الصبر وعدم اليأس :
عُرف الصبر بأنه: الهيمنة علي الذات وفق الضوابط الشرعية و العقلية.
فمن لوازم الانتظار و من دعائمه الصبر، فلا انتظار إلّا بالصبر ، و لا يصبر الإنسان إلّا أن ينتظر عاقبة أمر و يترقبه.
و في عيون الحكم و المواعظ قال رسول اللهب (ص) : « من انتظر العاقبة صبر»، « من انتظر العواقب صبر»(1) إذن فكل عمل يعمله الإنسان إنّما ينتظر عاقبة ذلك العمل ، سواء كان خيراً أم شراً ، بل قد ييأس الإنسان من عمله و هو اليأس الايجابي، و ينتظر مايقدره الله له ، و هذا معني أخلاقي راقي للانتظار يذكره العرفاء.
قال رسول الله (ص) : « انتظار الفرج بالصبر عبادة»(2).
و قال الامام الرضا(ع) : « ما أحسن الصبر و انتظار الفرج، ما سمعت قول الله عزّوجل: « و ارتقبوا إنّي معكم رقيب» (3)، و قوله « فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين »(4) ، « فعليكم بالصبر فإنّه إنّما يجيء الفرج علي اليأس ، فقد كان الذين من قبلكم أصبر منكم»(5)، و الذي تشير إليه الرواية من معني لليأس غير المعني الذي سيأتي ، و هو بمعني القنوط ، أما هنا فييأس المنتظر من كل عمل يؤديه، و أن يلحّ بالدعاء و المسألة ، و ينتظر و يصبر، حيث لا عمل و لا إجابة إلّا برحمة الله الخاصة ، و هذا معني دقيق كما قلنا فلا تغفل عنه.
بل بالصبر ينال الإنسان الدرجات العظيمة و المقامات الرفيعة « و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّآ صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون» (6)، بل عُد الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد.
و عن أمير المؤمنين (ع) قال : « أفضل العبادة بالصبر و الصمت و انتظار الفرج»(7).
بالصبرو الثبات علي المعاناة و الامتحان الإلهي ، لأنّ الإمام المهدي بوجوده الشريف يمثل القدوة الرائعة العظيمة في الصبر و الثبات ، حيث يشاهد كل هذه الآلام و المحن و يتعرض لها في حياته و يتفاعل معها بطبيعة الحال ، و مع ذلك فهو صابر ممتحن في ذات الله ، و من أجل الاهداف العظيمة ينتظر الفرصة للقيام بدوره العظيم ، هذا من جهة و من جهة أخري فإنّ جانب من تفسير طول الغيبة بعد وجوده الشريف هو تكامل المسيرة من خلال التجارب و المعاناة ، حيث تتكامل النفوس، و تستعد لحمل هذا الدور و قيام حكومة العدل ، و كل ذلك يعطي زخماً معنوياً عظيماً في الصبر و الثبات و الاستقامة و الاستفادة منها في مسيرة التكامل الانساني.
فيصبح الإنسان بمجمل أعماله و نشاطاته مساهماً في الانتظار و مؤدياً للدور التاريخي في التمهيد ، لقيام حكومة العدل الإلهي المطلقة التي يحققها الإمام المهدي.
الصبر و صعبوبة الانتظار
لو أردنا أن نمثّل لصعوبة الانتظار بمثال عرفي فنقول : فيما لو كانت أم تنتظر رجوع ولدها من المعسكر و كان البلد في حالة حرب ،و كان ولدها في الخطوط الأمامية ، فإنّ الام في هذه الحالة تعيش حالة الانتظار حقيقة و تترقب قدوم ولدها و الفرج عنه و نجاته ، إذن انظر إلي الأم التي يساورها هذا الأمر كم تحتاج إلي الصبر في سبيل التخفيف من صعوبة الانتظار.
الانتظار و الدعاء:
قال تعالي: « و قال ربكم ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين»(8)
و قال تعالي: « و إذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبُ أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون».(9)
« و الدعاء و الدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي ، و السؤال جلب قائدة أو درّ من المسئول يرفع به حاجة السائل يعد توجيه نظره»(10).
فعلي الإنسان أن يدعو الله سبحانه بلسان الفطرة صادقاً في الدعاء و الطلب ، و توجيه قلبه إلي الله تعالي بالأسباب ، فإنّ الدعاء سبب في الإجابة ، لأنّ الله تعالي قال : « أجيب دعوة الدّاع إذا دعان»(11) فلا بد من توجيه النظر إليه تعالي بالصبر و البصيرة و عدم القنوط و اليأس « قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعا إنّه هو الغفور الرّحيم»(12).
فينبغي للإنسان التوجّه لرحمة الله و الإلحاح بالدعاء (فإنّ من أكثر الطرق أوشك أن يفتح له»(13).
و عن الصادق(ع) : « ... و لا ينال ما عند الله إلا بالدعاء ، فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه»(14).
و عنه عن آبائه ، عن النبي (ص) قال : « أوحي الله إلي بعض أنبيائه في بعض وحيه: و عزّتي و جلالي لأقطعن أمل كل آمل غيري بالأياس ، لأكسونّه ثوب المذلة في الناس ، لابعدنّه من فرجي و فضلي ، أيأمل مفاتيح الأبواب و هي مغلقة ، و بابي مفتوح لمن دعاني؟»(15).
و كما ورد عن الرسول (ص) قال : « سلوا الله من فضله ، فإنّ الله عزّوجل يحب أن يسأل ، و أفضل العبادة انتظار الفرج»(16) إذن فينظر العبد أن يفرج عنه و يقضي حاجته و يرفع عنه كل شدة و بلاء.
و عنه (ص) : « من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، و من كل ضيق مخرجاً، و رزقه من حيث لا يحتسب»(17).
و في قنوت الامام الرضا(ع) : « ... و قد ألجم الحذار و اشتدّ الاضطرار و عجز عن الاصطبار أهل الانتظار...»(18).
الانتظار و الصلاة :
إن إداء العبادات الواجبة و المندوبة من دون مراعة فلسفة الانتظار ، لا يجعل لتلك العبادة روحاً و تفقد العبادة وزنها ، بل تفقد واقعيّتها و ما فيها من رصيد روحي و معنوي للإنسان ، يمكن أن ترفعه إلي درجات عالية من القرب إلي الله تعالي ، فبفلسفة الانتظار سوف تفتح للإنسان أبواب عظيمة في مقام القرب ، بل من خلال ما تقدم من الروايات يمكن لنا أن نقول : إنّ الانتظار حاكم علي جميع العبادات، و داخل فيها ؛ لأنّ العبادة الحقيقية هي العبادة الحركية الممتزجة مع روح الانسان و أعماقه ، و هذه الروح هي الباعثة للإنسان للاتصال و الارتباط الحقيقي مع المعبود الحقيقي ، فلذا يترقب الإنسان حينها اللقاء و الارتباط بالمحبوب و المعشوق ، و هذاكان دأب الائمة (ع) و دأب السلف الصالح من علمائنا الربّانيين في الحث علي الجلوس و انتظار الصلاة و التفكر و التدبّر ، فما جعلت لصلاة الساهي أو الكسول قيمة ، فإنّ لكل شيء باطناً و باطن الصلاة روح الصلاة.
و حيث كان الهدف السامي من العبادة هو لقاء الله ،كتب مولانا محمد بن عليّ الرضا (ع) إلي محمد بن الفرج في الانصراف من صلاة مكتوبة : « ... أسألك الرضاء بالقضاء ، و بردّ العيش بعد الموت ، و لذة النظر إلي وجهك ، و شوقاً إلي لقائك من غير ضراء مضرّة و لا فتنة مُضلّة...»(19).
و الشعور بضيق الانتظار و شدّة اللقاء هو الذي جعل الرسول (ص) يطلب من بلال أن يعجّل بالآذان بقوله : أرحنا يا بلال؟! حيث « كان النبي (ص) ينتظر وقت الصلاة و يشتد شوقه و يترقب دخوله و يقول لبلال مؤذنة « ارحنا يا بلال »(20).
و قال الرسول (ص) : « يا أباذر ، إنّ الله يعطيك مادمت جالساً في المسجد بكل نفس تتنفس فيه رحة في الجنة ، و تصلي عليك الملائكظ و يكتب لك بكل نفس تنفست فيه عشر حسنات، و يمحي عنك عشر سيئات ، يا أباذر اتعلم في أي شيء نزلت هذه الاية : « و اصبروا و صابروا و رابطوا و اتّقوا الله لعلّكم تفلحون»(21)؟
قلت : لا ، قال : في انتظار الصلاة خلف الصلاة»(22)
و روي عنه (ص) أيضاً أنّه سئل عن أفضل الأعمال فقال : « اسباغ الوضوء في السبُرات(23) و نقل الاقدام إلي الجماعات ، و انتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلك الرباط»(24).
و عنه (ص) « الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة»(25) فيمكن لنا أن نستوحي من ذلك أنّه إذا كان الانتظار حاكماً علي العبادة فإنّها تشدّ أبواب الشيطان ، و تمنع تعلّق النفس بالمادة و الماديات ، فيصبح بمقدور الانسان أن يرتقي بعبادته ، و يجسدها في واقعه الباطني و الظاهري و به تتحقق حقيقة المراقبة ، فلا يبقي مجال للشيطان و لا للهوي و الشهوات التصرف في هذا الانسان ، بل يصبح وجود الإنسان متكاملاً يتحرك وفق إرادة الله في جميع أحواله و شؤونه و هو الجهاد الأكبر ، لإنّ فيه قهراً للعدوّين النفس « الأمارة » و الشيطان، فما أشرفها من عبادة ، و ما أروعه من جهاد،؛ و لذا عدّ المنتظر للفرج كشاهر سيفه أو كالمتشحط بدمه في سبيل الله ، فعن النبي (ص) « ... انتظروا الفرج و لا تيأسوا من روح الله ، فإن احب الاعمال إلي الله عزوجل انتظار الفرج مادام عليه العبد المؤمن ، و المنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله»(26).
بل عبّرت الروايات علي أن ّ المنتظر للصلاة ضيف الله : « إنّ الرجل إذا دخل المسجد فصلي و عقّب انتظاراً للصلاة الأخري فهو ضيف الله ،و حق علي الله أن يكرم ضيفه » ، « و إنّه مادام ينتظر في عبادة ما لم يغتب»(27).
و عن الامام علي (ع) قال : « الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة عبادة»(28).
الأثر التكاملي و بناء النفس :
إنّ في الانتظار أثراً تكاملياً عظيماً ، حيث يقترب به الإنسان من تعاليم المساء و منها الرضاء بالقضاء و ما قدّر الله تعالي للبشر، و الاعتماد عليه سبحانه بتدبير الأمور.
فإنّ السعي و المجاهدة و الإخلاص و صفاء النية يعطي طاقة روحية للإنسان عظيمة : « و الذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا »(29) « كلّا نمدّ هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربّك و ما كان عطاء ربّك محظوراً»(30) ، أن الله خلق كل الموجودات بهذه الرحمة بما فيها إبليس (لعنه الله) و النار و جميع الشرور في العالم التي هي خيرات بأنفسهم و ذاتها ، كيف و هو الحكيم الذي رتّب العالم بحكمته أن يخلق الشر المحض ، بل خلقها لتساهم في كمال الانسان بعد إجتيازه مظاهر الصراع الداخلي بين الوساوس و المغريات و بين نفسه اللوامة ، فيرتقي الانسان و يتكامل ، و هذا كلام عقائدي دقيق يحتاج إلي بسط أكثر ليس هنا محله؟
فهذا هو الذي يجعل الانسان علي علاقة مباشرة مع الله تعالي ، فيحسّ الانسان هنا بالخشية منه تعالي ، و أنّه في حضور دائم ، فيتعامل مع الموجودات علي أنّها آيات إلهية ، فيبقي يتذوق هذه الرحمة عبر روافد و قنوات عديدة منها التعرّض للأيام و الليالي و الساعات الّتي بيّنت الشريعة خصوصيتها ، و كما ورد في الحديث المعروف : « ألا أنّ لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها و لا تُعرضوا لها عنها »(31) ، و هنا قد تكفّلت روايات أهل البيت (ع) ذلك بشكل مكثّف ، ما يكفي للإنسان في التزوّد منه ، و قبل ذلك علي الإنسان أن يشتغل بتهذيب النفس و إبعادها من الرذائل و تحليتها بالفضائل ، فإنّ ذلك باعثاً لشدّة الانتظار و الترقّب و اللطف و العناية الربّانية ، حتي ينال الإنسان درجة عظيمة في الرقي ، بل و أرضية للخلاص من الشك و الارتياب و اليأس ، بل يؤهله لأن يكون بدرجة المنتظرين للقائم عجل الله تعالي فرجه الشريف « من سرّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر و ليعمل بالورع و محاسن الأخلاق و هو منتظر»(32).
و الانتظار الايجابي من قبل الأمة يساهم في تعجيل الفرج، و قد روي عن الشهيد محمد الصدر (قدس سره) أنه قال : الإمام المنتظر ـ بالكسر ـ ، فالإمام ينتظر الأمة للتحرك من أجل إصلاح واقعها و تغييره علي ضوء المفاهيم و القيم الالهية ، بتحويل الأفكار و المفاهيم و التصورات و النظريات إلي واقع عملي تترجم فيه الأفكار إلي مشاعر و أخلاق و علاقات و ارتباطات متجسدة في صورة عملية ، و إعداد العدة اللازمة لإدامة العمل الإيجابي و تهيئة المجتمع الإسلامي لترقب الانتصار الكلي بعد يأسه من الأطروحات الوضعية أو التطبيقات العلمية الخاطئة التي تتبني الإسلام نظرية دون أن تجسّده في الواقع .
فما لم يتحقق الانتظار الحقيقي و هو تهيئة شروطه من قبل الامة فإنّ الفرج سيتأخر ، و هذه سنة إليهة فمتي وجدت المقدّمات و تهيّأت بصورة عملية فأن النتائج تترتب عليها و لا تتخلف ، فالأمر موكول إلي الأمة بسعيها الجاد الدؤوب و انتظارها الإيجابي.
(1) مكيال المكارم 182:2
(2) ميزان الحكمة 187:1
(3) سورة هود: 93.
(4) سورة الاعراف : 71
(5) مكيال المكارم 262:2
(6) سورة السجدة : 24
(7) الخصال 625: 2
(8) سورة غافر:60
(9) سورة البقرة: 186.
(10) الميزان في تفسير القرآن 32:2
(11) سورة البقرة : 186
(12) سورة الزمر : 53
(13) الكليني ، الكافي 47: 2
(14) الميزان في تفسير القرآن 43: 2
(15) المصدر نفسه 42: 2
(16) عبدالله ابن عدي ، الكامل 637: 2. و الطبراني ،المعجم الكبير 125ـ 124: 10
(17) ميزان الحكمة : 28: 1
(18) مكيال المكارم : 292: 2
(19) الشيخ جواد الاملي ، أسرار الصلاة : 139.
(20) العلامة محمد حسين الطباطبائي، سنن النبي (ص) : 304
(21) سورة آل عمران : 200
(22) الحر العاملي ، وسائل الشيعة 4: 117ـ 118
(23) السبرات : جمع سبرة الغداة الباردة
(24) وسائل الشيعة 4: 117 ـ 118
(25) المصدر السابق
(26) الخصال 2: 610
(27) وسائل الشيعة 4: 116
(28) النوري ، مستدرك الوسائل 3: 99
(29) سورة العنكبوت : 69
(30) سورة الإسراء : 20
(31) محمد الريشهري ، الصلاة في الكتاب و السنة : 20
(32) محمد بن إبراهيم النعماني ، الغيبة: 2000.
38/5/907
https://telegram.me/buratha