(( "الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدس" .....هو كتاب تضمن بحثا نقديا موسعا عن موضع الإمامة بين التحول والثبات لسماحة العلامة الشيخ جلال الدين علي الصغير...الكتاب صدر عن دار الأعراف للدراسات ـ بيروت1420 سنة هـ ـ1999 م، وقد وجدت " واحة الفكر في وكالة أنباء براثا" أن من المفيد إعادة نشر فصوله متسلسلة في هذا الوقت بالذات لتزاحم الآراء في موضع الإمامة ، إذ قدم سماحته هذا الموضوع بأسلوب مانع جامع وسهل على المتلقي دون أن يقحمه بمسالك تبعده عن الغاية من إيصال المعلومة..وبالتالي عنت سطور هذا البحث بتقديم توليفة فكرية ـ عقائدية ، تنسجم تمام الإنسجام مع معطيات العقل ومقبولاته، معتمدة على النصوص التي لا يخالطها شك إطلاقا في الموضوع المبحوث))
إن الكتابة ليست فعلا قائم بذاته، بل هي الخلاصة المنطقية لبنية فكرية متكاملة يتناولها الكاتب بناءا على صحة المعتقد، تشكل مقدمة الكتاب مدخلا صالحا وميسرا للولوج في أسباب صدور هذا البحث ـ الكتاب، ودون قراءة ما ورد في المقدمة نحسب أن القاريء سيبقى يردد أسئلة وردت إجاباتها في المقدمة...
هذه الحلقة تسبر غور القرآن الكريم ليس بطريقة التفسير الأعتيادية بل للبحث عن الإجابة على السؤال الكبير الذي تشكل لب العقيدة الإمامية والتي يحسب "الإماميون" أنها جوهر إكتمال الدين..
ويتناول الشيخ الصغير وهو الإمامي الى النخاع وبمنطق المؤمنين العارفين بما يعتنقون معرفة التماهي " ضرورة الإمامة" من خلال الأدلة القرآنية على أعتبار أنها أدلة ملزمة لكل الأمة، من تركها كان على ضلال ومن تمسك بها كان متمسكا بالعروة الوثقى وهو على خير...
"واحة الفكر ـ وكالة أنباء براثا"
ضرورة الإمامة
نحاول في هذا المبحث أن نتلمس الأدلة القرآنية على اعتبار الإمامة ضرورة من ضرورات الرسالة الاسلامية، بمعزل عن الاسقاطات الطائفية في هذه المجال، وسنعالج ذلك من خلال العثور على المباني القرآنية لما تحدثنا عنه من قبل وقلنا بأن ثمة ستة مقامات للإمامة قد افترضنا وجودها في القرآن، وأعني بذلك الإمامة الشاهدة، وإمامة التشريع، وإمامة الوجدان، وإمامة السياسة والحكم، وإمامة الوجود، وإمامة الآخرة، ونحاول تطبيق هذه المقامات على تلك المواصفات التي دلّتنا عليها الاية الكريمة : (قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) وأعني بها ضرورة النص وعصمة المنصوص عليه، وامتداد الإمامة وعدم توقفها عند محطة الخاتمية النبوية، وتشخيص جهة المنصوص عليه.
فإن تطابقت هذه مع تلك بمجموعها فمن الواجب الرضوخ لمتطلباتها، خاصة وان افتراض تطابق كل واحدة من هذه المقامات الستة، مع كل واحدة من المواصفات الأربع، لن تكون بأي شكل من الأشكال نتاج حالة اعتباطية أو لمجرد الاحتمال، فهذا التوافق والتطابق لا بد وأن يحكي تكاملا في المنظومة التي تضمهم جميعاً، والقول ببعضها دون البعض الآخر يمثل صدعا فيها وتشويها لها.[138]
وقبل أن نلج في عباب الموضوع، لا بد وأن أعرض لواحدة من أساسيات المنهج الذي نعتمده في هذا الكتاب، وهو أننا هنا لسنا في صدد الحديث عن إمامة أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) وهو ما نعتقد أنه حق الدين والإيمان، وخلافه خروج عن دائرة الإيمان، ولكن ما يهمنا هنا هو محاولة تسليط الضوء على المفهوم القرآني للإمامة، بمعزل عن هوية الإمام الشخصية، وإن كنا تعمدنا التوقف عند هويته المفهومية، وقد تركنا كل ذلك لكتابنا: (الإمامة بحث في الضرورة والمهام).
وسبب ذلك يعود إلى أننا نرغب في قطع القارئ الكريم عن المسبقات والمسلمات الطائفية، ونحاول إبعاده عن اسقاطات واقع التأريخ السياسي والديني والمذهبي وتداعياتها، حيث نعتقد أن هذه الاسقاطات تلك التداعيات هي التي حجرت على قطاع كبير من المسلمين أن يقفوا من مسالة الإمامة موقفهم اللامبالي، وهو الذي أودى بالنتيجة إلى ما ألفناه في الواقع السياسي من سيطرة الأطر غير الإسلامية على هذا الواقع بحجة خلو النظام الإسلامي من الترابط الواقعي بين مسألتي الشرعية والسلطة واللتان يعتبرن من ركائز أي واقع سياسي يعتمد أسس الثبات الشرعي وتنظيم العلاقة الطبيعية بين الحاكم والمحكوم وبين الإمام والمأموم.
إن ما نريد فعله هنا هو تحرير العقلية من المسبقات التي يمكن لها أن تكبّلها فتمنعها من رؤية الحقيقية المجردة بمعزل عن ما خلّفته التراكمات التاريخية وسبل تبرير الواقع السياسي والديني الذي هيمن على التأريخ الإسلامي، وقد كان لهذه التراكمات أكبر الأثر في إيجاد حشد هائل من النصوص والنصوص المضادة حيث لعبت المصالح السياسية والمذهبية لتستخدم السذاجة الشعبية والممتزجة بالبراءة في الكثير من الأحيان، والجهل المقنّع برداء الحرص على التراث في إبعاد العقل الإسلامي عن أن يشقّ طريقه بتجرد سعياً وراء الحقيقة.
وقد ساهمت ردة الفعل الشيعية، وأوضاع الصراعات المذهبية، وواقع العنت السياسي والطائفي والثقافي المسلّط على التشيع من الأطر السياسية والفكرية التي حكمت أوضاع التأريخ السياسي والفكري في أن تبتعد بعض منتديات علم الكلام الإمامي عن تسليط الضوء على مفهوم القرآن عن الإمامة إلى الانهماك في بحث الفاضل والمفضول، وموقع الواحد من الثلاثة، على الرغم من اعتراف هذا الجمع بأن الإمام لا يمكن أن يقاس به أي واحد من أفراد البشر، وبالتالي فأين مقايسة أمير المؤمنين (عليه السلام) من أي أحد من أفراد البشر فيما خلا الرسول وأهل بيته الأطهار (صلوات الله على أنوارهم الزاكيات)؟.
ولكن بطبيعة الحال ليس هذه الأبحاث مما يخلو من فائدة، بل على العكس فإنها أسهمت بشكل جدي في تنمية وعي معين بالنسبة للإمامة، ولكن هذا لا يمكن مقايسته بما لو تم العمل على كشف المفهوم القرآني عن الإمامة، ومن ثم ليجعل المسلم قبالة أحكام القرآن القطعية التي من شأنها أن تعرّي حقيقة كل واقع التاريخ السياسي والفكري الإسلامي، بصورة تجعل أي مقايسة للإمام بغيره من أبطال ذلك الواقع وصنعته بمثابة إهانة كبرى تلحق بالإسلام ورجاله الأمناء على أسراره والحفظة على كتاب (صلوات الله عليهم أجمعين).
إمامة التشريع
تشير الآية الكريمة: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب)[139] إلى حقيقة أن هذا الكتاب لا يكفي بمفرده ليعالج مشكلة هداية الناس وسوقهم نحو الطاعة لله، وذلك لأنه يحوي محكمات ومتشابهات، وهذه المتشابهات مرتبطة بتلك المحكمات، غير أن إرجاع كل آية إلى موضعها ضمن تعقيدات الحياة المختلفة عملية تنطوي على مخاطر متعددة، فالذي يريد القيام بهذه العملية إما أن يقع أسيرا لأهواء نفسه في رغبته للتخلص من الخطر أو رغبتها في الاستزادة من الدنيا، فيضع النص القرآني بدوره أسيرا لمراميه ومآربه (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) فيفتن الناس ويضلهم سعيا وراء طموحاته وأهدافه المتحركة من أهواء النفس وزيغ الشيطان، وذلك وفق ما صورته الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)[140].
وإما أن يكون جاداً في وصوله لتأويل هذه المتشابهات، ولكن لطبيعة أن هذا الكتاب قد أرسل من قبل الجهة الربانية، وعلمه مختص بمن توليه هذه الجهة أسراره بحيث يكون هذا العلم إما متساوياً مع ما في الكتاب من علم أو أكثر منه، لاستحالة أن يكون أقل منه باعتبار أن فاقد الشيء لا يعطيه، لذا فلا يمكن تصور أن بمقدور أي إنسان شاء أن يستطيع سبر أغوار هذا الكتاب (وابتغاء تأويله) فيضلّ الناس عن بلوغ مرامي الكتاب حتى لو رغب صادقا في تأويل الكتاب، فتأويله سيأتي بمقدرة عقل مهما قلنا فيه فسيبقى ناقصا، وكيف يمكن لناقص أن يفسر كاملا؟.
وفي كلا الحالتين نرى الجهد البشري يتخلف عن الوصول إلى حقائق هذا الكتاب لخصوصياته التي جعلت فهمه الكامل والشامل منحصرة في جهة خاصة هي التي عبّرت عنها الآية الكريمة بدقة وحزم: ( وما يعلم تأويله إلا الراسخون في العلم).
ومعها فإن ثمة تساؤلات طبيعية ستفرض نفسها عن هذه الجهة التي سميت بـ (الراسخون في العلم) هوية وطبيعة، ومقدار ما نالته من العلم؟ وطبيعة هذا العلم هل هو كسبي.. وبالتالي يمكن الوصول إليه؟.
أم هو نمط آخر من العلم الذي لا يناله إلا من اصطفاه الله لعلمه واجتباه لحفظ أسرار كتابه؟ خصوصا إذا ما لاحظنا أن بعض آيات الكتاب الكريم كانت قد تحدثت عن طبيعة غير عادية بالنسبة لهذا الكتاب، وأولته إمكانات هي في أدنى حدودها الطبيعية فوق ما يسمى بعالم الطبيعة كما في قوله جل من قائل: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا)[141].
أو في قوله تعالى اسمه: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)[142].
إن مقتضى الإطلاق في مفردة الراسخين في العلم تستدعي أن يكون هذا العلم علماً شمولياً في كتاب وصف بأن فيه تبيان كل شيء[143]، ومثل هذا العلم لا يتصور الكسب فيه، وإنما يحتاج إلى القابلية التي تجعل حامله ذا قدرة على حمله، ومثل هذه القابلية لها اتجاهان، فمرة قابلية جهة العلم الأصلية على العطاء، وبكلمة أخرى هل أن الله يمنح هذا العلم أو لا؟ وما من شك هنا في أن الله الذي وصف نفسه بصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء له قابلية المنح، يبقى السؤال عن وجود القابل الإنساني لتحمل مثل هذا العلم الذي يترفع على أهواء النفس وأمراضه من جهة، ويستعصي على طالبي التأويل لمجرد طلبهم، وقد أشار القرآن الكريم لوجود الجهة التي جملت هذا العلم، والتي عبّر عنها بجهة (الراسخين في العلم) حيث لا يمكن تصور أن الله جل شأنه يتحدث عن جهة لا وجود لها.
ومن كل ذلك يتبين لنا في المرحلة الأولى إن هذا العلم قد منح إلى جهة إنسانية، وان الممنوح لا بد وأن يتمتع بمواصفات خاصة تجعله بعيدا عن زيغ القلوب وأهواء النفس، وطبيعته العلمية تنأى به عن الجهل وعدم الحكمة في التعاطي مع مسائل هذا العلم ويكون ارتباطه مع هذا العلم ارتباط الراسخ مع المرسوخ بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر.
مبدئيا لا يمكن التخلي عن حقيقة أن الرسول الأعظم (ص) هو أحد هؤلاء الراسخين في هذا العلم والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل أن ما أعطي للرسول (ص) لم يعط غيره؟.
إن افتراض أن هذا العلم أعطي لجهة الهداية بأطرافها الثلاثة الإنذار والتبشير والشهادة، يستدعي القول بأن طبيعة المهمة التي أنيطت بعاتق الرسول (ص) يفترض أنه لم يكن الوحيد في هذا المجال لأسباب عدة أذكر منها اثنين فقط:
الأول: إن الله الكريم في جوده، والوهاب في رحمته حينما ينزل بالعلم على عباده، فمن أجل الرحمة بهم وسوقهم نحو مكامن الهداية، ولكي يتم حجته على عباده، وهذا مقتضى أن يكون صاحب الحجة البالغة (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين)[144] وأمر كهذا لا يتوقف على حياة رسول الله (ص) بل يمتد حتما إلى ما سواه حتى يتحقق المراد الإلهي، وهذا هو مفاد روايات شريفة متعددة كما في صحيحة الفضيل بن يسار حيث روى عن الإمام الباقر (ع) قوله: (إن العلم الذي نزل مع آدم لم يرفع، وما مات عالم فذهب علمه وإن العلم ليتوارث، إن الأرض لا تبقى بغير عالم).[145]
الثاني: إن الحياة العملية تثبت أن الرسول الأكرم (ص) لم يكن متفرغا لإلقاء الصورة الظاهرية لهذا العلم، فضلا عن صورته الحقيقة، ومضامينه التفصيلية، وصيغه التطبيقية بل إن ما عاشه من حروب وأزمات سياسية، وطبيعة العقلية الاجتماعية المهيمنة، والمستوى الروحي الذي كان يتمتع به المجتمع الذي كان يعايشه لم تمكّنه من إبلاغ هذا العلم إلى المسلمين بالطرق العادية، ولم تكن الحالة العقلية للمسلمين بالدرجة التي تسمح للرسول (ص) بمجرد الاطمئنان لما حصل من تقدم علمي فضلا عن تكاملهم العملي.
وليس أدل على ذلك من اتفاق جمهور المسلمين على أن المجتمع الذي عايش الرسول (ص) لم يكن قادرا على تشخيص الكثير من بديهيات التشريع كما في اختلافهم في مقدار التكبيرات المطلوبة للصلاة على الميت أثناء الصلاة على الرسول (ص) فلقد أخرج الطحاوي عن إبراهيم قوله: (قبض رسول الله والناس مختلفين في التكبير على الجنازة لا تشاء أن تسمع رجلا يقول: سمعت رسول الله يكبر سبعا، والآخر يقول: سمعت رسول يكبر خمساً، وآخر يقول: سمعت رسول الله يكبر أربعاً.[146]
بل أكثر من ذلك فسنراها تمتد إلى بديهيات العقيدة والحياة، فنحن إذا ما حملنا قولة عمر حينما تناهى إليه خبر وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على ظاهرها وأخرجناها من حيثياتها السياسية حيث قال: من للمدائن والروم.. إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس بميت حتى نفتحهما ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى.[147]
هذا بالرغم من إن الرسول (ص) سبق له وأن أراهم كيفية الصلاة على الميت عمليا من خلال مئات المرات التي صلى بها على موتاهم!!، وخاطبه مرارا وتكرارا بأنه ميت وإنهم يموتون، وقرآنه لهج بذلك بغير مرة فقال جلت قدرته: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)[148]وقال أيضا: (إنك ميت وإنهم ميتون)[149].
إزاء هذه الصورة العجيبة كيف يمكن تصور مصداقية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يترك رسالته لأمة كهذه؟ في وقت كان يصف فيه رسالته بأنها جاءت رحمة لكل العالمين لقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[150] ولا يمكن التخلص من ذلك إلا من خلال الركون إلى حقيقة أن البديل لا بد وان يمثل الامتداد الكامل لدور الرسول (ص) مما يجعل مسالة وجوب أن يكون هناك شريك لرسول الله (ص) في الرسوخ بهذا العلم أمرا لا مندوحة عنه!!.
وبلحاظ أن هذا العلم هو كمال كله، فلا يفترض أن العقل البشري[151] بقادر على الإحاطة بهن، بل يلزمه عقل يستطيع أن ينوء بجميعه أو بما هو أكثر منه، وافتراض أن يكون العقل دون ذلك يفضي إلى أن إبلاغ الحجة الإلهية سيكون ناقصا لنقص علم المبلّغ بها، وهذا ما يتنافى مع مبدأ (الحجة البالغة)، فكيف؟ والحال أن مرمى هذا العلم أن يتوصل به الإنسان إلى عبادة اليقين لقوله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)؟[152].
ومن خلال ملاحظة أن من وصف بالرسوخ في العلم هنا قد أطلق القرآن علمه بالتأويل، مما يعني أنه لا يخضع لمعايير الفتنة النابعة من القلوب المريضة والزائفة، ولا يخضع لمعايير الجهل التي تبعد بالتأويل عن مرماه الحقيقي، هذا ناهيك عن أن علم هكذا كنهه لا يمكن أن يتخلف العمل بمقتضاه عنه، مما يعني أن هذه الجهة معصومة حتماً.
وإن كان الأمر كذلك، فلا بد وان نلقى صدى الامتداد الذي لا يقف عند رسول الله (ص) فحسب في بقية الآيات القرآنية، ولربما تأتي الآية القرآنية الكريمة: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)[153] لتكشف عن هذه الحقيقة بجلاء ووضوح، ففعل الأمر هنا (فاسألوا) لا يتعلق بزمان دون غيره بل هو يمتد إلى كل الأزمان، ويخص جميع الأقوام، وهو مبدأ عقلي أيضا.
وأياً كانت التفاسير،[154] فلا بد من وجود جهة غير الرسول (ص) تجمّع لديها كل ذلك الذكر والعلم بحيث أصبحت أهلاً له ومعروفة به، وبالتالي فإن جهة العلم أصبحت متعددة لا تختص بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، وإنما لديها من العلم ما للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا الأمر من البداهة بمكان، وذلك لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما منح هذا العلم ففي إحدى أسبابه فمن أجل أداء مهام هذه الرسالة وتحقيق أهدافها، وحيث إن من المسلم أنه لم يتمكن من إنجاز جميع المهمة، لذا كان من اللازم أن يمنح هذا العلم لمن سيلي من بعده في المهمة التي أوكلت إليه.
وبعد أن أبان النص القرآني لنا وجود إمامة للتشريع والعلم وصفت بالرسوخ فيه، وبعد أن أبان لنا في أن هذه الإمامة لا بد وأن تكون معصومة، وبعد أن اظهر وجود الامتداد لما بعد الرسول (ص)، نجد أننا لو ساءلنا هذا النص المبارك عما إذا كان هناك نص محدد في جهة هذا العلم، فجميع المواصفات قد لحظناها، ولا يعقل أن يترك الله الأمر غائما من دون تشخيص، لا سيما وإننا نحتاج النص والتشخيص في أمري العصمة، فالمعصوم لا يدل عليه إلا معصوم أو من هو فوقه، ولا يعقل أن يدل على العصمة من لا فقه له بطوايا القلوب وخباياها. والعلم الإلهي لا يدل عليه إلا من له علمه الكامل به، أو من صدر العلم منه.
ومن حسن كمال النص القرآني الذي وصف وفق ما تصوره الآية الكريمة: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)[155] إننا لا نعدم فيه إشارة كهذه وهو ما يتمثل بقوله تعالى: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)[156].
هذا وقد أجمعت رواية أهل البيت (عليهم السلام) والكثير من مفسري العامة على أن من عنده علم الكتاب هو علي (عليه السلام) وما يمثله من بعده من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)،[157] ومن بين هذه الروايات اكتفي بذكر صحيحة علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير؛ ومحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عمّن ذكره، عن ابن أبي عمير جميعا، عن ابن أذينة، عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) قال: إيانا عنى، وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي (ص).[158]
ورغم أن تفاسير أهل العامة ومن بينها تفسير فضل الله[159] يشير إلى أنهم علماء أهل الكتاب، غير أن التدقيق العلمي والتاريخي يحبط هذه الأقوال، ولو تناسينا شأن المواصفات التي جعلها الله لمن يوليه علمه ويحتفظ عنده بسرّه، والتي نلحظ شدة تركيزها على العصمة، فلا أدل على زيف هذه القول من أن الله الذي وصف علماء أهل الكتاب بما وصفهم فيه من تلاعب بالكلم وتحريفه عن مواضعه وأكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله وحرب الرسول (ص) والمؤمنين، كيف يمكن أن يضع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في قمة تحديثه للكافرين في مثل هذا الإحراج ليجعل الشهادة على صحة الرسالة متعلقة بأناس لم يؤمنوا بنفس الرسالة؟ فلا تغفل.
ولو تجاوزنا عن ذلك، وقبلنا أن يكون الرسول قد استنجد بعبد الله بن سلام وأضرابه من علماء الكتاب ممن وصفهم فضل الله بأنهم المعنيون بهذه الآية[160] فماذا نفعل بفعل المضارعة في أول الآية: (ويقول)؟ والذي يدل على أن هذا التحدي مستمر إلى آخر ما يدل عليه فعل المضارعة من امتداد في المستقبل، وحيث أن التحدي مستمر، فإن استمرار شهادة الشاهد تبقى بلا شك, فهل نستعين بعلماء أهل الكتاب في وقتنا المعاصر؟ لكي يدلّونا على صحة الرسالة؟!. ونفس الأمر نجده في الآية الكريمة (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).[161] فأهل الذكر يتطابقون مقاماً مع من عنده علم الكتاب، ومع من وصفوا بالراسخين في العلم، وفعل الأمر هنا له من الدلالة على الاستمرار المستقبلي بنفس الدلالة التي رأيناها في كلمة: (يقول) في الآية السابقة، وهي على أي حال تدل بنفس الدلالات السابقة على نفس المضامين والمواصفات المتعلقة بمن عنتهم الآية الكريمة بأهل الذكر من حيث ضرورة وجود تشخيص لهذه الجهة وما يتعلق بذلك من ملازمة وهو ضرورة وجود النص، وكذا ضرورة العصمة، وقابلية الامتداد، وحيث تدل روايات أهل البيت (عليهم السلام) على اختصاصها بهم، تجد إلى النقيض من ذلك تيار التحريفية المعاصر يتخندق في موقف مضاد ليماشي بالنتيجة أهل العامة فيما يفكرون به من اختصاص أهل الذكر بعلماء أهل الكتاب[162]. وفداه روحي حينما يشخّص الإمام الباقر (عليه السلام) النتيجة العملية لاعتبار أهل الذكر متعلقة بأهل الكتاب حينما يقول وفق صحيحة محمد بن مسلم قال: قلت له: إن من عندنا يزعمون إن قول الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) إنهم اليهود والنصارى. قال: إذا يدعونهم إلى دينهم، ثم أشار بيده إلى صدره وقال: نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون.[163]
وهي كما ترى في حكمها العام تستلزم الرجوع الدائم لأهل الذكر الذين هم أعلى درجات العلم الخاص بالذكر الإلهي، مما يرجعنا إلى نفس ما قلناه سابقا، فالأمر الإلهي بالرجوع يستدعي من جهة أن يكون المرجوع إليه عالماً بكمال الذكر، ومن جهة إطلاق الرجوع يستدعي أن يكون هذا العالم معصوماً، لأن هذا العلم يكشف عنه العمل، ولا يمكن إلا للمعصوم أن يفي بالتزامات علم كهذا، واستمرارية لأمر الإلهي تستدعي الامتداد، وحالات كهذه لا بد من وجود تشخيص للجهة من الناحية المفهومية والمصداقية معاً.
وهذه الأمور بمجموعها تكشف لنا ما يلي:
أولا: أن القرآن شخّص وجود إمامة خاصة للعلم والتشريع بحيث أنه يعدها المرجعية الوحيدة التي يرجع إليها في مسائل العلم والتشريع.
ثانيا: إن هذا التشخيص في الدور أعقبه تشخيص في المواصفات فقال بعصمة هذه الإمامة، وبالتالي عصمة من يلي أمرها، ثم أعقب القول بالعصمة بقول آخر يتعلق بضرورة الامتداد إلى آخر الزمن.
ثالثا: إن هذه التشخيصات المفهومية تستوجب التشخيص المصداقي، ونجد في آيات عديدة كما في آية الراسخين، وآية من عنده علم الكتاب، وآية أهل الذكر أنها وصلت المفاهيم بالمصاديق بشكل دقيق لا يخفى على عاقل حر.
.............يتبع/ الصفحة الفكرية ـ وكالة أنباء براثا
1/5/1129/ تح: علي عبد سلمان
...........................................
https://telegram.me/buratha