توطئة في المفاهيم:
أشرنا في كل دراساتنا السابقة في فلسفة التاريخ الى منهجنا العلمي باعتباره يتبع المنظور الاسلامي في فهم وتحليل أوليات وأسس نظرية نهاية التاريخ، فالموقف الالهي من التاريخ هو موقف تكويني باعتباره عز وجل هو المكون الاوحد والموجد للوجود بما يحمل من حقيقة، إن ايماننا بالنهاية لا يتنافى وإيماننا بكل الحوادث المؤدية اليها، بل ان طبيعة المقدمات وحقيقتها تؤدي الى حقيقة النتائج المترتبة عليها
قلنا سابقا ان الامام المهدي (ع) شخصية حقيقية وليست اسطورية، وان معاصرته المستمرة لوقائع حركة التاريخ قد شكلت على الدوام زخما معرفيا لا متناهيا، ومثلت استيعابا كليا لحركة التاريخ من منطلق العصمة. فعلاقة الانسان بالمستقبل تخضع لمنظومة العلاقات التفاعلية، فكما يؤثر المستقبل في الانسان فان هذا الاخير يؤثر بالمستقبل بشكل متبادل، ووفق هذه العلاقة التفاعلية يصبح المستقبل نتاجا لوعي الانسان وطبيعة عمله.
هذا المنظور يؤكد غائية حركة التاريخ من موقف اسلامي مما يؤكد ايضا قيمة الانتظار كفعل مستمر يتاسس على حقائق واقعية تختلف تماما عن موقف الفلسفات الوضعية والمثالية في فهم حركة التاريخ.
الانتظار منظومة فكرية وتاريخية:
لا يمكن تفسير عملية الانتظار من خلال التواكل السلبي دون الفعل، وإلا ستؤدي هذه الفكرة الى تسطيح عقيدة الانتظار وتحويلها الى مجرد تداعيات تاريخية غير منتظمة، وستفقد تأثيرها في استعادة الوعي الجمعي وتطوير منظومة العلاقات الفكرية والاجتماعية باتجاة يوم الظهور.
ومن هنا فان التوكل على الله خلال مراحل الانتظار فانما يعني العمل المتواصل في تطوير العلاقةات الايجابية بين الانسان والله، وتحقيق العلاقة بين العلة والمعلول، وفي هذا المجال يقول العلامة الاستاذ الطباطبائي: " وحقيقة الامر أن مضي الارادة والظفر بالمراد في نشأة المادة يحتاج الى أسباب طبيعية وأخرى روحية والانسان إذا أراد في أمر يهمه وهيأ من الاسباب الطبيعية ما يحتاج اليه لم يحل بينه وبين مايبتغيه إلا اختلال الاسباب الروحية كوهن الارادة والخوف والحزن والطيش والشره والسفه وسوء الظن وغير ذلك من أمور عامة، وإذا توكل على الله سبحانه وفيه اتصال بسبب غير مغلوب البتة وهو السبب الذي فوق كل سبب قويت إرادته قوة لا يغلبها شيء من الاسباب الروحية المضادة المنافية فكان نيلا للسعادة ". (1)
من هنا ايضا لا يمكن ان يصبح الانتظار موقفا سلبيا من الحياة أو من التغيير المنتظر، فلا قيمة للانتظار اذا كان سيعني الركون الى الصمت والى التخلي عن تفاعل الاسباب من اجل تحقيق غائية الحدث، ومن جل ذلك يجب إدراك قيمة الحدث الذي ننتظره ليكون للانتظارنا وتفاعلاتنا معه معنى حقيقيا.
ووفق هذه الرؤية فان موقفنا التاريخي والفلسفي من الانتظار يؤكد على: " ان الانتظار يمثل حقيقة صيرورة الامة كمنظومة فكرية وتاريخية وانسانية متكاملة تقود حركة التاريخ الاسلامي باتجاه يوم الظهور المبارك ". (2)
إن التعامل السلبي مع الانتظار سيؤدي الى خلق نقطة فراغ أو فجوة تمثل شكلا من القطيعة بين الواقع والاهداف، فبينما تعمل الامة على تحقيق غاياتها فانها تسلك في الكثير من الاحيان سبيلا غير واقعيا ولا يؤدي الى حقيقة الاهداف التي سعت من أجلها لانها في الغالب لا تدرك حقائق غاياتها، ومن هنا على الامة ان تدرك قيمة الغاية ادراكا واعيا وهنا يأتي أهمية تطور الوعي الجمعي كما قلنا في بحوث سابقة.
نهاية عصر الانتظار:
وفقا لكل التحولات التاريخية والاجتماعية والنفسية للقرون العشرة الاخيرة فاننا نعاصر الان المراحل المتبقية من عصر الانتظار. مما يعني أن الكثير من العلامات التي تحدثت عنها الاخبار قد بدأت بالتحقق وما هذه التحولات الكبيرة في الدول العربية خاصة وفي العالم عامة إلا مؤشرات حقيقية على إقتراب النهاية، لاعتبارات الحتمية التاريخية.
لا شك ان الجنس البشري قد خطى خطوات بعيدة في قضية الانتظار، واجتاز خلال الالف سنة الماضية معظم علامات الظهور العامة والخاصة بضمنها عناصر الصراعات التاريخية والظواهر الطبيعية، ولما كنا قد اشرنا في دراساتنا في العرفان وفلسفة الوجود الى الترابط بين عالمي الوجود والتكوين فاننا لا يمكن ان نفصل المتغيرات الكونية والطبيعية الحالية عن عملية التحظير لمرحلة الظهور، فالمكتشفات الفلكية خلال القرن الاخير قد اوجدت أسسا معرفية حديثة استطاعت تعريف ظواهر كونية تتفق مع الموقف الديني مما نسميه علامات الظهور وهذه سنخصص لها دراسات تحليلية خاصة.
أما الظواهر الطبيعية (الزلازل، البراكين، أمواج المد العالي – تسونامي- وزحزحة الصفائح التكتونية) وغيرها كثير تؤكد كلها على التفاعل السلبي بين الانسان والطبيعة مما اوجد حالة من التنافر بين فكر الانسان والوجود.
لم يتعلم الانسان كيف يتوافق مع الطبيعة ويتكامل مع منهجها التطوري، فعلاقة الانسان بالطبيعة علاقة استغلالية واستهلاكية وليست علاقة انمائية، وقد انشأت هذه العلاقة السلبية نوعا من التناقض بين الكيانات ادت بالتالي الى ان تقوم الطبيعة بحماية نفسها ضد العبث البشري، حيث اودع الله فيها نظاما تعويضيا يساعدها على العودة الى حالتها الاتزانية الاولى، واذا كانت الزلازل والبراكين والفيضانات عقابا الهيا على انحرافات الجنس البشري، فانها في ذات الوقت تعيد دورة الحياة الى حالة السكون بعد الانفعال ليعاد ترتيب المنظومات الوجودية من جديد.
في بعض أحاديث اليماني:
أولا: عن الامام الصادق عليه السلام: " خروج الثلاثة الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد وليس فيها راية بأهدى من رايو اليماني يهدي الى الحق ". (3)
ثانيا: " ثم يخرج ملك من صنعاء اسمه حسين او حسن/ فيذهب بخروجه غمر الفتن، يظهر مباركا زاكيا، فيكشف بنوره الظلماء، ويظهر به الحق بعد الخفاء ". (4)
ثالثا: عن الامام الصادق عليه السلام: " قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني والسفياني والصيحة وقتل النفس الزكية والخسف بالبيداء ". (5)
أما سبب ان تكون راية اليماني اهدى من راية الخراساني مع " ان رايات أهل المشرق عامة موصوفة بالهدى "، فهناك عدة آراء اشهرها قول الشيخ علي الكوراني: " يحتمل ان يكون السبب في ذلك أن الاسلوب الاداري الذ يستعمله اليماني في قيادته السياسية وإدارة اليمن أصح وأقرب الى النمط الاداري الاسلامي في بساطته وحسمه. بينما لاتخلو دولة الايرانيين من تعقيد الروتين وشوائبه ". (6)
ولكني اعتبر ان هذا التوصيف اقل دقة ولا يفي في تفسير هذا المعنى، واتفق اكثر مع رأيه (الكوراني) حين يقول: " لكن المرجح عندي أن يكون السبب الاساسي في أن ثورة اليماني أهدى أنها تحضى بشرف التوجيه المباشر من الامام المهدي (عجل الله فرجه) وتكون جزءا مباشرا من خطة حركته (عليه السلام) وأن اليماني يتشرف بلقائه ويأخذ توجيهاته منه ". (7)
من البديهي عقلا ان تكون حركة تحررية وعقائدية مثل حركة اليماني وهي تؤسس لمرحلة تاريخية لما قبل الظهور مرتبطة بالامام المهدي عليه السلام، ليس فقط بأعتبار انها تمثل احدى حلقات عصر الظهور الأساسية، بل لأنها تعكس طبيعة الحتمية التاريخية لعصر الظهور.
ثورة الوعي الجمعي:
إن المنهج الاصلاحي لنهضة الامام المهدي (ع) يعكس طبيعة كل الحركات والثورات التاسيسية لعملية الظهور المبارك، ممنا يعني حتمية ان تكون حركة اليماني كما حركة الخراساني فعلاً اصلاحياً يعمل على استنهاض الوعي الجمعي في مجتمع اليمن أولا ثم الانتقال الى نشر هذا الوعي في المحيط العام، وإذا لاحظنا النهضات التحررية المعاصرة للشعوب العربية الحالية يمكن ادراك اسباب بدء حركة اليماني، وبالعودة الى الوضع الماساوي لليمن حاليا ومحاولة السلطة لاغراق الشعب اليمني بالطروحات السياسية السلبية، والمناهج الاقتصادية المنحرفة والامعان في تخديره المستمر من خلال مشاركة السلطة في زراعة (القات) (8) والتشجيع على انتشاره من خلال سن قوانين لا تمنع زراعته او الاتجار به، هذا غير التماهي بين رجال دين السلطة (فقهاء السلاطين) ورغبة الحكام في الاستمرار في الافساد الاجتماعي والفكري عبر فتاوى تقيد حرية الانسان وتعمل على تجميد فكره في حدود الطاعة العمياء للحاكم حتى وإن أفسد الحاكم سياسيا واجتماعيا وفكريا. وكل هذه الاراء ما هي الا نتاج للحركة الوهابية التي تقف على النقض من الحياة ومن حركة التاريخ.
لا شك ان الواقع السلبي لاي مجتمع يمكن ان يكون ارضا خصبة للعمل الاصلاحي سعيا وراء التغيير، وحركة اليماني التي أتوقع ظهورها خلال المرحلة القادمة ستقود حركة الاصلاح في الجزيرة العربية ككل وستكون من جانب آخر احد اهم عناصر مرحلة الظهور.
.............................
1- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن: 4/65.
2- البياتي،الاستاذ الدكتور وليد سعيد، فلسفة نهاية التاريخ: 1/135.
3- المجلسي، محمد باقر، البحار: 52/210.
4- الكاظمي، مصطفى آل السيد حيدر، بشارة الاسلام: 187.
5- البحار: 52/204.
6- الكوراني، الشيخ علي، عصر الظهور: ط/10/115-116.
7- المصدر السابق/117.
8- في عام (1997 ) كانت الاراضي المخصصة لزراعة اشجار القات حوالي (80,000 هكتار) من ، ثم زادت هذه المساحة عام (2000) لتصبح (103,000 هكتار) تقريباً و(123,933 هكتار) عام 2005. هذا غير الاستهلاك العالي للمياه الذي تستوجبه زراعته,
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
dr-albayati50@hotmail.ci.uk
http://al-muammal.blogspot.com
المملكة المتحدة – لندن
21 / آذار / 2011
26/5/1231
https://telegram.me/buratha