألقاها علي هناك) .
وكانت خطب طائفة من زعماء الخوارج ، وخطب زياد بن أبيه ، والحجاج ، وزيد بن علي تصلح بمثابة نماذج جيدة للنثر في ذلك العصر .
اما الشعر العربي وماله صلة به من العلوم كالعروض ، فلم يكن نصيب الكوفة منه حينذاك قليل الأهمية ، قد وردت إشارة يستفاد منها أن احد المشتغلين بالعروض قبل أن يضع الخليل قواعده ربما كان كوفيا .
قال ابن شهر آشوب : ( أن الخليل بن أحمد : أخذ رسم العروض عن رجل من أصحاب محمد الباقر ، أو علي بن الحسين ، فوضع لذلك أصولا )
ولما كان أصحاب الإمامين المذكورين كانوا حينذاك من أهل الكوفة في الغالب الأعم ، ربما أن صاحب الإمام الذي استفاد منه الخليل كان كوفيا .
ومن شعراء الكوفة في الفترة موضوع البحث حنين الحيري : (وكان شاعرا مغنيا فحلا من فحول المغنين) ، وقد عاصر هشام بن بعد الملك ونال جائزته ، ومن شعرائها الحكم بن عبدل (ومنزله ومنشأه الكوفة) وهو من شعراء الدولة الأموية ، وكان الكميت بن زيد الأسدي العالم بلغات العرب وصاحب الهاشميات من أشهر شعراء الكوفة في هذه الفترة .
وذات مرة دخل على الإمام الباقر فقال له الإمام (عليه السلام) : (والله يا كميت لو أن عندنا مالا لأعطيناك منه ، ولكن لك ما قال رسول الله لحسان : لا يزال معك روح القدس ما ذبيت عنا) .
ويقول الدكتور المخزومي : (ولعل السبب في عناية الكوفة بالأشعار ، ورواية الأدب يرجع إلى انها لا تزال تحتفظ بعادات العرب ، وتقاليدها الأولى ، وتغنيها بالبطولة ، وتفاخرها بالأبطال ، وذلك لأنها منازل العربية الارستقراطية ، وموطن أمراء القبائل) .
وكانت الكوفة فضلا عن ذلك ، منشأ الخط العربي الكوفي وموطن تطوره ، أما النحو فيبدو أن الكوفة في الفترة التي تناولها بحثنا ، لم تسهم فيه اسهاما مهما .
قال المخزومي : (فالنحو إذن لم ينشأ في الكوفة ، وإنما وفد عليها من البصرة ، ونشره فيها بصريون جاؤوا إلى الكوفة واستوطنوها ، وكوفيون رجعوا من البصرة بعد ما تلمذوا لشيوخها ، لينشروا بين الدارسين ما تعلموه هناك) ثم يقول : (ولا نكاد نعرف في الكوفة نحويا – بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة – قبل الكسائي ..) ، ولما كان عصر الكسائي لا يتناوله بحثنا لم نر ضرورة للبحث عن النحو في الكوفة .
ونختم حديثنا عن الكوفة بالآراء والملاحظات التالية :
أولا – كانت الكوفة تميل في عقيدتها السياسية للالتزام بالحق الشرعي ، أي أنها تشترط توفر الشرعية في حكامها ، ونتيجة لذلك نجد أن فكرة النص والتعيين في الإمامة الشيعية تجسد قبولا كبيرا في الكوفة ، وكان للإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) وهما من أئمة الشيعة أسلاف الإمامية ، اليد الطولى في تثبيت فكرة الإمام المنصوص عليه ونشرها بين أسلاف الإمامية بعامة ، ومن بينهم أهل الكوفة بخاصة .
وكان لنجاح الإمامين المذكورين في تثبيت فكرة النص على الإمام أثر كبير في نشر عقيدة الشيعة بين معتنقيها من أسلاف الإمامية ، لأن القول بالنص بنوعية الجلي والخفي ، أس التشييع ألإمامي وجوهره ، وعرف الكتاب الشيعة أسلاف الامامية بأنهم هم الملتزمون بالوصية والسائرون على المنهاج الأول ، ويقصدون بذلك أن أولئك الشيعة يلتزمون بنص النبي (صلى الله عليه وآله) على خلافة علي (عليه السلام) وإمامته ونص علي على من بعده ، وهكذا ينص المتقدم منهم على من بعده حتى تمت سلسلة الأئمة الإثني عشر المعصومين من ولد علي من فاطمة ، والتي تنتهي بالإمام الغائب (عليهم السلام) .
ويعزى ميل الكوفة إلى الشرعية في السياسة إلى انتشار العقيدة التي اعتنقها الشيعة أسلاف الإمامية فيها بصورة مبكرة أولا ، وإلى ما ورثته من تقليد الساسانيين في الحكم ثانيا ، وإلى أن معظم سكانها العرب كانوا من اليمانيين الذين ألفوا ذلك النوع من الحكم في وطنهم الأصلي ثالثا .
ثانيا – اتخذت الكوفة فكرة (الاجتهاد) واستنباط الأحكام الفقهية من أدلتها الشرعية أساسا لبناء تراثها الفكري في الحقوق ، وتجلى الاتجاه المذكور ليس عند الشيعة أسلاف الامامية وحسب ، بل ظهر عن غيرهم من المسلمين الكوفيين أمثال أبي حنيفة .
ثالثا – الجانب الاجتماعي في حركات الغلاة الكوفيين : كانت الكوفة المركز الرئيس لغلاة الشيعة ، إن ظهور الغلو في الكوفة دليلا على التقدم الفكري العميق والوعي الاجتماعي عند أهل الكوفة ، لأن الغلو ، رغم انحراف القائلين به عن الإسلام ، جانبا اجتماعيا ايجابيا ، وذلك أن القائلين به كانوا النسبة لمعاصريهم أكثر شعورا بظلم الانسان لأخيه .
ويبدو أن أكثرية الغلاة ، اتخذت من الغلو وسيلة للثورة الاجتماعية على الطبقية والعشائرية اللتين تبناهما حكام المسلمين حينذاك ، ولعل في حركة المختار التي انضم اليها الغلاة ، الذين كانت غالبيتهم من المستضعفين في الأرض ، دليلا على وجود الجانب الاجتماعي في حركات الغلو .. ثم أن الغلاة كانوا بمثابة العمود الفقري للدعوة العباسية لأن قادتها قالوا بالدعوة إلى الرضا من آل محمد ودعوا إلى تطبيق العدل الاجتماعي بين المسلمين كافة .
1/5/13124
https://telegram.me/buratha