ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(( "الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدس" .....هو كتاب تضمن بحثا نقديا موسعا عن موضع الإمامة بين التحول والثبات لسماحة العلامة الشيخ جلال الدين علي الصغير...الكتاب صدر عن دار الأعراف للدراسات ـ بيروت1420 سنة هـ ـ1999 م، وقد وجدت " واحة الفكر في براثا نيوز" أن من المفيد إعادة نشر فصوله متسلسلة في هذا الوقت بالذات لتزاحم الآراء في موضع الإمامة ، إذ قدم سماحته هذا الموضوع بأسلوب مانع جامع وسهل على المتلقي دون أن يقحمه بمسالك تبعده عن الغاية من إيصال المعلومة..وبالتالي عنت سطور هذا البحث بتقديم توليفة فكرية ـ عقائدية ، تنسجم تمام الإنسجام مع معطيات العقل ومقبولاته، معتمدة على النصوص التي لا يخالطها شك إطلاقا في الموضوع المبحوث))
إن الكتابة ليست فعلا قائم بذاته، بل هي الخلاصة المنطقية لبنية فكرية متكاملة يتناولها الكاتب بناءا على صحة المعتقد، تشكل مقدمة الكتاب مدخلا صالحا وميسرا للولوج في أسباب صدور هذا البحث ـ الكتاب، ودون قراءة ما ورد في المقدمة نحسب أن القاريء سيبقى يردد أسئلة وردت إجاباتها في المقدمة...
وتجس هذه الحلقة الأجابة عن سؤال رئيسي يتفرع منه إستنتاج جوهري؛ السؤال هو ما هي معيارية الثبات والتحول؟، وإلإستنتاج هو إجابة عن تساؤل مؤداه : هل أن المجتمع معيارا للثبات والتغيير؟...
"واحة الفكر ـ براثا نيوز"
قبل أن ندخل في صلب الموضوع لا بد من تحديد المقصود بالثبات والتحول،[25] وتشخيص ماهية المعيار الذي نحكم به على المفاهيم، فنضفي عنصر الثبات على واحد لنسلبه من آخر ليغدو بعد ذلك مفهوماً متحولا.
وسنلحظ أن المدارس الفلسفية تتفاوت بطبيعتها في تحديد الموقف من هذه المفاهيم، فمنها من ينفي بالمرة وجود مفاهيم ثابتة لا تقبل التحوّل،[26] كما نلحظ ذلك في النشأة الأولى للفكر السفسطي وكذا في الاتجاهات البوهيمية وأمثالها، فيما يتوسع البعض الآخر ليقف على النقيض من ذلك فيجعل جميع المفاهيم كتلة من الثوابت التي لا مجال للتحول فيها، كما نلحظ ذلك في الاتجاهات الجبرية وغيرها ولكن الفلسفة الدينية الإسلامية وغالبية الفلسفات الوضعية[27] تتفقان على تقسيم المفاهيم إلى ثابتة لا يمكن الحياد عنها، وأخرى متحولة لا تتمتع بصفة الثبات فتخضع عندئذ للشرائط الموضوعية المنعكسة من الواقع الاجتماعي، ولكن هذه الاتفاق لا يعكس إلا شكل الأمر، غير إن واقع الحال يشير إلى وجود تناقض جوهري ما بين الاتجاهين في طبيعة مصادر الثبات والتحول ونوعيته وكيفية التعامل معه.
وأيا كان وضع هذه الفلسفات فمما لا ريب فيه أننا من دون القول بوجود ثبات معين في عالم الأفكار كأن يكون للكون خالقاً، وكون المعلول متسبباً عن علة، وأن الكل أكبر من الجزء، وأن النقيض لا يجتمع مع نقيضه في عرض وزمان واحد، وغير ذلك من أمهات المرتكزات التي يقوم عليها الفكر والمنطق الإنساني، فلا يمكن عندئذ الحديث عن وجود فكر بالمطلق، فمن غير هذا الثبات علينا أن نذعن للتفكير السفسطي والعمال كل مقتضيات الدور والتسلسل الفلسفيين.
ولا يعنينا هنا الخوض في تفاصيل هذه المسائل من وجهة نظر المدارس الفلسفية، حيث أن الموضوع غير مخصص ذلك، ولكن يعنينا بحث هذه المسألة من وجهة النظر الإسلامية ضمن الحدود التي يسمح بها مجال البحث هنا[28].
وليس من العسير العثور على أهم معالم وجهة النظر هذه وأبرزها على الإطلاق في تحكم النص المقدس في معيارية الثبات والتحول حيث يلعب النص المقدس دور الضابط الموضوعي في ثبات المفاهيم وتحولها، من دون أن نجد أي مجال للقول بأن الثبات والتحول تتحكم فيه المعايير التي من شأنها أن تتسبب في التعتيم على الحقيقة والتضبيب على فهمها.
فمن الواضح أن الفهم الإسلامي للحجة الإلهية يتسم بالقول بأن هذه الحجة من البساطة والوضوح ما يجعلها متيسرة لفهم الجميع ولو ارتكازاً، بشكل ينسجم تماماً مع مقتضيات أن تكون هذه الحجة هي المعيار الذي سيقاصّ الله سبحانه وتعالى من عباده يوم القيامة، فيهب جنته لمن أحسن التمسك بعروته الوثقى، ويدخل النار من تخلف عن ذلك، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من خلال أن تكون الحجة الإلهية الملقاة على الناس من الوضوح بمكان بحيث تتناسب مع المفهوم القرآني عن العدل الإلهي، فالله جل وعلا لم يخلق الخلق حينما خلقهم ليتركهم سدى هملاً (أيحسب الإنسان أن يترك سدى)[29] بل أمدّه برعاية وهداية كاملتين بعد أن أمدّه بكل مستلزمات الاستفادة من هذه الرعاية والهداية وأوضح له بما لا مجال للبس فيه مآل موقفه من مواقف الهداية والرعاية (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً. إنا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا. إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا الخ..)[30]وأوضح أنه لن يظلم أحداً فقال: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين)[31] وكذا قوله تعالى: (إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض)[32].
ونظراً لطبيعة أن الذي لا يظلم عبيده ينبغي أن يوضح أوامره لهم بشكل لا مجال للبس فيه، لذا فإن الله سبحانه وتعالى ولطبيعة رحمته التي وسعت كل شيء لم يكتف بإبلاغ حجته كاملة على عباده فحسب، بل وأرسل رسولا منه ليبلغ هذه الحجة بشيرا ونذيرا، ومن ثم ليكون مصدر رحمة للعالمين، كما وصفه سبحانه: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[33] ولهذا عبّر سبحانه وتعالى عن أن له الحجة البالغة: (قل فلله الحجة البالغة)[34] لكونه سد جميع أبواب الاعتذار أمام عباده لتفادي اعتذارهم يوم القيامة بأي عذر فقال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)[35] وهذا الأمر من بديهيات العدالة الإلهية.
وإذا كان الأمر كذلك، فمن البديهي بمكان القول بعدم وجود أي مجال لأن يدع الشارع المقدس المفاهيم والأفكار التي لها أعمق الآثار في فهم الشارع والتشريع، عرضة لفهم العبد، فالعبد إذا كان مأموراً باتباع سبيل محدد، كيف يمكن له سبيل ذلك؟ في وقت يترك فهمه لهذا السبيل لرحمة حدود غير منضبطة بضابطة محددة، ولا مؤطرة بإطار محدد، بل هي متروكة في واقع الأمر لنفسه ومقتضيات بنائه الفكري والذي تتداخل فيه أهواء جمة، ترسمها ضغوط الواقع تارة، وإغراءات الحياة أخرى، ومجاهيل عدة تحددها إخفاقات الحكمة مرة وعجزه عن نيلها أخرى؟!! بل كان الشارع المقدس بالمرصاد لتفكير من هذا القبيل، فحدد أن النص الإلهي فيه محكم وفيه متشابه، وهذا الأخير يمكن أن يكون عرضة لتلاعب أصحاب القلوب المريضة، أو أصحاب العقول العاجزة، مما سيجعله مدعاة لفتنة عبيده وصدّهم عن بركاته وهداه كما في قوله تعالى: (هو الذين أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)[36].
وهذا الأمر سيسهّل مؤونتنا في إماطة اللثام عن حقيقتين جوهريتين، وهما:
أـ إن المعايير التي تتحكم في المفاهيم مطلقة وليست نسبية، بمعنى أن هناك ضوابط صارمة في تحديد اتجاهات الإطلاق في النص، واتجاهات التغير والتحول فيه، فهذا النص فيه محكمات (هن أم الكتاب) لا يمكن العبث فيهما أبداً، وكل انحياز عنهما يعني الانحياز عن الدين، وثبات هذه المحكمات يحدد بدوره ثبات التفاصيل المتعلّقة بها، والتي تطلق الآية الكريمة عليها اسم (المتشابهات).
ولكن لطبيعة التداخل بين هذه المتشابهات مع تفاصيل الحياة الرسالية المختلفة، وإمكان التصادم بين الأوليات المطروحة أمام هذه الحياة سميت بالمتشابهات حيث سنرى أن التحول في الالتزام بها، والذي سيطر أ عليها نتيجة لظروف الحياة المختلفة لا يلغيها بحيث يجعلها نسبية قابلة لتغير كما توهّم ذلك بعض الكتّاب ومنهم محمد حسين فضل الله في مقالات عدة حيث اعتبر القيمة في الأديان نسبية حيث يقول ما نصه: (إن قضية الحلال والحرام لا تتجمد في هذه المفردة أو تلك المفردة، وإنما تنطلق إلى ما وراء ذلك من الهدف الذي يتحرك الحرام من أجل أن يبعده، أو يتحرك الحلال من أجل أن يؤكده، على هذا الأساس القيمة حتى في الأديان نسبية[37]).
وكذا قوله: إن الإنسانية ليست قيماً غير مثالية ومطلقة وإنما هي قيم نسبية، إلى أن يقول: إن القيمة في الإسلام في جانبها السلبي أو الإيجابي ليست مطلقة، بل هي نسبية).[38].
بل إنه سيؤجل العمل بها لمصلحة ما يتقدمه في سلم الأولوية، فنحن إن رأينا أن الحكم بالصدق يغدو حراماً إن اقترن بأذى المجتمع كلاً أو جزءاً من قبل الطاغوت، فلا يعني ذلك أن قيمة الصدق كانت نسبية، فتغيرت من الحسن إلى القبح هنا، بل لأن حفظ المجتمع من أذى الطاغوت يمثل أولوية تفوق أولوية الحفاظ على الصدق، لذلك تقدمت هذه الأولوية على تلك، من دون أن يلغي قيمة الصدق المناقبية، مثلها مثل من يحمل ذهباً في سفينة تكاد أن تغرق بسبب حملة الذهب، فتعمده إلقاء الذهب في البحر، لا يلغي قيمة الذهب بل لأن حياته أغلى من الذهب، لذلك قدم الأهم على المهم، من دون أن يعني تقديم الأهم انتفاء قيمة المهم، الذي سيعود إلى أهميته حالما يرتفع الطارئ، في حين أن نسبية القيم، تطيح بالقيم حتى وإن ارتفع الطارئ الذي يمثل استنثاءا في الحياة لا واقعاً ثابتاً.
ولهذا نجد النص القرآني يوجد سلّماً في الأولويات لجعله هو الضابطة المعيارية التي تتحكم في تطبيق الأحكام في حال التعارض.
ولكن هذه الضابطة إن لم يتم التعرف عليها بدقة، فإنها ستكون مدعاة لحصول واحدة من نتيجتين على الأقل:
الأولى: أنها ستكون أداة بيد المتسلّطين على عامة المجتمع بأي شكل من أشكال التسلّط فيستغلونها لتحقيق مآربهم وأهدافهم السيئة، كما صوّرهم الباري جلّت قدرته في نفس هذه الآية: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) أو كما نرى النتيجة في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم)[39] في وقت لا يجد المجتمع أي مجال للتخلص من ربقة ظلمهم إلا بالتحرر من النص نفسه، وفي ذلك من المفسدة العظيمة والشر المطلق ما لا يخفى، ومعرفة تداعيات صراع الكنيسة الأوربية مع الآخر إبان القرون الماضية تكشف حجم الأضرار التي يمكن أن يفرزها مثل هذا الواقع، حيث تصور الأوربيون أن صراعهم مع سلطة الكنيسة هو صراع ديني، لذا خاضوا معاركهم ضد الدين مباشرة!!.
الثانية: أن هذا الكتاب الذي أطلق هذه المتشابهات نزل من عند الله، وفيه من الأسرار التي لا يستطيع بالضرورة نليها وإدراكها كل من رام إليها سبيلاً، فدين الله وعلمه قد أتيح لخاصة أوليائه فقط، وليس لعامة الناس، (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)[40] وإلا لما افترض وجود وحي، وجعل المنزل عليه معصوماً لا يزلّ ولا يخطئ، ويتلقى هذا العلم بصورة استثنائية لعلنا نتلمس بعض آفاقها في ما تعكسه لنا مقدمة سورة النجم (والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى. ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى) ولهذا فإن هذه الأسرار إن تصدّى لحلّها من لا أهلية له في هذا المجال فإن العاقبة الحتمية لعملية ابتغاء التأويل بهذه الصورة ستكون زيغا عن الهدى، وضياعاً عن الطريق لأن لعملية التأويل المطلوبة جهة محددة لم يفسح المجال لغيرها في فك أسرار هذه الكتاب وفق ما تبينه الآية الكريمة: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)[41].
وترينا الصورة التي تمخضت عنها مأساة السقيفة من ضلال الناس بعيداً عن الدين، وإذا بالرسالة التي بعثت هدى للعالمين سرعان ما غدت ملهاة بيد من لا خبرة له بعلم، ولا سابقة له في فهم، وليس أدل على ذلك من المهازل الدينية والسياسية التي ارتكبت في زمن الخليفة الأول كالحادثة المفجعة التي تمخضت عنها شهادة الزهراء البتول (عليها السلام) بعد غصب حقوقها المادية في فدك، والوجدانية في حقها بالبكاء على أبيها رسول الله (ص) فضلاً عن الدينية بالحفاظ على إمامة الناس في الموضع الذي وضعه الرسول الأكرم (صلوات الله عليه وآله)، وكذا السياسية بأخذ مشورتها على الأقل فيمن سيخلف الرسول الأعظم، ناهيك عن سائر مآسي أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، والجريمة النكراء بحق الصحابي الجليل مالك بن نويرة، واغتيال سعد بن عبادة، وحرق الفجاءة السلمي، وعشرات غيرها!!.
ب ـ مثلما رأينا أن الضابطة التي تحكم الثبات والتغيير في التشريع هي النص، فمن البداهة بمكان أن يكون مصدر تشخيص التغير والثبات، ومحل الحسم في خصوصيات التزاحم بينهما هو المؤتمن على هذا النص، لا أي أحد من الناس، ففي وقت حذرنا الله جل وعلا من خطورة التأويل لأنها تكتنف الوقوع في الفتنة، وأوضح لنا أن عملية التأويل هذه في أحسن صورها ستكون زيغاً عن الطريق وإن لم تقترن بفساد النوايا، وضرب لنا مثلا في كيفية انتهاب الكثير من الأحبار والرهبان لمصالح العباد وعبثهم بدين الله، بل أوضح لنا أن حتى من حظي بكرامات الله لم يكن بمنأى من الوقوع في مخاطر أهواء النفس وشهواتها كما في قصة بلعم بن باعوراء (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين)[42].
ولهذا فمن العبث بمكان الحديث عن ضابطة واقعية للتأويل بمعزل عن من اختصه الله لعلمه وأتمنه على وحيه، ولهذا شخّص الله هذه الحقيقة بصورة قاطعة لا مجال لأي لبس فيها (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب).
وعليه فإن تشخيص الثبات والتغير في الشريعة إنما هو من اختصاص النص الإلهي وحده والذي يمثله في عرفنا ـ نحن الإمامية ـ الكتاب الكريم كنص مكتوب، والسنة المعظمة للمعصوم (صلوات الله عليه) كقول وفعل وتقرير له (صلوات الله عليه)، وأي دعوى للخروج بهذا الفهم عن هذه الدائرة تمثل معلماً أساسيا من معالم الانحراف عن إطار هذا النص.
المجتمع ليس معيارا للثبات والتغير
ولا تمثل الدعوى التي أطلقها محمد حسين فضل الله في تفسيره للتغير والثبات في جوهرها خروجا عن دائرة الانحراف الأولى التي اختطت مسيرتها من التداعيات التي أنشأت الصياغة الفكرية التي قامت عليها أحداث سقيفة بني ساعدة، كما إنها لا تفترق كثيرا عن الصياغة الفكرية للفلسفة الغربية[43] التي رأت في حاكمية الكثرة الاجتماعية على صياغة الثوابت الفكرية، وذلك بالصورة التي طالعنا فيها في مقالة (الأصالة والتجديد).
وقد قدم فضل الله فكرته عن الثبات والتغير مقومة على أساس الموقف الاجتماعي منها، وقدم هذا الموقف مرة على أساس الفهم، وأخرى على أساس الالتزام، لذا تراه يقول: في داخل الثقافة الإسلامية ثابت يمثل الحقيقة القطعية، مما ثبت بالمصادر الموثوقة من حيث السند والدلالة بحيث لا مجال للاجتهاد فيه، لأنه يكون من قبيل الاجتهاد في مقابل النص، وهذا هو المتمثل ببديهيات العقيدة كالإيمان بالتوحيد والنبوة واليوم الآخر..
وهناك المتحول الذي يتحرك في عالم النصوص الخاضعة في توثيقها ومدلولها للاجتهاد مما لم يكن صريحا بالمستوى الذي لا مجال لاحتمال الخلاف فيه، ولم يكون موثوقا بالدرجة التي لا يمكن الشك فيها، وهذا هو الذي عاش المسلمون الجدل فيه، كالخلافة والإمامة والحسن والقبح العقليين والذي ثار الخلاف فيه بين العدلية وغيرهم، والعصمة[44] في التبليغ وفي الأوسع من ذلك بحيث يشمل الأفعال جميعها والآراء جميعها في شخصية النبي والأئمة، وفي المسار الجسماني والروحاني، وفي مستوى علم الأنبياء والأئمة، من حيث علم الغيب ووعي الأشياء في الكون والحياة، وفي مسألة حدود الشرك والتوحيد وغير ذلك مما يتصل بالجانب العقيدي.[45]
ويقول في موضع آخر بصورة جلية أكثر: الثابت هو الذي يملك ثباتا في وعي الناس لا الثبات في الواقع، والمتحول هو الشيء الذي لا يرى الناس كلهم فيه ثباتاً في الوعي.[46]
ويقول أنصاره: الثابت هو المقدس الذي لا يناقشه أحد من المسلمين، بينما المتحول يخضع للمناقشة لاختلاف المسلمين فيه.[47]
ونحن هنا لسنا في صدد النقاش حول ما إذا كانت المفردات المذكورة لها هذا الموقع الذي ذكره في واقع النصوص الإسلامية أو في واقع المسلمين أو لا، فلذلك مجاله اللاحق ـ إن شاء الله تعالى ـ ولكن يهمنا في البدء التوقف عند الزيف الذي حاول فيه أن يغطّي على واقع النظرية الإسلامية في شأن الثبات والتغير، فمن حقنا أن نتساءل عن الأساس الشرعي لفكرته عن الثبات والتحول، ومن أي مصدر استقاها؟ فإن كان ثمة أثر من نص أو دليل شرعي، فنحن بحاجة لسماعه، أما أن يكون الدليل الشرعي كتابا وسنة خلاف ذلك قلباً وقالباً، فمن حقنا عندئذ أن نبدأ بإثارة أصابع الاتهام الفكري مرة، والانحرافي أخرى[48] .!!
فمن البديهي ضمن وجهة النظر الإسلامية أن قيمة الأفكار لا تكتسب من الواقع الاجتماعي مهما بلغ هذا الواقع في عنفوان ضغطه أو وطأة إغراءاته، فالعملية الفكرية ليست انعكاسا لهذا الواقع حتى نجعل هذا الواقع يتحكم في ثبات الأفكار أو تغيرها، فالحق الذي جاء به النص المقدس يأخذ حقانيته من النص، من دون أن يكون للواقع الاجتماعي أي أثر في تقييمه سواء قبله أو رفضه!! والعدل الذي أقرّه الشارع المقدس تنبع أصالة الحقيقة فيه من هذا الإقرار، لا من أي شيء يرتبط بقبول الناس له أو ممانعتهم عنه.
ولهذا فإن محص أن يقبل المسلمون بفكرة أو يختلفون عليها لا قيمة له برصد واقع المقدسات الفكرية، ولا أثر له في تقييم عناصر الثبات والتحول، وخضوع آية فكرة للنقاش لا يعني سلب قداستها وثباتها، فها نحن نتناقش مع الملاحدة في وجود الله، فهل يعني أن فكرة وجود الله أصبحت متحولة لمجرد وجود من يناقش فيها حتى وإن تعاظم عدد المناقشين في هذه المسالة.
وها نحن نختلف مع المسيحيين في قدسية دينهم، ومع اليهود في قداسة معتقدهم، ويختلفون معنا في قداسة ديننا ونبينا وكتابنا وقبلتنا وكل شيء فينا (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير)[49] فهل سيعني ذلك أن نتنازل عن قداسة مقدساتنا؟ لمجرد أن هؤلاء يثيرون نقاشا حول ذلك؟.
إن كان من السلامة القول بأن نقاش هؤلاء لا يعني أي شيء في مضمار قداسة مقدساتنا، فمن السلامة أيضا القول بأن نقاش أهل الإسلام لا قيمة له في التعرف على حقائق المعتقد وثوابت التشريع، لأن الجميع من ملاحدة ويهود ونصارى ومسلمين وسائر بني آدم لا يمتلكون قدرة التشخيص لعناصر الثبات في التشريع، فهو ليس منهم حتى نتفق معهم حول أي عنصر ثابت وأي عنصر متحول، وليس هو فكراً بشريا حتى نتوسل بفكر البشر لتقييم الحقيقة والباطل فيه، بل هو فكر سماوي نزل عليهم من قبل الله (جل وعلا) وهو وحده الذي يشخّص هذه العناصر، وطالما إنه أوكل هذا التشخيص لكتابه ومن ائتمنه عليه، لذا فالعبرة الحقيقة في التقييم تبقى للكتاب وشارحيه من المعصومين (صلوات الله عليهم).
13/5/1029/ تح: علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha