توطئة
كانت نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مخاضات يمكن اعتبارها الأصعب في تاريخ البشرية؛ وذلك لتقارب القارات والشعوب بين بعضها في الوقت الذي امتلك الإنسان أدوات عالية الضبط والتقييد بل والتدمير أيضاً، ولم يكتف، بل راحت الشعوب تتطاحن وتتناحر بشكل مفضع ومفجع لا بطعنة سهم أو بتر حسام بل بأسلحة أقل ما تعمل هو أن تذيب إنساناً في لحظات بل تذيب شعوباً غفيرة بدقائق، كما وتمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة بشكل مذهل فمن الذرة وشطرها، إلى تخوم أصلب الجبال، مروراً بالطبيعة الحيوانية والبشرية، كل هذه الأمور مجتمعة فرضت على الفكر البشري المسألة الأخلاقية فرضاً جعلت البعض يعدّ القرن العشرين قرن البحث في فلسفة الأخلاق بل لم يكن تطور العلوم الاجتماعية إلا استجابة لهذا الوضع. وبدخول النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات الألفية الثالثة وما رافق ذلك من تطورات في كل المجالات العلمية والتكنولوجية والعسكرية ازداد إلحاح المسألة أكثر فأكثر.
وهنا بالتحديد اجتمع العالم في أطار دولي لتقنين القيم والفضائل والمبادئ لتكون حكماً ومرجعاً في إدارة الحياة، وأنيطت هذه المهمة بالأمم المتحدة ومنظمات أخرى أكثر ما عنت على المستوى النظري هو البحث عن فكر أخلاقي (قيمي) ناجع يمكن تأطير العالم فيه ومن خلاله.
وبالتالي فإن الشعوب كلها مطلوب منها المساهمة في هذا الجهد العالمي، على المستوى النظري على الأقل، وفي مقدمة هذه الإسهاماتِ الإسهاماتُ العلمية والفكرية.
كما وفي المستوى نفسه، وعلى صعيد الشعوب الإسلامية التي خرجت من الحرب العالمية الثانية منشقةً عن الدولة العثمانية أقطاراً أقطاراً ضمن تشكيل جديد في صيغة الدولة القطرية، راحت هذه الشعوب تبحث عن قيم التحديث والتقدم مع الأصالة، فهي تريد قيمها وهويتها وفي الوقت نفسه تريد تقدمها العمراني والصناعي والحضاري، فما هي قيم التمدن والتحديث؟ وكيف ننهض من واقعنا المتخلف؟ أين تكمن أخلاقيات الأصالة والمعاصرة؟ وهكذا دفعت هذه الأسئلة أمواجاً من الآراء والاجتهادات في جميع المستويات لتطوير البُنى والآليات، وتجديد الروح، وصولاً لأصول القيم المطبقة على عصرها نهضة وتقدماً. وهنا مرة أخرى بدا البحث عن فلسفة الأخلاق أمراً لا مناص منه، وبقعة لابد من غورها بكل جهد ممكن.
وبمراجعة سريعة لأدبيات تلك الفترة وحتى اليوم سنرى آفاق الحديث فيها إن لم يكن في صلب موضوع فلسفة الأخلاق فإنه يحوم حولها تمهيداً واستعداداً للوغول فيها، فنرى بحوث الأصالة والمعاصرة، والثابت والمتغير، وآليات القراءة والتجديد، وتطوير مناهج التفكير الديني وغيره، ومقاصد الشريعة وروح الدين، وفلسفة الدين والسياسة والقانون والاجتماع والتربية بل واللغة أيضاً.. وبالتالي فإن انجاز بحث تاريخي توصيفي يعيد اكتشاف جانب من هذا التراث يبدو مقدمة ضرورية للدراسات المعيارية في الموضوع.
وضمن نسيج النهضة في العالم العربي والإسلامي يعد التشيع أحد أركانها الأساسية؛ الذي كان له ولا يزال جهد مذكور على مختلف المستويات، وأهمّها المستوى الفكري - الثقافي - العلمي.
وفي مجال فلسفة الأخلاق وعموم البحث الأخلاقي يندر أو لا يكاد يذكر التراث الأخلاقي الشيعي ومساهماته عند تعداد أو تقييم أو تثمين الجهود الإسلامية في هذا الإطار، ويرجع ذلك أولاً إلى غيابه أو تغييبه عن الواقع الفكري للأمة، وثانياً قصور الرؤى في اكتشافه. وكل جهدنا في هذه الدراسة محاولة تقديم مقاربة أولية لاكتشاف هذا التراث والتعرف عليه من قرب.
التشيّع.. كيان متميّز
يعتبر التشيع على المستوى الثقافي - الاجتماعي كياناً متميزاً في الوسط الإسلامي؛ وذلك لما يتضمنه في أبعاده المتنوعة من خصائص تميّزه عن غيره، فرضتها المرجعية الفكرية التي يستند إليها، والظروف التاريخية التي واجهها، ونوعية الأطراف التي كانت تتنافس أو تتصارع معه في الواقع الخارجي... وغيرها.
والغفلة عن حقيقة هذا التميّز وواقعيته جعل ويجعل العديد من المتعاطين مع هذا الكيان يتعاطون معه بصورة خاطئة ويَصِلون في النهاية إلى انطباعات ونتائج خاطئة، مما يجعل كياناً مهمًّا في الحضارة الإسلامية يبقى مجهولاً. ولا يخفى على أحد ما لهذا الواقع من نتائج سلبية في العديد من المستويات الفكرية والاجتماعية والحضارية.
والذي يمكن القيام به هنا بما يخدم ويمهد لأصل الموضوع هو الإشارة إجمالاً إلى عدة جوانب من التميّز الذي يحظى بها التشيع، والذي نظنّ أنها الحد الأدنى من الوعي المطلوب للدخول في دراسة عن التشيع في أيّ من جوانبه.
مصادر الفكر:
أول ما يتميّز به التشيع من غيره من الفِرَق هو «مصادره الفكرية» التي يعتمد عليها في نظرته لمجمل الأمور الفكرية والتاريخية، فهو وإن كان يشترك مع عموم الفرق بمرجعية القرآن الكريم ومتواتر السنة النبوية إلا أنه في المقابل تميّز عنهم بمرجعية أهل البيت (عليهم السلام) التي أفاضت عليه من المعارف الشيء الكثير مما جعلته فعلاً يتميّز من غيره، فعلى مستوى التدوين الروائي الذي يُعدّ من أهم المصادر الذي يستقي منها المسلم معارفه نرى أن التشيع تميّز على مستوى الرواة، وكيفية قبوله للرواية من عدمه، وكمّية الروايات عدداً، وسعتها موضوعاً، وتواصلها تاريخاً، ناهيك عن نوعيتها على المستوى المعرفي - الفكري. كل ذلك انعكس على العقل الشيعي في رؤيته للقرآن الكريم، والعقل (نظرية المعرفة)، والتاريخ؛ سواءً منه ما قبل الإسلام كتاريخ الأنبياء أو التاريخ الإسلامي؛ وتحديداً سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرون الثلاث الأول (القرن الأول والثاني إلى منتصف الثالث). وبكلمة مختصرة: رجوع التشيع لأهل البيت (عليهم السلام) كمرجعية فكرية مكَّنهم من صياغة فلسفة مختلفة للحياة تتميّز عن بقية فلسفات الفِرَق الأخرى.
المجتمع الشيعي:
كان لمجموع الظروف الذاتية والموضوعية التي حَفّت بالتشيع ككيان اجتماعي دخلٌ في تميّزه من غيره. فعلى المستوى الذاتي أدى تميّزهم في المرجعية الفكرية إلى صبغ واقعهم الاجتماعي بصبغة خاصة، وذلك للعلاقة الوثيقة بين الفكر والسلوك. فصارت للشيعة آدابهم وأعرافهم وسلوكاتهم الخاص تجاه عموم الحياة الاجتماعية.
أما على المستوى الموضوعي فقد كان لواقع الصراع الاجتماعي - السياسي الذي خاضه التشيع في وجه الكيان الرسمي للدولة أثره العميق في صياغة واقعه الاجتماعي. فبدأت في داخله ظاهرة الهجرات الجماعية إلى مناطق نائية عن مركز الثقل الرسمي، وفرض ذلك تواجداً شيعيًّا في مناطق معينة دون أخرى، كما انعكس على طبيعة الذين دخلوا في التشيع، وعلى أساليبهم في الحياة الاجتماعية في ظل ملاحقة دائمة من النظام الرسمي، وكذلك على نظام المؤسسة الدينية ومحورها... إلخ من الظواهر الاجتماعية التي تنشأ في هكذا ظروف، وقد تتبع ذلك بنسبة جيدة المؤرخ المعاصر رسول جعفريان في خصوص علاقة الشيعة بإيران في كتابه «الشيعة في إيران: دراسة تاريخية من البداية حتى القرن التاسع الهجري»[1]. وخلاصة الكلام: أن مجموع الظروف الذاتية والموضوعية جعلت من التشيع كياناً اجتماعيًّا متميّزاً ذا خصائص خاصة به.
إشكالية معرفة الآخر.. التشيع نموذجاً:
لا نجانب الصواب إذا قلنا: إن مسألة معرفة الآخر تعدّ من أعقد المسائل في تاريخ الفكر البشري على مستوى دراسات تاريخ الأفكار، والعلوم الاجتماعية، والأديان المقارنة، وذلك لأسباب عدة منها: كون الإنسان مركب معقد، ومناهج البحث تريد أسهل الطرق لمعرفته فتقع في الالتباس؛ ومنها: تداخل عوامل الصراع (أو ما يسمى اليوم بالأيدويولوجيا) في قراءة الآخر.. وغيرهما من عوامل.
وفي التاريخ الإسلامي وقع التشيع ضحية كبرى لسوء الفهم والتفاهم، عمداً أو من غير عمد، فنسبة المنسوب إليه من الصحة لا تتجاوز في أحسن الأحوال الأربعين في المائة من حقيقة واقعه، ولهذا الأمر أسبابه ومسبباته التاريخية، التي لا تهمنا الآن بصورة ملحّة.
وللأسف فإن سوء الفهم هذا انجر أيضاً إلى الباحثين خارج الإطار الإسلامي، من المستشرقين وغيرهم، الذين هم أيضاً وقعوا في منزلق «معرفة الآخر من قبل خصومه أو منافسيه»، وللأسف إن الدراسات الجادة والمنصفة في هذا المضمار قليلة جدًّا إلى درجة الندرة.
ناهيك عن محدودية المجالات التي اهتم بها الدارسون، فعلى الصعيد الإسلامي نرى أن الخلافات المذهبية هي التي تهيمن على اهتمام الدارسين الباحثين؛ فمن مسألة الإمامة والخلافة، ومروراً بمسائل صفات الإمام، وانتهاءً بتحريف القرآن، وما هو على هذا المنوال. أما المستشرقون فدراستهم للتشيع كانت متأخرة عن دراستهم للفكر السني، ولم يبدأ عندهم الاهتمام بالشيعة إلا في منتصف القرن الماضي، وكانت مجالات الاهتمام محدودة، وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران التي اتخذت من المذهب الشيعي مذهباً رسميًّا للدولة ازداد الاهتمام أكثر مما كان عليه، لكن تداخلَ هنا السياسي في الفكري، ووظفت دراسات المستشرقين واهتماماتهم في الأبعاد السياسية في الفكر الشيعي خدمة لمسارات سياسية لها مصلحة من هذه المعرفة، في حين غُفل عن الأبعاد الأخرى في الفكر الشيعي.
وبهذا عاش التشيع مظلوميته التي طالما نادى بهذا في مساره التاريخي، لكنها هذه المرة ليست مظلومية سياسية - اجتماعية بل «فكرية».
هذه النقاط الثلاثة تفرض على الباحث في الفكر الشيعي أن يحاول تجنب سلبياتها، مما يعني ضرورة الطموح للوصول إلى فهم حقيقي للتشيع «بذاته ولذاته»، وهذا يتطلب الآتي:
أولاً: التعرف إلى مصادر الفكر الشيعي عن كثب، ومن خلال الانغماس فيه، أو كما عبر عنه أركون في مناسبة معينة بـ«التموضع» داخل الفكر[2]، وهذه العملية ليست بالهينة، بل تتطلب إلمامة جيدة وخبرة متمرسة في تراث هذا الفكر بجوانبه المتعددة.
ثانياً: إذا كانت الدراسة معنية بجوانب ترتبط بالحياة الاجتماعية أو شيء له علاقة بالممارسة الاجتماعية التي يصعب اكتشافهما عن طريق النصوص المكتوبة أو تشكل النصوص المكتوبة فيه مؤشرات لا أكثر، هنا لابد من التأني أكثر، وتقليب المسألة على عدة وجوه، ومحاولة الاستعانة أكثر بآليات ترصد الظاهرة كما هي في الواقع لا كما يحلو للناقد والباحث تفسيرها، نقول هذا ونحن نتذكر الكثير من الدراسات التي حاولت تفسير مجموعة من الظواهر المرتبط بالفكر الشيعي وكيف أنها ذهبت في التفسير مذهباً بعيداً عن الواقع.
ثالثاً: تجنب التعرف على التشيع من خلال خصومه ومنافسيه بل لا بد من التعاطي أولاً وقبل كل شيء مع النصوص الأساسية لتراثه، وكلام علمائه، ولتكن مطالعة آراء الخصوم مرحلةً ثانية. حتى نتجنب الوقوع في تداخل السياسي في الفكري.
التأريخ للأخلاق في الفكر العربي الإسلامي
هنالك العديد من الدراسات والبحوث التي حاولت التأريخ للتراث الأخلاقي في الفكر العربي الإسلامي؛ إن على مستوى التحقيب والتصنيف أو على مستوى صناعة الرؤية والمنهج اللذيْن يُنطلق من خلالهما إلى دراسة هذا التراث.
ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن محاولات التأريخ للتراث الأخلاقي في الفكر العربي الإسلامي محاولاتٌ جديدة نمت في عصرنا الحاضر؛ أي في القرن العشرين، مع تنامي الاهتمام بتاريخ العلوم والأفكار. وذلك بعكس العديد من الحقول في التراث العربي الإسلامي التي بدأ فيها الحديث عن تاريخ الأفكار والمسائل التي تتناولها تلك الحقول في وقت مبكر من تاريخها؛ حيث إنها اهتمت بهذه النسبة أو تلك بموضوع «التأريخ» كعلم الفقه، وأصول الفقه، والكلام، والبلاغة، والنحو، والمنطق... إلخ، مما ساعد على إنضاج الرؤية والمنهجية والآليات التي تستخدم في عملية «التأريخ».
أما حقل الأخلاق فإنه لم يحظ بتلك الحظوة التي حظيت بها بقية الحقول، مما يعني أن المحاولات التي لا تزال مشغولةً بالموضوع محاولاتٌ ابتدائية فيها كل عناصر «الابتداء» السلبية والإيجابية، وما عَمَلُنا هذا إلا مساهمة في هذا الاتجاه، نحاول من خلال تقديم رؤية لمسألة «التأريخ» لهذا الحقل الحيوي، ولكن قبل ذلك لا بد من إطلالة إجمالية على هذه الدراسات التي ستكون بمثابة المدخل والتوطئة للرؤية المُقَدمة.
من الدراسات التي اهتمت بالموضوع دراسة الدكتور محمد يوسف موسى في كتابه «تاريخ الأخلاق»، وكذلك أحمد أمين في كتابه «الأخلاق» حيث أشار لمسألة التراث الأخلاقي في الفكر العربي الإسلامي، والملاحظ في هاتين الدراستين أنهما انطلقتا من منظور واحد وانتهتا إلى نتيجة مشتركة، هذه النتيجة هي: «كلما مر الزمن، ينمحي الطابع الفلسفي عن الدراسات الأخلاقية شيئاً فشيئاً كما رأينا، حتى تعود دينية بحتة لا أثر للطرافة والتفكير الفلسفي فيها، وظل هذا طوال تلكم الأزمان حتى ذلك العصر الذي نعيشه. وآية ذلك -فوق ما تقدم- الرسائل الكثيرة التي كتبها علماء الأزهر وغيرهم في الأعوام الأخيرة والتي لا تُعدّ في قليل أو كثير من الدراسات الأخلاقية الحقة»[3].
والواقع أن هذه النتيجة لن تكون بالنسبة لنا مفاجِئة، وذلك لأنها نتيجة منطقية عن المنظور الذي انطلقت منه الدراستان، هذا المنظور ينطلق في قراءته للتراث العربي الإسلامي من خلفية وتصنيف تنتمي إلى تراث آخر هو «التراث الأوروبي الغربي» القديم منه أو الحديث، إذ إنهما عندما انطلقا من تصنيف غربي للأخلاق يعتمد على فهرسة خاصة لمباحثه، بحيث تنتظم الأخلاق فرعاً عن الفلسفة أو تتويجاً لها، ثم حاولا البحث عن مثل هذا التصنيف في التراث الأخلاقي في الفكر العربي الإسلامي فلم تجداه، وهذه المشكلة (تقييم تراث على أساس تراث آخر) تتكرر في العديد من الميادين الفكرية اليوم في دراسات الكثير من الباحثين، وللأسف أنها تنتهي إلى أحكام إطلاقية إسقاطية مجحفة بحق التراث، نعم الدراسة المقارنة أمر مقبول ومطلوب، لكنها شيء وتقييم تراثٍ ما على أساس تراثٍ آخر شيء آخر.
وشاهد الاتكاء على خلفية الفكر الأوروبي الغربي هو «لم يعرف العرب في جاهليتهم فلاسفة دعوا إلى مذاهب معينة كالذي رأيناه عند اليونان من بيقور وزينون وأفلاطون وأرسطو، لأن البحث العلمي لا يكون إلا حيث تعظم المدنية، وإنما كان عند العرب حكماء وبعض الشعراء أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وحثوا على الفضائل وحذروا من الرذائل المتعارفة في عهدهم، كما ترى في حِكَم لقمان وأكثم بن صيفي وأشعار زهير بن أبي سلمى وحاتم الطائي».
ولأن الدين الإسلامي جاء برؤية تقول بخالقية الله -سبحانه- لكل العالم ومنها الإنسان، فقد «وضع له نظاماً يسير عليه وشرع له أموراً من صدق وعدل أمر باتباعه وجعل السعادة في الدنيا والنعيم في الآخرة جزاء من اتبعها. وجعل عكسها من كذب وظلم ورذائل نهى عنها وحذر من ارتكابها. وجعل الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة عقوبة من ارتكبها»
ثم يضيف «قلّ من العرب -حتى بعد أن تحضّروا- من بَحث في الأخلاق بحثاً علميًّا. ذلك لأنهم قنعوا أن يأخذوا عن الدين ولم يشعروا بالحاجة إلى البحث العلمي في أساس الخير والشر، ولذلك كان الدين عماد الكثير ممن كتبوا في الأخلاق، كما ترى في كتاب «الإحياء» للغزالي و «أدب الدين والدنيا» للماوردي».
ثم يذكر الفارابي وإخوان الصفا وابن سينا باعتبارهم «درسوا الفلسفة اليونانية فكان فيما درسوا آراء اليونان في الأخلاق»، ثم أشار إلى مسكويه كونه «أكبر باحث عربي في الأخلاق» مشيراً إلى أنه في كتابه «تهذيب الأخلاق» حاول «أن يمزج فيه تعاليم أفلاطون وأرسطو وجالنيوس بتعاليم الإسلام (...) ولكن لم يسر كثير من علماء العرب على منواله، وحبذا لو كانوا توسعوا في نظرياته واستدركوا ما فاته، وأحلوا ما ثبت صحته من العلم الحديث محل ما يظهر بطلانه من القديم»[4].
أما الدكتور موسى فيقول: فبعد أن عرض لآراء مجموعة من الفلاسفة المسلمين في مجال الأخلاق؛ وهم الكندي والفارابي ومسكويه والغزالي وابن ماجه وابن طفيل وابن عربي، قال: «إن علم الأخلاق بصفته فرعاً من فروع الفلسفة رجع القهقرى بعد عصر الفلسفة الذهبي الذي انتهى بانحطاط الفلسفة في الأندلس، وصار الأمر فيه لا يعدو الإعادة والتكرار والبسط والاختصار لآراء المتقدمين وخاصة مسكويه والماوردي والغزالي. وآية ذلك أن يلقي الباحث نظرة على التآليف في الأخلاق في تلك الأيام وإلى هذا العصر الذي نعيش فيه»[5].
ومن الدراسات أيضاً دراسة الدكتور ماجد فخري، التي هي في الحقيقة على قصرها، حيث إنها ثلاثة صفحات وردت مقدمةً لمجموع نصوص جمعها ونشرها، إلا أنها أوسع أفقاً من غيرها، ذلك أن الملفت فيها هو اقترابه من طبيعة وخصائص الخطاب العربي الإسلامي في تناوله لمسائله الفكرية والتي من ضمنها حقل الأخلاق، فهو يميز بين «الأدب الخلقي» ككتابات ابن المقفع والعامري... إلخ، وبين «الفكر الخلقي» الكلامي والفقهي من جهة، والفلسفي من جهة أخرى. ومن خلال هذه النظرة اقترح تحقيباً معيناً اعتبره وصفاً لحركة التطور في الفكر الأخلاقي العربي، وهذا التحقيب يمر بأربعة مراحل هي:
الأولى: مرحلة معالجة المشاكل الأخلاقية عن طريق التدبر في النصوص الدينية، وهذه الفترة هي التي تبدأ من القرن الثاني للهجرة.
الثانية: مرحلة الاتصال بالفكر اليوناني الوافد على الحضارة الإسلامية، وما نجم عن هذا الاتصال من تفاعل فكري في حقل الأخلاق جعل للأفكار الرواقية والسقراطية مجالاً للتأثير، وهذه المرحلة تبدأ مع انطلاق القرن الثالث.
الثالثة: وهي المرحلة التي بدا فيها تأثير أرسطو وبعض شراحه في الفكر الأخلاقي العربي، ويمثل هذه المرحلة مسكويه -حسب رأيه-.
الرابعة: وهي التي دمج فيها الجانب الفلسفي بالجانب الديني والصوفي، وممثلو هذه المرحلة هم الغزالي والماوردي وابن حزم وفخر الدين الرازي[6].
والمهم في المسألة ليس التحقيب والتصنيف بقدر الرؤية التي انطلق منها الدكتور فخري، فأن يتحرر من هيمنة النموذج الغربي ويتفهم طريقة العلماء والمفكرين المسلمين وكيفية معالجتهم لشؤونهم الفكرية، وبالخصوص في حقل الأخلاق، بحيث يرى أن معالجات المتكلمين لمسائل مثل العدل الإلهي، وماهية البر وما اتصل بها من طاعات ومعاصٍ، فهذا ينبئ عن أفق واسع في الوعي، أنضج من سابقيه.
ومن الدراسات أيضاً دراسة للدكتور أحمد محمود صبحي قدمها في كتابه «الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي: العقليون والذوقيون أو النظر والعمل»، والذي يمكن قوله: إن جوهر هذه الدراسة انطلقت من إشكالية تسالم المفكرون والمثقفون العرب وجلُّ المستشرقين فترة من الزمن عليها، وهي عدم وجود «فلسفة أخلاقية» في الفكر الإسلامي، وما قام به الدكتور صبحي هو تفنيد هذه الدعوى من خلال النظر إلى حقل الأخلاق والبحث الأخلاقي من أفق أوسع مما درج عليه الكثير في حكمهم على التراث الأخلاقي في الفكر الإسلامي. وما لاحظه هو أن كل الدراسات التي عُنيت بموضوع «الأخلاق» في الفكر الإسلامي كانت تنطلق في تقييمها من منظور التراث الغربي، وتحديداً اليوناني القديم متمثلاً في أرسطو وكتابه «الأخلاق»، مما حدا بها إلى القول بعدم وجود فلسفة أخلاقية في الفكر الإسلامي.
وهو في عمله هذا يستوحي تجربة الدكتور علي سامي النشار في حقل المنطق ونظرية المعرفة ومناهج البحث التي عالجها في كتابه «مناهج البحث لدى مفكري الإسلام» والتي انطلق فيها من مقاومة المسلمة ذائعة الصيت القائلة بعدم وجود منهج بحث علمي لدى مفكري الإسلامي إلا ما استَقوْه من أرسطو؛ فمن خلالها وبعد أن أثبت الدكتور النشار وجود «منطق إسلامي» يتساءل الدكتور صبحي: ما الذي يجعلنا نطمئن للمسلمة ذائعة الصيت عن التراث الأخلاقي في الفكر الإسلامي أنَّه هو الآخر عالة على الفكر اليوناني؟! أليست المقولة نفسها اشتهرت عن المنطق ثم لم تسلم أن تهاوت بجهود جدية من مفكري الإسلام؟!
من هنا راح ينظّر لمجال الأخلاق في الفكر الإسلامي متجاوزاً النظرات المحدود والقوالب الجاهزة التي أسقطعت على الفكر الإسلامي؛ فوجد أن للفكر الإسلامي روحه الخاصة وطريقته الذاتية في معالجة مشاكله الفكرية، ثم رأى في فكر المعتزلة والقضايا التي أثاروها مرتعاً خصباً لبحث العديد من المشاكل الأخلاقية، والأمر نفسه وجده عند الصوفية، لكن الفارق بينهما في كيفية المعالجة ومنهج البحث، حيث الفئة الأولى تنتمي إلى تيار «العقليين»، في حين أن الثانية تعبر عن تيار «الذوقيين». ومهما تكن نتائجه فإن المهم فيها هي سعة نظرته للموضوع بحيث تجعل الحكم على هذا الحقل في الفكر الإسلامي أقرب للموضوعية وأكثر وعياً للتراث[7].
وآخر دراسة تطالعنا في هذا السياق؛ سياق محاولات التأريخ للتراث الأخلاقي في الفكر العربي الإسلامي، دراسة الدكتور الجابري، التي تعتبر من أنضج الدراسات في دراسة التراث الأخلاقي، والتي تناولها في الجزء الرابع من سلسلة «نقد العقل العربي» تحت عنوان «العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية»[8]، وذلك لما قدمه من ضرورة الوعي بمواضع حقل الأخلاق في الفكر العربي الإسلامي، منتقداً التصورات السابقة المقتصرة على حدود معينة متجاهلة طبيعة الخطاب العربي الإسلامي، بل إنه زاد على غيره من الذين بحثوا في المسألة دعوى كون ظاهرة «الترسل» أول المجالات في التأليف الأخلاقي في التراث العربي الإسلامي! أيًّا كان الرأي في المسألة فإن المهم فيه كونه يقترب إلى المعالجة الموضوعية منه إلى الإسقاطات الجاهزة.
التأريخ للأخلاق في الفكر الشيعي.. مقاربة أولية
بعد هذا التطواف على بعض الدراسات التي حاولت التأريخ للتراث الأخلاقي في الفكر العربي الإسلامي، يمكننا تسجيل نقطتين مهمتين:
الأولى: أن التأريخ للأخلاق في الفكر العربي الإسلامي بات اليوم أكثر وعياً مما كان عليه سابقاً بفضل جهود العديد من المفكرين الذي قدموا رؤى أوسع أفقاً من سابقيهم، مما يجعلنا متفائلين بالدراسات والبحوث القادمة إذا استندت إلى هذا الوعي.
الثانية: أن جوهر مشكلة الدراسات السابقة قبل نمو ونضوج الوعي بالتراث الأخلاقي في الفكر العربي الإسلامي كانت تتلخص في بندين:
- إسقاط الخلفيات الفكرية المنتمية إلى تراثات ثقافية مغاير للتراث الإسلامي؛ مما انتهى بهذه الدراسات إلى اختزالات مجحفة ووعي محدود.
- محدودية المعطيات التي يستند إليها الباحثون في المجال الأخلاقي عند دراستهم له؛ مما جعل الكثير من أحكامهم تبدو قاصر ومستعجلة. ولا يهم ما إذا كانت محدودية المعطيات مستندة إلى تقصير وقلة خبرة ومحدودية ممارسة لنصوص التراث أم قصور راجع إلى تواري الكثير من النصوص في المجال الأخلاقي وراء أدراج خزانات المكتبات الحاوية لمخطوطاته، المهم أن هذه المحدودية كان لها الأثر السلبي في قراءة هذا الحقل من التراث.
لكن يبقى السؤال: ماذا عن التراث الأخلاقي في الفكر الشيعي خصوصاً؟ هل لقي من الإنصاف ما يليق به؟ هل هو بحاجة إلى رؤية منهجية مختلفة عن الرؤية المقدمة في عموم التراث الأخلاقي في الفكر الإسلامي؟
الواقع إن ما يلقاه هذا الفكر من عدم الإنصاف شيء كثير لا يتناسب وحجمه ودوره في عموم الفكر الإسلامي والواقع الحضاري للإسلام قديماً وحديثاً. إذ إنّ الدراسات التي تجاوزت بعض إشكاليات الإسقاط الأيديولوجي التي مني به الفكر الإسلامي لم تستوعب التراث الأخلاقي في الفكر الشيعي، فهي -وهذا هو الغالب- إما أنها لم تذكره على الإطلاق بل وتعاملت مع مَنْ يُحسبون على التشيع من فلاسفة ومفكرين وكأنهم لا علاقة لهم بالتشيع لا من قريب أو بعيد، وإما أنها وقعت في محذور الإسقاط الأيديولوجي لكن هذه المرّة أيديولوجيا التنازع المذهبي أو النظام الرسمي أو العنصرية العربية، ليوصف التراث الأخلاقي الشيعي -في حدود ما اطَلتْ عليه من بعض هذه الدراسات- بالأخلاق الباطنية أو بالغزو الثقافي الرامي إلى تقويض الدولة أو بالمجوسية الفارسية أو غيرها.
والذي نراه أن الضرورة «الأخلاقية!» قبل كل شيء تُملي علينا المساهمة في تقديم رؤية منهجية في التعاطي مع هذا التراث للوصول إلى أحكام أقرب إلى الموضوعية وأكثر وعياً للتراث.
وما نعتقده هو أن التراث الأخلاقي في الفكر الشيعي فعلاً بحاجة إلى رؤية أكثر تحديداً من العموميات المنهجية التي قُدمت سابقاً بل هذا ليس من مختصات الفكر الشيعي لذاته وإنما هو ضرورة منهجية لكل حقل متميّز في الفكر الإسلامي. وبعد الاستعانة بالله -عز وجل- سنحاول أن نقدم هذه الرؤية من خلال المقدمات والمحددات الآتية.
وحدة الفكر البشري واختلاف اللغة
يشترك البشر، أينما وجدوا ومهما كانت ألوانهم وألسنتهم، في هموم فكرية كبرى تؤرقهم وتحفزهم للبحث عن أجوبة مقنعة لها؛ سواء على المستوى المعنوي أم المادي/المعيشي. ويرجع ذلك لوجود قاسم مشترك بينهم على المستوى المعنوي لا يخلو مجتمع ما منه، كالبحث عن أصل الكون، والغاية منه، وكيفية العلاقة بين أفراد المجتمع، والسلطة، والقيم الكبرى كالحب، والإيمان، والعدالة، والحرية... وغيرها؛ نعم، في الجزيئات والتفاصيل تتدخل الظروف الموضوعية المحيطة بمجتمع ما لتنحو بالمناقشة الفكرية لمسألة ما إلى زوايا خاصة وكيفيات معينة؛ لكن ذلك لا يتنافي مع اشتراكهم في الاهتمام بأصل المسألة. فعلى سبيل المثال: أصل موضوع السلطة وأنها كيف يجب أن تدار ومن الذين يحق لهم الحكم دون غيرهم وكيف يصلون إلى السلطة؟! هذه الأسئلة تبدو مشتركة بين البشر، لكن ظروفاً موضوعية معينة تحفّ بالمجتمع اليوناني آنذاك -مثلاً- تنتهي بالتفكير إلى صيغة «الديمقراطية» أو «الحكم الاستقراطي»، وظروفاً موضوعيةً مغايرةً تحفّ بالمجتمع العربي الجاهلي تنتهي بالتفكير إلى صيغة «حكم الأشراف من القبائل»؛ في كل الأحوال تظل مسألة السلطة هي القضية المعنية لكن نمط المعالجة والصيغة النهائية تختلف لتداخل أمورٍ جزئيةٍ تخص هذا المجتمع أو ذاك.
كذلك الأمر في القضايا المادية/ المعيشية، حيث يشترك البشر في هموم مشتركة على هذا المستوى لكنهم يتفاوتون في الجزئيات والتفاصيل لتداخل أمور جزئية؛ فكل البشر يهتم بمسألة السكن، والغذاء، الملبس، والتجارة (الاقتصاد).. وغيرها من الأمور المعيشية.
هذا الوعي بوحدة الفكر البشري في أصوله العامة يجعل أفق الباحث أرحب وأوسع ليستوعب أطياف البشر بكل تنوعاتهم، لكن محدودية أفق الكثير من الناس، والتمسك بالعصبيات والعنصريات تقف حواجز أمام هذا الوعي. ومن أهم ما جاءت من أجله الديانات السماوية هو التأكيد على أخوية البشر، ومساواتهم، وتماثلهم، وقد كان لها الدور الكبير في تنمية الوعي بهذه القيمة والتنبيه إلى مخاطر النظرة العنصرية والعصبية للآخرين، ويدلل على ذلك مطالعة سريعة للتاريخ الحديث والمعاصر للحركات العنصرية وآثارها السلبية على عموم الحياة والحياة الفكرية بشكل خاص، حيث نجد «التحيز» السلبي في الفكر الغربي تجاه الثقافات الأخرى المغايرة له، وآية ذلك وعي الفكر الغربي نفسه بهذه الإشكالية ونمو حركات الفكر الإنساني في داخله ورغبتها العارمة في تقدير الإنسان بما هو إنسان، وتقدير كل منتجاته الفكرية والمادية، بل وحتى اليوم وفي ميدان فلسفة العلم تتصاعد النداءات إلى ضرورة التعامل مع البشر با
https://telegram.me/buratha