دار الأعراف للدراسات ـ بيروت
(( "الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدس" .....هو كتاب تضمن بحثا نقديا موسعا عن موضع الإمامة بين التحول والثبات لسماحة العلامة الشيخ جلال الدين علي الصغير...الكتاب صدر عن دار الأعراف للدراسات ـ بيروت1420 سنة هـ ـ1999 م، وقد وجدت " واحة الفكر في وكالة أنباء براثا" أن من المفيد إعادة نشر فصوله متسلسلة في هذا الوقت بالذات لتزاحم الآراء في موضع الإمامة ، إذ قدم سماحته هذا الموضوع بأسلوب مانع جامع وسهل على المتلقي دون أن يقحمه بمسالك تبعده عن الغاية من إيصال المعلومة..وبالتالي عنت سطور هذا البحث بتقديم توليفة فكرية ـ عقائدية ، تنسجم تمام الإنسجام مع معطيات العقل ومقبولاته، معتمدة على النصوص التي لا يخالطها شك إطلاقا في الموضوع المبحوث))
إن الكتابة ليست فعلا قائم بذاته، بل هي الخلاصة المنطقية لبنية فكرية متكاملة يتناولها الكاتب بناءا على صحة المعتقد، تشكل مقدمة الكتاب مدخلا صالحا وميسرا للولوج في أسباب صدور هذا البحث ـ الكتاب، ودون قراءة ما ورد في المقدمة نحسب أن القاريء سيبقى يردد أسئلة وردت إجاباتها في المقدمة...
هذه الحلقة وهي السادسة المستلة من كتاب سماحة الشيخ جلال الدين الصغير تتناول كيف أوصل القرآن الكريم عقيدة الإمامة الى المسلمين
ويتناول الشيخ الصغير وهو العارف والمؤمن بضرورة الإمامة الصفحة الثالثة من صفحات هذه الضرورة وهي المتعلقة بالإمامة الشاهدة وإمتدادها الزمني،حيث توصل سماحته ومن خلال الدليل القرآني الذي كما أشرنا في الحلقات السابقة الى حضوره الدائم في منهجه البحثي ، لأنه الدليل الذي لا يمكن لمسلم إلا الإقرار بوجوبه ، الى أن الشهودية مرتبطة بالنبوة والإمامة وهما من سنخ واحد ......
"واحة الفكر ـ وكالة أنباء براثا"
الإمامة الشاهدة
الملاحظ في شأن الإمامتين الخاصة بالتشريع والسياسة أنهما تشملان مهمة الإنذار والتبشير التي جعلت من ضمن المهام الجوهرية لعملية الهداية الربانية، ومن يلاحظ حديث القرآن عن ذلك يجد أنه قرن مع هاتين المهمتين مهمة ثالثة حينما عبّر بقوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)[184]. وكذا قوله: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)[185]وحيث رأينا توافق إمامتي التشريع والسياسة مع مهمتي الإنذار والتبشير فهل سنعثر على شاهد قرآني يكمل عملية التوافق هذه ويمدّها إلى الإمامة الشاهدة؟.
وإن عثرنا على ذلك فهل ستكون هذه الإمامة بنفس المواصفات التي استعرضناها فيما سبق؟.
وإذا ما تطابقت هذه الأوصاف فهل ستتفق في نفس الشخص؟.
ضمن ما افترضناه سابقا فلا بد من العثور على ذلك بأجمعه، لا سيما وأن شأن الشهادة لا يمكن القول بأنه قد استوفى أغراضه أثناء حياة الرسول (ص)، ولا حاجة له فيما بعد ذلك، فلو: رجعنا للغايات الإلهية التي تقف وراء الشهادة والتي تشير إليها الآية القرآنية الكريمة: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيمة إنا كنا عن هذا غافلين)[186] لوجدنا أن طبيعة إلقاء الحجة الربانية كاملة على بني آدم لا تتوقف عند قوم دون آخرين، وإنما يجب سريانها على جميع الأقوام والأمم، وذلك لأن هذه الغاية رافقت البنية التكوينية لبني آدم، ولذا فإن من الطبيعي بمكان أن يتلازم بقاء الجنس البشري مع بقاء هذه الحجة، وإن انتفاء أحدهما يستلزم انتفاء الثاني لاستحالة أن يقال أن الإرادة الربانية إرادة عابثة في مخلوقاتها.
ولا اعتقد أن ثمة عسر في الوصول إلى تلازم آخر، وهو تلازم الشهادة مع وجود المعاينة، فليس من معنى للشهادة بمعزل عن أن يكون الشاهد معاينا لم سيشهد به، ومع هذا الحال يتبدى للوهلة الأولى أن ثمة تناقض بين هذا المفهوم، وبين مفاد الآيات التي أشارت إلى شاهدية الرسول، وقد أشير إلى هذه الشاهدية بمعنى مطلق، الأمر الذي يعني أن شهادة الرسول لا تتوقف عند زمانه فحسب، بل هي تمتد إلى ما بعد زمانه الشريف بالمصاف مع إنذاره وبشارته (ص).
ولا يمكن حل هذا التناقض ألا بالقول بأن الشهادة دور ومهمة، وهذه المهمة يمكن أن توكَلَ إلى وكيل هو كالأصيل في إتمام هذا الدور، نتيجة لتحقق خصائص ومواصفات الشهادة في شخصيته، وهذا ما يلتقي أيضا مع جملة من الآيات القرآنية التي أشارت إلى وجود شهادات سابقة لحياة الرسول (ص) كما في الآية الكريمة: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)[187] وكذا في قوله تعالى: (ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء)[188] وهما يشيران وبوضوح إلى وجود شهادة لأنبياء ورسل وأوصيا الأمم، واعتبار الرسول (ص) الشاهد على هؤلاء جميعا، وحيث أن الرسول لم يكن حاضرا في حياة تلك الأمم، ولهذا لا يمكن فهم هذه الآيات إلا من خلال اعتبار شهادات الأنبياء (عليهم السلام) في طول شهادته (ص) أي هي شهادات وكلاء تتجمع لدى الوكيل الأصيل، وهذه الأخيرة ـ أي شهادته على الأمم السابقة ـ والتي تلتقي مع مفهوم كونه سيد الأنبياء والمرسلين، تستلزم أن يستمر دور الشهادة إلى الأمم اللاحقة لحياة الرسول (ص) فهو شاهد على جميع الأمم، وهذا ما يلتقي مع مفهوم نظرية النص الإلهي التي تعتمدها الإمامية[189]، والتي تعني استمرار دور شاهدية الرسول (ص) من خلال شهادة الأئمة (عليهم السلام) على مجتمعاتهم، ومن دون ذلك فإن الحديث عن استمرارية دور الرسول في الشهادة يغدو فارغا من محتواه، وذلك لاستلزامها لمواصفات لا يمكن أن توجد عند أحد غيرهم.[190]
ولو أردنا أن ندقق في شأن الشهادة وما تكتنف عليه طبيعتها لوجدنا أن الشهادة تحتاج إلى مواصفات أساسية : فالشاهد ينبغي أن يكون أعلم الموجودين بشأن ما يشهد به، وإذا كان مفاد الشهادة هو الرسالة، فلا بد إذن من أن يكون هو الأعلم بهذه الرسالة، سيما وأن بعض الآيات تتحدث عن تمكن الشاهد من الشهادة على بينات الله كما في قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من أمره ويتلوه شاهد منه)[191] وهذا أمر لا يمكن حصوله إلا من خلال علم استثنائي، فالرسالة إن كانت تعبر عن العلم الإلهي في بعض صوره، فالشاهد على تبليغه يفترض أن يكون علمه في مصافه، وأن يكون كذلك فالواجب أن يكون تلقيه لهذا العلم من معدنه، أي أن يكون علمه الهي، ومن قبل الله، مما يعني أن تعلمه لن يكون من خلال الطرق التقليدية للتعليم، وهذا ما يجعل الشاهد استثنائيا في علمه أيضا، ولن يكون هذا الشخص بهذا المستوى إلا من خلال كونه شخصا قد اصطفاه الله لذلك، وخصه بذلك.
والشاهد لا بد وأن يكون عادلا في الإدلاء بشهادته بحيث أنه لا يكتمها مهما كانت الظروف، فلا بد وأن يكون معصوما، إذ لا معنى لتعلق مفهوم الحجية على حضور الشاهد في الوقت الذي لا تكون فيه عملية الإدلاء بالشهادة محسومة بشكل قطعي، ولا قطع في هذا المجال من دون العصمة.
ويتأكد كل ذلك من خلال التأمل الدقيق في مرامي الآية الكريمة التي تتحدث عن مواصفات الشاهد حيث قال جل وعلا: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون . وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)[192].
فما أشار إليه سبحانه وتعالى هنا إنما هو الصورة الفضلى لهذه الأعمال، فليس الركوع هنا أي ركوع، وليس السجود هنا أي سجود، وليست العبادة هنا آية عبادة، وإنما هي الصورة في بعدها المطلق، ومما لا شك فيه أن هذه الصورة لا يمكن تحققها، إلا من خلال العصمة.
على إن ملكة العدالة والعلم في هذا المجال لا تكفي وحدها، وإنما لا بد من أن يكون لدى الشاهد قابلية الشهادة من حيث الاستعداد لحمل عبئها من جهة، والإحاطة بساحات الشهادة وأدائها (أماكن وأزمان) من جهة أخرى، فهذا القرآن يحدثنا عن إن زمن الشهادة العامة لا يسمح لكل أحد بالقيام بها كما في قوله تعالى: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا)[193] وقول الصواب المطلق كما ترى يستلزم من الشخص أن يكون بمؤهلات عالية عند الله، بحيث يدعه يتكلم في يوم وصف بأوصاف رهيبة من جملتها ما وصفته الآية الكريمة: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)[194]، وهذه المواصفات أقلّها أن من لم يكن مطمئنا على نجاته يومئذ، فهو في شغل عن الشهادة على نفسه ولها، فضلا عن الشهادة على غيره وله، وهذا الأمر هو الآخر يدلنا مرة أخرى على ضرورة أن يكون الشاهد من أهل العصمة على الأقل،[195] بحيث أنه يقدر ـ نتيجة لاطمئنانه ـ أن يشهد حينما يدعى للشهادة.
على إن هذه الأهلية إن لم تلتزم بوجوب تمتّع الشاهد بمواصفات استثنائية خاصة، تصطدم بإمكانية الشهادة على الجوارح، وتصطدم أيضا بالشهادة على عوالم الجن، وهؤلاء يدخلون في مقتضياتها، لتحقق الطلب الإلهي منهم بالعبادة، مما يستلزم الثواب والعقاب، ومعهما يصبح وجود الشاهد عليهم واجبا، ولكونهم أمم أمثالنا، وكذا الشهادة على عالم الملائكة بما فيهم ملائكة الوحي، فضلا عن الملائكة الكاتبين، لأن الملائكة أمة من الأمم، وهذه تدخل في مفاد قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا).[196]
ومن خلال كل ذلك نكون قد تحققنا من ضرورية امتداد دور الشهادة من النبوة إلى الإمامة، ورأينا في إبلاء دور الشهادة إلى الإمام أحد الشواهد على عصمته، وما نحتاجه بعد ذلك وجود النص الذي يشخّص الدور ويشخّص الشاهد.
والآية الكريمة: (ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)[197] كما نعتقد أنها قد قدمت جميع الأجوبة المطلوبة في هذا المجال، فهي تشخص أولا ديمومة وجود الشاهد لرسول الله (ص) لكونها قد أطلقت الحديث عبر فعل المضارعة (ويقول)، ومعلوم انه لا يتوقف عند زمان القول بل يمتد إلى آخر الزمن بعد أن أطلق بهذه الصورة دونما أي تقييد، ثم تمنحه العصمة بعد كل هذه الثقة به والتي يمكن تلمسها من خلال كل هذا الجزم في عدم تخلفه عن الشهادة والمعبر عنه بكلمة: (قل كفى) حيث تم قرن شهادته مع شهادة الله سبحانه وتعالى، ومن ثم دللت على المستوى العلمي الكامل الذي بلغه هذا الشاهد والذي عبرت عنه الآية بالقول: (ومن عنده علم الكتاب) ليكون أولا دليلا على العصمة، وثانياً دليلاً على قدرته على الشهادة، وثالثاً دليلا على عدالته لثقة السماء بعدم تخلفه عن أداء الشهادة، ومن ثم ليتلاقى الجميع مع ما رأيناه من المواصفات التي أوليت لإمامة التشريع وإمامة السياسة والحكم.
ولا يبقى بعض كل هذا التشخيص للمواصفات إلا الإفصاح عن هوية هذا الذي عنده علم الكتاب.
وقد أبانت آية: (الذي عنده علم من الكتاب)[198] الإمكانية الفلسفية والعقلية على أن ينال الإنسان كل علم الكتاب، ولكن بعد التكامل المعنوي والروحي، ولهذا نعرف: إن من السخف بمكان أن يولى هذا الوصف المؤطر: بالذي (عنده علم الكتاب) إلى من لم تتكامل عنده جوانب الشخصية بالصورة التي توصله إلى دائرة العصمة المطلقة، ويسير في مقام التفاضل المعنوي بحيث يصل إلى موقعية أعلى بكثير من آصف بن برخيا كي يبلغ درجة التكامل بالصورة التي عنتها الآية الكريمة، ومع ذلك نعرف مدى التخبط الذي وقع فيه مفسرو أهل العامة ومعهم محمد حسين فضل الله[199] حينما خصّوا بها علماء أهل الكتاب من أمثال عبد الله بن سلام وتميم الداري وعبد الله بن صوريا وأمثالهما، في الوقت الذي نعرف أن لا أحد يدعي أنه وصل إلى درجة معتدة من الكمال فضلا عن تمامه.
وهذا وقد أجمعت رواية أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) على اختصاص الآية الكريمة بهم كما في الصحيحة التي يرويها سعد بن عبد الله، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد بن عمرو، عن عبد الله بن الوليد السمان قال: قال الباقر (عليه السلام): يا عبد الله ما تقول في علي وموسى وعيسى؟ قلت: ما عسى أن أقول فيهم؟ قال: هو والله أعلم منهما، ثم قال: ألستم تقولون: إن لعلي ما لرسول الله من العلم؟ قلت: نعم، والناس ينكرون. قال: فخاصمهم فيه بقوله تعالى لموسى: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء) فعلمنا أنه لم يكتب له الشيء كله! وقال لعيسى: (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) فعلمنا أنه لم يبين الأمر كله.
وقال لمحمد (ص) (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)[200]. قال: فسئل عن قوله: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) قال: والله إيانا عنى، وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد رسول الله (ص).[201]
وكذا في صحيحة علي بن إبراهيم، قال: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الذي عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين (عليه السلام) وسئل عن الذي عنده علم من الكتاب أعلم؛ أم الذي عنده علم الكتاب؟ فقال: ما كان علم الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ألا إن العلم الذي هبط به آدم من السماء إلى الأرض وجميع ما فضل به النبيون إلى خاتم النبيين في عترة خاتم النبيين.[202]
ولا نطيل الحديث في ذلك لكوننا تحدثنا في كل ما أحيط بهذا الموضوع من تشكيك أو تحريف ضمن مناقشة مفصلة في كتابنا من عنده علم الكتاب.
ولكن يبقى أن نشير إلى أننا لا نستغرب حينما نجد إن نفس مشخصات الإمامة على مستوى الدور وعلى مستوى المصداق قد اتفقت في المواضع الآنفة (التشريع، والسياسة، والشهادة).
1451311/ تح: علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha