لم تمنع كثرة القراءات وتعدد التحليلات والتفسيرات لطبيعة العلاقة القائمة بين «الإسلام والغرب» من الاتفاق على أن هذه العلاقة شهدت فصولًا ليست بالقصيرة من الصراع والاحتقان، وصلت في كثير من الأحيان إلى المجابهة العسكرية. وما كان من جوانب مضيئة في هذه العلاقة فقد بقي استثناء من القاعدة؛ لأن نقاط الاصطدام والمواجهة تفوقت كمًّا وكيفًا على نقاط التلاقي منذ ظهور الإسلام إلى يوم الناس هذا.
في فصل جديد من فصول تأزم هذه العلاقة، شهدت المجتمعات الغربية في الآونة الأخيرة موجة من الممارسات العنصرية، وأشكالا من العداء والتمييز ضد الإسلام والمسلمين، تم إدراجها تحت مسمى «الإسلاموفوبيا». فما معنى هذا المصطلح؟ وما تجلياته وأسباب ظهوره؟ وكيف السبيل إلى مواجهة آثاره ونتائجه؟
الإسلاموفوبيا.. مصطلح جديد لمعنى قديم
يشير مصطلح «فوبيا «Phobia» إلى خوف لاشعوري وغير مبرر من مواقف أو أشخاص أو نشاطات أو أجسام معينة، وهو بذلك يصنف كمرض نفسي ينبغي علاجه. ومن أشكال هذا المرض: الخوف من الأماكن والمناطق المرتفعة Acrophobia -الخوف من الأجانب (Xenophobia) -الخوف من الأماكن المغلقة (Claustrophobia)...
وعند إضافة هذه الكلمة إلى الإسلام مشكلة «إسلاموفوبيا» يصبح المعنى: «خوف مرضي غير مبرر وعداء ورفض للإسلام والمسلمين»(1). ويشير هذا المصطلح كذلك إلى النتائج العملية المترتبة على هذا العداء سواء تجاه الأفراد أو المؤسسات. وهو تعريف قد يعتبر غير دقيق، لأن الأمر هنا لا يتعلق بمرض أصاب المجتمع الغربي، وإنما هو ظاهرة لها أسبابها السياسية والاجتماعية.. لكن يبقى أن هذا المصطلح يعبر عن المشاعر السلبية التي تجتاح المجتمع الغربي تجاه المسلمين، مشاعر تترجم سلوكيات مجحفة في حق الإسلام والمسلمين. الإسلاموفوبيا: محددات وتجليات
قامت مؤسسة بريطانية تدعى (The Runnymede Trust) تعنى بأمور حقوق الإنسان والأقليات والعرقيات في المجتمع البريطاني، في تقرير لها بعنوان: «الإسلاموفوبيا: تحد لنا جميعا» بوضع مجموعة من المحددات أو العناصر التي متى وجدت فثم ظاهرة «الإسلاموفوبيا».. وهذه المحددات هي(2):
-1 النظر إلى الإسلام على أنه كتلة متجانسة أحادية جامدة لا تستجيب للتغيير.
-2 النظر إلى الإسلام على أنه كائن مستقل ليس له قيم مشتركة مع الثقافات الأخرى وهو لا يتأثر بها أو يؤثر فيها.
-3 النظر إلى الإسلام على أنه دوني بالنسبة للغرب.. بربري وغير عقلاني، بدائي وجنسي النزعة.
-4 اعتبار الإسلام عنيفا وعدوانيا ومصدر خطر مفطورا على الإرهاب والصدام بين الحضارات.
-5 اعتبار الإسلام إيديولوجية سياسية لتحقيق مصالح سياسية وعسكرية.
-6 الرفض التام لأي نقد يقدم من طرف إسلامي للغرب.
-7 استعمال العداء تجاه الإسلام لتبرير ممارسات تمييزية تجاه المسلمين وإبعادهم عن المجتمع المهيمن.
-8 اعتبار العداء تجاه المسلمين أمرًا عاديًّا وطبيعيًّا ومبررًا.
إن لائحة التهم هاته التي تستقي مدادها من محبرة الحقد والعداء، والتي تعمل جهات معينة على نشرها وتعميمها، ترسم صورة قاتمة عن الإسلام والمسلمين في المجتمعات الغربية، وتسهم بالتالي في تفاقم ظاهرة الإسلاموفوبيا، وفي تغذية المشاعر السلبية المتزايدة ضد المسلمين. مشاعر تتجلى في مظاهر الرفض والكراهية لكل ما يمت للإسلام والمسلمين بصلة، حتى أضحى لا يمر أسبوع أو اثنان إلا وتتناقل وسائل الإعلام واقعة جديدة في مسلسل الاشتباك مع الإسلام، فمن اعتقالات عشوائية إلى منع للحجاب، ومن منع للمآذن وحديث عن هدم بعضها إلى الطعن في نبي الإسلام والسخرية منه والتشهير من بابا الفاتيكان..
وفيما يلي بعض المشاهد التي تتجلى فيها مظاهر الخوف والتخويف من الإسلام (3):
الهجمات اللفظية والجسدية على المسلمين في الأماكن العامة. ولاسيما ضد الشباب والنساء اللواتي يرتدين الحجاب.
الاعتداء على المساجد وتدنيس مقابر المسلمين وذلك بالكتابة على الجدران وإلقاء القنابل الحارقة (4).
انتشار صورة نمطية سلبية عن المسلمين على نطاق واسع في وسائل الإعلام، وترويج هذه الصورة النمطية والملاحظات السلبية والأحكام المسبقة في الخطب السياسية والدينية وفي المحادثات والكتابات بشكل لن يكون مقبولًا إذا كان الحديث عن اليهود أو السود على سبيل المثال.
التمييز والإقصاء من الحصول على فرص العمل، وتوفير الخدمات.
استبعاد المسلمين أفرادًا وجماعات من مباشرة الشأن العام والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
البيروقراطية والجمود في الرد على طلبات المسلمين في التعليم والرعاية الصحية والترخيص لطلبات الحصول على المساجد.
قوانين الحد من الحريات المدنية التي تؤثر بشكل غير مناسب على المسلمين.
ولا نبالغ إذا قلنا إن تاريخ توتر العلاقة بين الغرب والإسلام يعود إلى اللحظة التي ظهر فيها الإسلام، أي إلى القرن السابع الميلادي. فظهور الإسلام وانتشاره ودخول شعوب نصرانية في دين الإسلام، والفتوحات الإسلامية التي حررت الشرق من الاستعمار الغربي (الإغريقي الروماني) الذي دام عشرة قرون، والفروسية الإسلامية التي اقتلعت الاستيطان الصليبي الذي دام قرنين من الزمان.. كل ذلك جعل هذه المؤسسة تصب جام غضبها وكامل حقدها على هذا الوافد الجديد الذي زاحمها في مناطق نفوذها واقتحم عليها معاقلها.
يقول مارتن لوثر مؤسس الكنيسة البروتستانية: «لقد استيقنت أنه لا يمكن عمل شيء أكثر إزعاجا لمحمد Mahmet أو الأتراك، ولا أشد ضررًا (من جميع أنواع السلاح) من ترجمة قرآنهم ونشره بين المسيحيين، عندئذ سيتضح لهم أي كتاب بغيض وفظيع وملعون هذا القرآن مليء بالأكاذيب والخرافات والفظائع» (5).
«واعتبر المسيحيون الأوروبيون من سماه المسلمون نبيًّا، وخاتما لسلسلة الأنبياء التي بدأت بآدم عليه السلام، رجلا عاش حياة داعرة، وتجاوز خبثه كل حدود الدناءة والانحطاط. ولم يتورع خيال مسيحيي أوروبا، المتعطشين للظفر والتوسع، والذي نتجت عنه أساطير وهمية عدائية، عن خلق الأكاذيب وترويجها» (6).
ومن ثم فقد عاش الغرب حتى يومنا الحاضر يجتر الصورة النمطية السيئة التي رسمها اللاهوتيون للإسلام والعرب منذ بداية علاقة الغرب بهما في القرون الوسطى. ورغم اختلاف وتنوع الأساليب التي صيغت بها تلك الصورة النمطية في العقل الغربي، إلا أنها حافظت على معالمها الرئيسة واستطاعت أن تتجاوز مختلف الظروف والملابسات وتصمد في وجه العديد من التغيرات التي حدثت في العلاقة بين الغرب والعرب على مر العصور.
المؤسسة الاستشراقية
تعد حركة الاستشراق واحدة من أهم وأخطر القنوات التي أسهمت في تشكيل الصورة النمطية المشوهة عن الإسلام والمسلمين، وترسيخها في مخيلة العقل الغربي الفردي والجماعي.
فالاستشراق بوجهه الكلاسيكي أو ما بات يعرف بـ«الاستشراق الجديد»، شكل القاعدة الخلفية والمصنع الفكري الذي يمد المُنصّر والمستعمر بالمواد والأسلحة المناسبة من أجل فرض السيطرة على شعوب الإسلام، وهدم عالم أفكاره.
وترجع الوسائل الفكرية التي استخدمها المستشرقون لتشويه تاريخ الأمة الإسلامية وتشويه حاضرها إلى الأصول التالية (7):
التشكيك في مصادر الدين الإسلامي وصحة نبوة الرسول " صلى الله عليه وسلم" .
إلقاء الشبهات حول أحكام الإسلام التشريعية ومصادرها.
المغالطات.
تزيين الأفكار البديلة.
افتراء الأكاذيب واختراع التعليلات والتفسيرات الباطلة.
التلطف في دس السموم الفكرية بصورة خفية ومتدرجة.
ومن الإنصاف أن نشير أنه بين حين وآخر يظهر من بعضهم إنصاف للحقيقة دون تحيز فتظهر شخصيات أوروبية مستنيرة لها وزنها تتخذ إزاء الإسلام بعض المواقف الإيجابية، ويحسب للحركة الاستشراقية أيضا عنايتها بالمخطوطات العربية في المكتبات الغربية، وفهرستها، وتحقيق العديد من أمهات الكتب العربية في شتى مجالات الفكر الإسلامي، والقيام بالعديد من الدراسات اللغوية المفيدة.
وسائل الإعلام... والدور المشبوه
تمكن الإعلام الغربي بتقنياته الهائلة وتأثيره الواسع من نحت صورة نمطية غاية في السلبية عن الإسلام والمسلمين، صورة تحمل كل صفات القبح والإرهاب والتخلف... وما شئت من النعوت القدحية.
وصدر في الآونة الأخيرة كتاب جدير بالاحترام لمؤلفه جاك شاهين بعنوان: «Reel Bad Arabs العرب السيئون.. كيف تشوه هوليوود شعبًا»، اشتغل عليه صاحبه زهاء عشرين عامًا، واستقصى فيه نحو ألف شريط سينمائي ووثائقي.. الكتاب أحدث صدمة في الأوساط الثقافية الأميركية لأنه خرج بنتيجة مفادها أن هوليوود كانت تمارس تشويها منظمًا ومقننا لصورة المسلمين على امتداد قرن من الزمان.
إن صناعة الخبر المشوه واستغلاله أيديولوجيًّا لتعبيد الطريق أمام الحملات القادمة على الإسلام قد دخل في أجندة وسائل الإعلام الغربية منذ أمد، فالمتتبع لهذا الإعلام يلاحظ أنه يقوم بتصيد بعض أخطاء المسلمين وينشرها ويعظم من شأنها ويؤكد أن هذا هو الإسلام، فجميع وسائل الإعلام وخاصة الإعلام السينمائي المرئي يصور المسلمين على أنهم مجموعة من البدو يتسمون بالهمجية والتخلف وأنهم مصدر كل بلاء، ولا تمل قنواتهم من عرض نفس الصور النمطية المكررة والمنتقاة بعناية تظهر مشهدًا خلفيًّا لأناس يصلون في العراء، وتجمعات حاشدة تولول وتهدد، ونساء منقبات، ووجوه ملتحية، وأفواه مفتوحة وعيون محملقة.
الإسلاموفوبيا... سبل التجاوز
ولتجاوز هذه الظاهرة ومعالجتها لابد من معالجة مجموعة من الأمور على رأسها:
الأفهام السقيمة لبني جلدتنا، فبعض أشكال الخطاب الإسلامي التي تميل إلى عدائية مفرطة تجاه الغرب يجب تجاوزها وسلوك طريق أكثر اعتدالًا يناسب رسالية الإسلام ووسطيته؛ فالصورة المشوهة عن الإسلام والمسلمين تؤول في نهاية الأمر إلى «الصد عن سبيل الله»، وهذا يوجب تحمل المسؤولية لمعالجة تلك التشوهات أو الإسهام في ذلك.
تجاهل صغائر الأمور يُميتها، فلا ينبغي للمسلمين أن يقيموا الدنيا ولا يقعدوها لكل تافه يريد أن تتسلط عليه أضواء الكاميرات أو ناعق كتب كتابًا أو رسم رسمًا.
لو أن كل كلب عوى ألقمته حجرا
لصار الصخر مثقالًا بدينار
إن أهم ما ينبغي على المسلمين فعله خاصة في البلدان الأوروبية هو أن يعكسوا الإسلام الحقيقي في سلوكهم، لأنك مهما حاولت أن تُروِّج لمُثل وأخلاق سامية موجودة في الإسلام، فلن تلقى من الآخر أذنًا صاغية إلا إذا رآها سلوكًا عمليًّا في أرض الواقع.
يحتاج المسلمون في هذه المجابهة إلى عمل مؤسسي منظم تقوم به مؤسسات ومراكز دراسات حتى يكون له الأثر المرجو في مستويات متعددة، بدلا من الجهود الفردية الراهنة سواء في مجال رصد ما ينشر أو يذاع عن الإسلام والمسلمين أم في مجال مواجهة ما ينشر في مختلف القنوات الإعلامية الغربية، على اعتبار أن الجهود الفردية تظل غير قادرة على تفعيل آليات المواجهة والرد والتصحيح، هذه المواجهة هي بالدرجة الأولى مواجهة فكرية، والفكر لا يقابل إلا بفكر.
يحتاج المسلمون إلى آلة إعلامية تضارع الآلة الإعلامية الغربية، فلا يمكن مجابهة ما ينشر في وسائل إعلامهم المجيشة، بالعاطفة والخروج في مسيرات ومظاهرات.. بل لابد من التركيز على إعلام محترف يعمل على التواصل المباشر مع المعنيين، وصياغة سياسة إعلامية تحول دون الاستمرار في إنتاج هذه الصورة، من خلال توضيح الأخطاء وكشف التحيزات... وإن اقتضى الأمر اللجوء إلى القضاء لإيقاف هذه التغطيات المغرضة والمجتزأة.
الهوامش
-1 انظر: HYPERLINK «http://www.nasuwt.org.uk» www.nasuwt.org.uk TACKLING ISLAMOPHOBIA Advice for Schools and Colleges p:3 HYPERLINK «http://www.plunder.com/Islamophobia-and-its-Consequences-on-Young-People-pdf-» http://www.plunder.com/Islamophobia-and-its-Consequences-on-Young-People-pdf- p:6
-2 انظر:HYPERLINK«http://www.runnymedetrust.org/
publications/17/32.html»http://www.runnymedetrust.org/
publications/17/32.html Islamophobia: A Challenge for Us All
-3 Islamophobia issues, challenges, and action :A report by the commission on british Muslims and islamophobia, p:7- 8
-4 لمزيد من التفصيل في هذه الاعتداءات ينظر تقرير منظمة حقوق الإنسان 2007 Hate Crime Survey: Islamophobia المنشور بموقعها الإلكتروني: www.humanrightsfirst.org
-5 الإسلام في التراث الغربي- دراسات ألمانية، ترجمة ثابت عيد، طبعة نهضة مصر القاهرة 1999 (سلسلة في التنوير الإسلامي) ص: 21
-6 الإسلام في التراث الغربي، ص 23.
-7 أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير- الاستشراق- الاستعمار، عبدالرحمن حبنكة الميداني، دار القلم، دمشق، الطبعة الثامنة 1420هـ- 2000م، ص: 138.
و لمزيد من المعلومات حول هذه الأدوار المختلفة للمراكز الاستيراتيجيّة، ينظر: الصراعات الأصوليّة والحداثةـ محمد سبيلا (الرباط، سلسلة المعرفة للمجتمع، طبعة عام 2000م) كما ينظر: الاستشراق والخلفية الفكريّةـ محمود حمدي زقزوق.
2/5/13113تح/ علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha