1ذي القعدة /1433هـ
تتميز دراسات سماحة السيد محمد الحسني، وهو باحث إسلامي من طراز رفيع بالعمق والسعة، ومنهجه في البحث يعتمد على إشباع الموضوع عبر المصاديق العلمية والعملية وموظفا النصوص كمصادر تدعم البحث بعد إشباعها هي الأخرى إيضاحا .. السيد الحسني كاستاذ حوزوي في بحثه هذا " مقاصد القرآن الكريم محاولة أخرى" يقدم خلاصة فكرية لموضوع البحث بأسلوب لا يمكن أن يقال عنه إلا أنه متمكن من أدواته..
بحث السيد الحسني جدير بالقراءة لأكثر من مرة لعمق الفكرة التي يتناولها شرحا وتحليلا وتبويبا"
"واحة الفكر براثا نيوز"
التمهيد :
يصنف البحث في القرآن الكريم ضمن مباحث علم الاجتماع، ذلك لأنه لا يمكن معرفة التحولات النوعية الكبرى في تاريخ البشرية عامة والمجتمعات الاسلامية خاصة مالم ننفتح على قراءة هذا الكتاب الإلهي العظيم قراءة علمية واعية ومتخصصة , وقبل الاستطراد يحسن بنا ان نقف قليلاً عند هاتين المفردتين , اعني : القراءة الواعية , والقراءة العلمية المتخصصة .
اما الأولى, فهي المرتبة الأولية من القراءة التي يسميها القرآن الكريم بالمتدبرة , وهي التي ترتقي بالانسان الى مستوى معرفي يمكنه من ادراك مسؤوليته ودوره في الحياة , حيث يجدول من خلالها اولوياته في مسيرته, ويعي من اين يبدأ والى اين ينتهي فاذا انفتح الانسان على قراءة القرآن الكريم وفقاً للضوابط المعروفة ومنها التواصل الدائم مع المختص فانه يتمكن من بناء منهج فكري واضح يحصنه من الشبهات والاباطيل التي تقتحم فطره الانسان السليمة وسجيته التلقائية دائماً , وهذا المعنى طالما ركز عليه القرآن الكريم حيث سجلت الكثير من الايات المباركة جدلاً متجددا بين الحقيقة والوهم , ففي كل مرحلة زمنية جديدة يتكرر الصراع بين الهدى والضلال ولكن باساليب مبتكرة ،ولذا يلتبس الحق والباطل في فكر الانسان في علاقة جدلية لا تتوقف , وكلما تم كشف زيف جبهة الضلال فأنها تعود في كرة جديدة وباساليب جديدة وطرح جديد , ومن هنا نعرف لماذا بعث الله تعالى هذا العدد الهائل من الانبياء والائمة والمصلحين, فلو لم يتجدد الباطل في الياته وطرائقه لأكتفت الانسانية بنبي واحد وشريعة واحدة والى آخر ساعة من ساعات الدنيا ولكن لأجل ان لا يقع الانسان اسيراً لأوهام المستكبرين المتجددة ترى ان الارض لا تخلو من حجة يحمل بيده ومن خلال وسائل الحق الخاصة مشعلاً يفضح زيف هؤلاء ويفك حالة اللبس والتداخل بين الحق وما يشبه الحق, وهو معنى ما ورد عن امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في قوله: ( إنما سميت الشبهة شبهة لانها تشبه الحق ) , وقوله تعالى:( أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) حيث ان الملفت في هذه الاية المباركة انها تعتبر المعرفة الانسانية -التي يسميها القرآن الكريم في مواضع اخرى: (البصيرة)- هي التي تفصل وتفرق بين الوهمي والحق , والقراءة الواعية – المتدبرة - تعطي الانسان هذا المستوى المعرفي الذي يمكنه من الفرز بين الهدى والضلال في مسيرته الحياتية المعقدة .
أما القراءة العلمية المتخصصة فهي عبارة عن ضبط عملية فهم النص ضمن مناهج نزيهة لا تستبطن تشويه النص وخلق حالة من الفوضى التأويلية التي تبدأ في قطع الصلة بين النص وقائله , نعم قد ينجح هذا – مع التحفظ – في دراسة النصوص التأريخية والدينية الخرافية والى حد ما الأدبية , اما مع القرآن الكريم فالامر مختلف جداً , اذ لا يمكن فصل النص القرآني عن الذات المقدسة لان ذلك يؤدي الى ضياع مرادات الشارع المقدس, نقول هذا ونحن نؤمن بأنه لا يجوز للعقل الإنساني أن يتقاعس في دراسته لما يكتنف النص مطلقاً، من خلال التركيز على كل الممكنات والتجليات المتعالية لا سيما مع النص القرآني، والمغامرة في هذا أمر لا بد منه لإنعاش مشروع الانكشاف العقلي المستمر, إلا أننا لا نؤمن بالفوضى الفكرية, كما لا نؤمن باستعارة المناهج غير المفحوصة لاعتمادها في دراساتنا النصوصية.
اذاً المراد في القراءة العلمية المتخصصة هو الالتزام بالمقدمات العلمية التي تتطلب حزمة من الضوابط المعرفية المنتجة - بالكسر – والمنتجة - بالفتح – في معاهدنا العلمية طيلة أربعة عشر قرناً حتى لا تنحرف البحوث في هذا المجال إلى مسارات فوضوية تربك العقل المجتمعي فنبيع مجتمعاتنا بأبخس الثقافات المستوردة, ومن هنا جاء النهي الشرعي صريحاً عما سمي التفسير بالرأي حفاظاً على خصوصيات المجتمع الممهد لحضارة القرآن الكريم .
ثم أن الانفتاح على مقاصد القرآن الكريم الكلية وتوظيفها في مشروع نهضوي تتبدل فيه كل الأفكار والقيم والعادات والتقاليد الساذجة التي أنعشتها الإسرائيليات والتي عطلت العقل المسلم وحجبته عن فهمه لمرادات الشارع المقدس يتوقف على الترقي في مراتب هذا المنهج, اعني من القراءة الواعية الهادفة الى القراءة العلمية المتخصصة , على ان لا يفهم من هذا التخطئة الكلية للاتجاه التقليدي القائم على طرق التحفيظ البدائية الخالية من التدبر فلعل هذا المنهج ينفع لبعض الشرائح الاجتماعية، الا انه لا يمكن اعتماده في المعاهد العلمية لما تسبب به من كوارث منهجية لا تغتفر بحق الرسالة الإسلامية الشامخة والناس كذلك, فمنذ أن ركزنا على الأبعاد الجمالية والبلاغية في القرآن الكريم ورحنا نتباهى بحفظها وتحفيظها لا ندري اي جريمة ارتكبناها بحق العقل المسلم حيث ادى ذلك الى تجميده بل إخراجه من الساحة العلمية حينما صرنا حفّاظاً للنصوص اكثر من وعيها ودرايتها,
كما يوفر هذا المنهج وعي الآيات القرآنية الكريمة الى درجة الإشراف على الطفرات الاجتماعية الكبرى في تاريخ البشرية , لا سيما عند دراسة السنن القرآنية للتاريخ وكيفية التحكم بمسار الأحداث وهذا الوعي القرآني هو الذي يحصن الفرد والمجتمع ويسد الفراغ الإيديولوجي الذي أدى الى غربة المسلم المؤمن في مجتمعه وعلى أرضه بسبب الاستيراد الفوضوي للثقافات الهابطة من هنا وهناك .
المقاصد القرآنية والشرعية مسيرة علمية متعثرة
لا يتسع المجال لبحث تاريخ المسألة , ولكن لا بد من إطلالة ولو مستعجلة لما تناوله الغزالي نموذجاً وان كانت بدايات المسألة أعمق من زمنه بكثير , اذ لعل بواكير المسألة بدأت في القرن الثاني للهجرة عندما كثر الحديث عن القياس في الشريعة وقدرة هذا المنهج على الكشف عن الحكم الشرعي, ثم طرحت في تلك الحقبة الزمنية وما تلاها مسائل أثارت حفيظة الكثير, منها مثلاً : مسألة فتح الذرائع التي طرحها الأحناف او ما سميُّ بالحيل الشرعية والتي جاء الرد عليها بعنوان تفويت مقاصد الشريعة والالتفاف عليها , ومنها : مسألة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد التي تستند إلى جدلية معرفة ملاك الحكم الشرعي والتي عرفت بعلل الأحكام الشرعية , حتى قيل إن الأحكام الشرعية تدور مدار ملاكاتها نفيا وإثباتاً , غايته أن غالبية علماء المعاهد العلمية التي تتبنى أطروحة آل محمد (عليهم السلام) ذهبت إلى أن ذلك لا يعرف إلا بالسمع حسب تعبير السيد المرتضى (قده)عند قوله: ( واما الشرعيات فهي الطاف ومصالح ولا يعلم كونها كذلك الا بالسمع) .
وفي المقابل اهتمت المعاهد الاسلامية الاخرى بعلل الاحكام وافردوا لها مساحة واسعة تحت عنوان جديد هو المقاصد الشرعية او مقاصد الشريعة , ولعل ّاول من تبلورت المسألة في كتبه هو الجويني إمام الحرمين لا سيما في كتابه : (البرهان في اصول الفقه) ثم طرح الغزالي المسألة ضمن رؤية اكثر نضجاً في كتابه (المستصفى في علم الاصول ) , وبعد مضيء عدة قرون جاء ابو اسحاق الشاطبي ليفرد قسماً من كتابه (الموافقات) للمسألة وهو وان ابدع في المنهج الا ان افكاره شابها الكثير من التداخل المفاهيمي المربك ومع ذلك ظلت حبيسة طرق التدريس القديمة حتى جاء الشيخ محمد عبدة وبعض تلامذته لا سيما الشيخ عبد الله درّاز الذي طور السيد محمد باقر الصدر (قده) الكثير من ابحاثه القرآنية, ثم الشيح محمد الطاهر بن عاشور الذي حاول التجديد فأضاف الى المقاصد الخمسة مقصدين آخرين هما : الحرية والمساواة , وليته لم يفعل , حيث كان الاجدر ان يركز على العدل في القرآن الكريم قبل المساواة التي هي فرع من فروعه وليس مقصداً مستقلاً بنفسه , ولكن الذي يهون الأمر أن الخلاف مع هذا الاتجاه مبنائي وليس بنائي .
ونحن نحاول في هذه العجالة ان نستعرض ما طرحه الغزالي باعتباره رائداً في هذا المجال, ثم نحاول بعد ذلك ان نشير اشارة نقدية الى اسس هذا العلم الذي لم يكتمل بعد, وكيف تصوروه, وما هي منطلقاتهم الفكرية لتشييد مبادءه كل ذلك على سبيل الإشارة, وانما ركزنا على تصور الغزالي لهذا العلم لأنه توسط الجويني والشاطبي, نعم تتلمذ على يد الجويني الا انه لم يقلده ورفض الكثير من آراءه, فهو مؤسس ويفترض .أن صورة هذا العلم قد اكتملت عنده كما أن من جاء بعده لم يبتعد عنه كثيراً، وهو في هذا يمثل الاتجاه الذي تتبناه المدارس الإسلامية الاخرى , أما عن تطور هذا العلم فلا بد من دراسة الشاطبي وابن عاشور ومحل ذلك ليس هنا .
تكلم الغزالي عن المقاصد القرآنية والشرعية في الكثير من كتبه لا سيما كتابيه (المستصفى) و(احياء العلوم) وساهم مساهمة فعالة في بحوث العلة من خلال كتابه : ( شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ) , وعن مقاصد القرآن الكريم – محل الكلام - فقد رتبها بحسب الاهمية من وجهة نظره وهي كما يلي :
أ- يرى الغزالي ان المقصد القرآني الاسمى والاسنى والكبريت الاحمر – كما يعبر – انما هو معرفة الله تعالى , ولهذه المعرفة ثلاث قنوات , الاولى : هي معرفة الذات وهي انفس هذه المعارف الا ان مجالها محدود جداً ومنالها عسير كذلك , تليها معرفة الصفات التي تتميز بمساحة معرفية اوسع , ثم معرفة الافعال التي هي بحر متسعة اكنافه , ولا تنال باستقصاء اطرافه ذلك لانه ليس في الدار غيره جل شأنه .
ب- المقصد القرآني الآخر هو بيان السلوك إلى الله تعالى بمعنى إيضاح سبيل الوصول اليه جل شأنه , وهو الصراط المستقيم ولا يتحقق سلوك هذا الطريق الا بأمرين : ذكر الله تعالى , ومخالفة الشواغل والصوارف عن هذا الذكر .
ج- بيان حال الواصلين اليه تعالى بحسب طرق السلوك ودرجات المجاهدة, ففريق في النعيم ولذة اللقاء, وفريق في السعير وحسرة الطرد عنه تعالى, وهذا يدخل في بحوث علم المعاد .
د- بيان حال السالكين والناكبين عن الصراط من خلال طائفتين من القصص : الاولى : قصص الأنبياء والأولياء وهذا – العنبر الأشهب - بحسب تعبيره , والطائفة الثانية : قصص الناكبين من الكفار والمنافقين كنمرود وفرعون وعاد وإبليس والشيطان(3) وغيرهم, والغاية من هذا المقصد الترهيب والترغيب والاعتبار ..
ه- . ذكر اباطيل الكفار والمعاندين ودفع حججهم وابطال شبهاتهم بالبراهين العقلية والحجج الوجدانية , وفي هذا المقصد آيات هي ( الترياق الأكبر ) .
و- الجانب التشريعي في القرآن وآيات هذا المقصد تنظم الحياة وتعمر طرق السير وتوضح الاتجاه وتعرف بمنازل الطريق .
هذه خلاصة نظرية الغزالي , ولعل قوله في كتابه : ( إحياء علوم الدين ): (القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عز وجل وذكر أفعاله وذكر قصص الأنبياء , وذكر قصص المكذبين لهم وأنهم كيف اهلكوا, وذكر أوامره و وزاجره , وذكر الجنة والناس .
يلخص ما تقدم بشكل مختصر, على ان منطق التفاوت في اهمية النقاط المتقدمة بعضها على بعض واضح في فكر الغزالي , فالنقاط الثلاث الأولى تتقدم في الشرف والفضيلة , وان كانت العلوم عند الغزالي تنقسم الى قسمين علوم اللب وعلوم القشر والمقاصد الستة المتقدمة كلها من الطائفة الاولى, الا أنها تتفاوت كذلك بل يلمح الغزالي الى ان كل ما جاء في القرآن الكريم ينحصر بمقصد واحد هو دعوة العباد الى الجبار الاعلى , حيث يقول في الفصل الثاني من كتابه جواهر القرآن تحت عنوان - في حصر مقاصد القرآن ونفائسه- : ( سر القرآن ولبابه الأصفى وقصده الاقصى دعوة العباد الى الجبار الاعلى رب الاخرة والاولى خالق السموات العلى والارضين السفلى وما بينها وما تحت الثرى فلذلك انحصرت سور القرآن واياته في ستة انواع – ثلاثة منها هي السوابق والاصول المهمة – وثلاثة هي الروادف والتوابع المغنية المتممة ) , ثم يذكر ما لخصناه انفاً ويتوسع في تعريف وشرح كل مقصد من المقاصد المتقدمة .
مقاصد القران الكريم
وقفه نقدية :
إن أول ما يلاحظه الدارس لعلم المقاصد هو ذلك التداخل ألمفاهيمي المربك وعدم التفريق بين المصداق والمفهوم ، والمؤسس لهذه الإشكالية هو الغزالي الذي لم يتحرر من سلطته كل من جاء من بعده إلا بعض الملاحظ الخجولة التي سجلها القرضاوي على منهجيته المقاصدية ولعل ابرز العوامل التي تسببت في هذا الإرباك ألمفاهيمي هو الانقلاب على المرجعية الإلهية ذلك الانقلاب الكبير الذي اشارت اليه اية الانقلاب وقد تمثل بما يلي:
1- انقطاع الصلة بالمعصوم ( عليه السلام ) ، الامر الذي ادى الى ارباك الساحة الفكرية بالمفاهيم والتصورات الفوضوية التي سجلت على هامش القران الكريم مما تسبب في تمزيق وحدة المجتمع المسلم حديث العهد بالاسلام
2- منع تدوين الحديث إلى ما بعد القرن الأول الهجري.
3- المنع من التحديث وفرض الإقامة الجبرية على الكثير من الصحابة المحدثين بحديث رسول الله ( صلى الله عليه واله )
4- إحراق كتب السنة ومحو أثارها بدعوى ( حسبنا كتاب الله ، والخوف من إن تختلط بالقران) الى غير ذلك من التبريرات التي لا يتسع المجال لبيان الموقف منها .
5- ظهور الموضوعات القصصية الخيالية من أولئك الذين سمح لهم بالقص في مسجد النبي ( صلى الله عليه واله ) كتميم الداري, وكعب الأحبار وغيرهم ممن تتلمذ عليهم وتأثر بهم, حتى كان بعض المبرزين يقول لكعب الأحبار : خوفنا يا كعب !! وكأن في القران والسنة نقص – والعياذ بالله – فلا يملا مشاعر هؤلاء.
6- فرض العزلة التامة على آل محمد ( عيهم السلام ), بل وقتلهم وتشريدهم في الغيضان والآجام ثم شن حملة إعلامية معادية ضدهم وضد معاهدهم العلمية حتى وصل الأمر إلى تحريم قراءة المقتل الحسيني لأنه يؤدي إلى الخدش بالصحابة والتابعين على حد زعم الغزالي .
7- ظهور حكام الجور الذين لم يؤمنوا بالإسلام ولا ساعة من حياتهم ولأجل ذلك قال أبو هريرة ( حفظت من رسول الله ( صلى الله عليهم واله ) وعائين من العلم :
فأما احدهما فبثثته وأما الأخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم ) فما هي الأحاديث التي حجبها أبو هريرة وغيره خوفا كما يقول ابن حجر العسقلاني , والتي لم تصل ألينا ؟ هذه وغيرها هي تمظهرات ذلك الانقلاب الذي أربك الساحة العلمية الإسلامية فطفت إلى السطح معاهد علمية شيدت على أساس من التخيلات البشرية التي رفعت الى مستوى التفسير والفقه.
وكانت مدرسة أبي حنيفة عبارة عن ردة فعل طبيعية على هذه الأوضاع إذ لم يثبت عنده سوى سبعة عشر حديثا عن رسول الله ( صلى الله عليه واله )، فلجأ إلى تأسيس منهج جديد في معالجة مستحدثات المسائل بل والتعامل مع الشريعة برمتها وهو القياس الذي انبثقت في هوامشه نظرية تعليل الأحكام, وهل هي بالسمع أم بالعقل ؟
ثم ماسمي بنظرية المقاصد الشرعية , ولا نعني بهذا تخطئة هذه البحوث الرائدة ولكن الذي نقوله انه لابد من رد كل ذلك إلى الله ورسوله وصياغة نظرية قرآنية جديدة في هذا العلم وبناءا على ما تقدم نحاول ان نقدم بعض المقدمات المنهجية في هذا المجال :
المقدمة الأولى :
قبل كل شيء لابد أن نفرق بين المقاصد الكلية للرسالات الإلهية عامة والرسالة الخاتمة خاصة، وبين المقاصد الفرعية التي طاشت فيها أقلام الكثير , فالشريعة نظام يتألف من شبكة دقيقة من الوصلات ذات الأغراض والمقاصد المتفاوتة والمختلفة إلا أنها متناسقة فيما بينها يتحكم بكل ذلك نظام كلي مهيمن , ولا يمكن تأسيس منظومة قواعدية تتحكم بالبناء الفكري والإيديولوجي المتجدد إلا من خلال التفكيك بين ما هو كلي ثابت وما هو فرعي قد يتغير بحسب الزمان والمكان, وما منطقة الفراغ التي تحدث عنها السيد محمد باقر الصدر ( قده ) إلا مساحة عمل المختص فيما يمكن إن يتغير من المباحات بل يمتد إلى منطقة المستحب والمكروه أو ابعد من ذلك أذا اقتضت الضرورة, وفهم المقاصد يقود المجتهد إلى هداه في هذه المساحة بشرط التفريق بين المقاصد المؤسسة على الادلة العلمية ، والاستحسانات والذوقيات لهذا المجتهد او ذاك ، والفاصل دقيق لا يرى إلا بعقل المتخصص الواعي ذو العقيدة الصحيحة ، القادر على التفريق بين منظومتين من القواعد الأولى كلية والثانية فرعية متفرعة.
المقدمة الثانية :
إن الحديث عن المقاصد القرآنية ينبغي إن يكون مسبوقا بدراسة النص وما يلابسه دراسة علمية جادة وجديدة وكمقدمة لذلك نقول: إن البناء النظري الإسلامي يقوم على ثلاث منظومات كفيلة – عند مراعاتها – ببناء الإنسان المسلم المتحضر وهي:
1-المنظومة القانونية المعبر عنها بالأحكام الشرعية التي تنظم سلوك الفرد والمجتمع .
2-المنظومة الاخلاقية .
3-المنظومة العقائدية .
وكل البحوث المقاصدية في هذه المنظومات الثلاث تؤسس على ادراك سابق للمقاصد القرانية والتماهي مع الخريطة الالهية المستقاة من القران الكريم والسنة الصحيحة, والظاهر أن القدماء لا سيما الغزالي خلطوا بين المقاصد القرآنية التي تعالج الكليات, وترسم خريطة تحرك , ونظرية بناء للحضارة القرانية المرتقبة وبين المقاصد الفرعية المبنية على النصوص المؤسسة للمنظومات الفكرية المتقدمة التي تعالج ماينبغي أن يعمل , وبتعبير اخر: إن مادة العقل النظرية وفرها القران الكريم من خلال التركيز على نوعين من منابع العقل:
الاول : البديهيات والفطريات والمتواترات ...... الخ
والثاني : و تتمثل بالمقاصد القرآنية الكلية التي تشكل مصدرا ضافيا لبناء العقل النظري، أما العقل العملي فيتحرك من خلال الربط بين المقاصد الكلية والفرعية والعمل بهما معا وهذا البحث يحتاج إلى مزيد من الحفريات العلمية الجادة.
المقدمة الثالثة :
في ماهية النص :
النص نسيج دلالى يكتسب عمقه الاسلوبي والبلاغي والرمزي من عمق المعنى وسعته عند منتجه ولاشك إن المنتج للنص يمتلك زمام التحديد القبلي للمعاني المراد ايصالها , وبهذا يكون دور المتلقي مختصرا على فهم واستيعاب ماتحمله النصوص من معاني سكبت في قوارب من الالفاظ كي تحملها الى ضفة المتلقي، ولما كان النص القراني يتميز بخصوصية شيدتها المقدمات العقلية القبلية باعتبار أن الخالق للنص هنا عاقل بل سيد العقلاء, ومريد, وغير عابث , وكل من كان كذلك فان مايصدر منه لايخلو من قصد وارادة ممتزجة بالنص - بل هي التي شكلته- كي يؤسس لمنهج يحاول من خلاله إن يجنب من يقع في دائرة خطابه مناهج اخرى يراها غير صالحة , ولما كان الله تعالى قد وصف نفسة القدسية بالعلم و القدرة والارادة , فكلامه ملي بالمقاصد التي تحتاج الى تعب وكد وإعمال الفكر لبلوغها كما يقول الجرجاني لانه خالق عالم بالمصالح والمفاسد في طريق خلقه, وبهذا نصل الى نتيجة مهمة مفادها انه لا يمكن البتة قراءة النص القراني منفصلا عن الذات المقدسة الخالقة له كما لا يمكن الركون الى مقصدية القارئ وفهمه كما تدعو الى ذلك بعض المدارس الحداثوية المعاصرة , لان الابتعاد عن هدفية مبدع النص القراني يربك الساحة الفكرية , ويؤدي الى بلبلة نخبوية بسبب الاسقاطات الثقافية للقراء والدارسين وامتزاجها بارادة المنتج للنص ولا شك فان ذلك يؤدي الى الانفلات من مقاصده مما يؤدي الى فوضى عارمة ضارة بدل من أن يحقق اهدافا اصلاحية في حياة المجتمع نعم, قد تنفع هذه المحاولات في فهم النصوص الاخرى غير القران الكريم والسنة المطهرة الصحيحة كما اشرنا اليه سابقا هذا اولا , وثانيا : إن هذه المسألة لاتدرس من نهاياتها حيث لا ينبغي التركيز على ما توحي به الالفاظ من معنى قبل فهم مسألة اسبقية المعنى على اللفظ عند المتكلم , ذلك لان كل متكلم قاصد لا ينظم الالفاظ قبل تصور معانيها التي تتمظهر بهذا اللفظ دون غيره , وهذا الخطأ شائع مع الاسف في دراساتنا الاصولية وهو مانبه عليه الجرجاني معتبرا اياه : ( باطل من الظن ووهم يتخيل الى من لايوفي النظر حقه ) ولا يعني ذلك إن اللفظ يتأخر عن المعنى بلحظة زمنية, بل إن المعنى في لحظة ولادته يستدعي في الان ذاته اللفظ المناسب والدال عليه, وهي حالة من حالات الاندكاك بين اللفظ والمعنى ولكن في عالم المنتج وليس المخاطب , والالتفات الى هذه النقطة المهمة يوضح الحضور الشديد لسلطة المتكلم وقصديته , فكيف يقال بعد هذا إن للمتلقي دورفي مسألة إضفاء المعنى على اللفظ ؟ انه مجرد هراء ذلك لان الالفاظ وليدة معان مسؤولة عن تمظهرها سابقا، وليس للمتلقي الا البحث عنها من خلال الالفاظ لاغير وان يجتهد لبلوغها وان كانت حمالة وجوه او مختفية وراء الفاظها , وهذه المسألة تحتاج الى بحث منفصل.
الغزالي في الميزان
لم يفرق الغزالي بين الاسلام بالمعنى الاخص والاسلام الشعبي، والاول هو اسلام العلماء والنخب الواعية التي تتعاظم مسؤلياته عليهم كلما ازدادوا ايمانا ووعيا، وعليه يجب التفرقة في توجيه الخطاب لهذه الشريحة او تلك، وما ذكره الغزالي هو الاسلام الذي لايطيقه عامة الناس ونتيجة لهذا الخلط تسببت ردات الفعل على اسلام الغزالي وغيره بكوارث ومفاسد حين طفت إلى السطح مناهج اضرت كثيرا بالعقل العام.
أما الشريحة الثانية فهي المعنية بقوله (صلى الله عليه واله): (ذروني ماتركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على انبيائهم فاذا امرتكم بشئ فاتوا منه مااستطعتم ومانهيتكم عن شئ منه فدعوه)، وقوله (ص): (فاتوا منه مااستطعتم) اشارة الى الاسلام بالمعنى الاعم الذي يطيقه عامة الناس والذي لاعسر فيه وهو غير ما اشار اليه الغزالي في مركبه السداسي المعقد المار الذكر، بينما نجد عقلية ابن رشد اكثر انفتاحا وتحررا من اثقال الافهام التي ترهبنت وحملت النص ما لايحتمل.
يؤسس ابن رشد منطلقاته الفكرية في كتابيه (بداية المجتهد) و(فصل المقال) على قاعدتين فكريتين يعتبرهما جوهر الاسلام
الاولى: هي أن الاسلام يسرٌ لاعسرفيه لانه دين رفق بالانسان ورعاية لحرماته.
الثانية:إن النبي (صلى الله عليه واله) انما بعث ليتمم مكارم الاخلاق ويزيل الخلاف ، ولاشك إن هذا الفهم يقابل تماما فهم الغزالي ونظرائه حين تكلفوا في منطقة المسكوت عنه وهو الذي يؤكده الشارع المقدس في نصوص حاسمة منها النص التالي:(إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها. ونهى عن اشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن اشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تسالوا عنها) ومعنى ذلك إن الشارع المقدس قد وسع دائرة الحرية في الاسلام التي هي كائنة على سبيل الاصالة والابتداء،الا إن الغزالي حين يتحدث عن بيان السلوك الى الله تعالى تراه يحصر ذلك بامرين هما الملازمة لذكر الله تعالى والمخالفة لما يشغل عنه واذا تركنا ما يقوله عشاق الغزالي نجد إن دائرة هذا الفهم ضيقة وضيقة جدا وكأن الله تعالى خلق الانسان لذلك فقط ، بينما ادراك كون الانسان خليفة الله في ارضه يحرره من غنوصية الغزالي وامثاله ويفتح امامه افاقا وسيعة في البناء والاعمار،وقبل الغزالي كانت مدرسة الشافعي وهي وان كانت فقهية الا انها جائت كردة فعل غير منظمة على مدرسة الرأي ، حيث تقلصت فيها دائرة المباح امام دائرة الالزام التي راحت تتضخم بسبب التراكم الفوضوي للاحكام وبما إن الغزالي ينتمي الى هذه المدرسة فقد تاثر بها الى حد كبير وساهم مساهمة فعالة في زيادة التحجر الفكري للتيار السلفي .. ولنا وقفة اخرى مع الغزالي في البحوث القادمة إن شاء الله تعالى.
كما سنتحدث بحول الله تعالى وقوته في البحوث القادمة عن نظرية المقاصد في المعاهد العلمية لاتباع ال محمد صلوات الله وسلامه عليهم والحمد لله رب العالمين.
1451022/ تح : علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha