أولا: لغة الحوار في القرآن الكريم:
لغة الحوار في القرآن الكريم هو جزء من موضوع كامل عن منهج الحوار في القرآن الكريم، وأحتاج هنا أن أفكك عناصر العنوان وأقف عليها عنصرا عنصرا، لنخلص بعد ذلك إلى التبرير العلمي والمنهجي لاختيار هذا الموضوع. ولنسأل: لماذا الحوار؟ ولماذا القرآن؟ ولماذا اللغة؟.
إنني اعتبر البشرية كلها تعيش اليوم أزمة حوار حقيقي وأتصور أن كثيرا من المشاكل و الصدامات الدامية التي تدفع البشرية ثمنها، كان ممكنا أن تتجنب أصلاً أو يخفف أثرها أو تقل سلبياتها لو لجئ إلى الحوار واستنفذت أغراضه ووسائله.
والأمة الإسلامية تعرف عمودياً وأفقياً أزمة حوار حقيقية، أزمة علاقة بين الحاكم والمحكوم ، أزمة علاقة بالمستوى الأفقي بين عناصر المجتمع من مختلف جوانبه وتوجهاته الإجتماعية والسياسية ، أزمة علاقة فيما بين الأنظمة على مستوى العالم العربي والإسلامي ، أزمة علاقة بين التيار القومي والتيار الإسلامي والتيار العلماني ، وهناك أزمة تنزل إلى مستوى الأسرة فيما بين الزوج والزوجة وما بين الزوجين والأولاد لغياب الحوار. فالحوار رئيسي وضروري وممر استراتيجي لحل هذه الأزمة، أزمة الاختلاف والصدام السلبي التي نعيشها اليوم.
أما القرآن فإنه يمثل القاسم المشترك أو الكلمة السواء بين المسلمين، وأول شروط الحوار الناجح أو على الأقل كي لا يرتد إلى انتكاسة أسوأ من الخلاف الأول ، أن ينطلق المتحاورون من قاعدة وأرضية مشتركة ، والقرآن هو المنطلق الذي يمكن للمسلمين أن يعودوا ويحتكموا إليه.
أما محورية اللغة فلأن النص القرآني أساساً هو نص لغوي أنتج باللغة العربية وفق قواعدها ومحكوم بضوابطها وينتهي إلى مآلاتها اللغوية ، وهذا اختيار الله عزّ وجل وليس هذا تحكما من أحد. فالله تعالى اختار أن يتواصل مع البشر بهذه اللغة. وهذه اللغة لابد أن تتكون وتتشكل في محيط واقعي ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم﴾ فلا بد إذن أن يكون النبي يتكلم بلسان قومه، فكان القرآن باللسان العربي، وبالتالي خضع القرآن الكريم لآليات هذا اللسان وضوابطه في الاستنباط فكانت هذه الأرضية الصلبة للتأويل.
أرضيتان صلبتان في القرآن. متنه ولغته، وقد أجمع علماء اللغة المسلمون أن القرآن نازل بلغة العرب خاضع لسننها في الأداء ، ومن هنا لم يجد السلف حرجاً في أن يخضعوا تأويل القرآن لضوابط اللغة . لأن اعتماد بعض الانتقائيين على معاني القرآن مباشرة، دون اعتماد قوانين اللغة، قد يؤدي إلى السقوط في تضارب وتعارض، وقد يجتهد الأصوليون والمجتهدون بآليات درء التعارض بين النصوص لحله،لكن الحل النسقي هو اعتماد المسح اللغوي الشامل للموضوعة الواحدة في القرآن: معجما و مصطلحا وسياقات .
وسأتناول بالبحث عنصرين من بين سبعة عناصر يمكن أن تعتبر أهم المؤشرات اللغوية الدالة على الحوار ومستوياته ومقاصده وأخلاقه ومنهاجيته في القرآن الكريم. ولنبدأ بالعنصر الأول ولنطرح السؤال التالي: هل القرآن الكريم دعوة إلى الحوار، أم دعوة إلى التبليغ التلقيني المتعالي، أم دعوة إلى الإقصاء الذي هو عكس الحوار؟ كيف نثبت ذلك لغوياً باللغة المحضة، باللغة كمادة موضوعية محكومة بقواعد بعيدا عن التأويلية والانتقائية؟
يقرر بعض المفكرين أن القرآن الكريم ما ادعى دعوى إلا كان له من نفسه عليها دليل. أي أن القرآن مستغنٍ بذاته عن خارجه، وأنه لا شيء في القرآن كدعوى أو منهج أو شعار إلا ومادة القرآن تقدم عليه أمثلة وتطبيقات ونماذج. وأنا أستأنس بهذه الإشارة، لكي أقول أن القرآن الكريم يدعوا إلى الحوار، ومن مستلزماته الاعترافبالطرف الآخر وبحقه في الوجود وبحقه في التعبير عن رأيه، وبحقه في الاختلاف مع الغير الذي قد يكون هو الحق الذي هو القرآن! القرآن الكريم يؤسس لهذا، ودليلي من اللغة هو فعل "قال" أو مادة "القول" باعتبارها مؤشراً لغوياً حاسماً وصارماً على حوارية أي نص.
لقد طرحت هذا السؤال على نفسي، واستعنت بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وعكفت على المصحف مدة فانتهيت إلى ما يأتي:
مادة - ق و ل - تتكرر في القرآن 1722 مرة [i]هذا رقم عظيم ينبغي الوقوف عنده خشوعاً ساعات إن لم أقل دهراً من الزمان. وأكثر من ذلك الحضور الكمي ، الحضور الكيفي إذ تتصرف على تسعة وأربعين تصريفاً واشتقاقا.ً لأنه لو كانت (قال) متصرفة تصريفاً واحداً -قال أو يقول منسوبة إلى الذات الإلهية، قلت أو قلنا أو ما شاء من التصرفات الدالة على جهة المتكلم المتعالي- لما كان هناك أي معنى لاستعمال مادة القول كمؤشر على الحوار. فهذا يكون مؤشراً على التلقين وعلى التعالي وعلى الصوت الواحد وعلى الرأي الواحد والفكر الواحد. ولكن نجدها متوزعة على تسعة وأربعين اشتقاقا تتوزع على كل أطراف المقام الحواري. من متكلم ومخاطب ومستمع ومحاور ومقاطع وغائب وحاضر ومذكر ومؤنث ومثنى وجمع .
نجد "قال" 529 مرة، و "يقولون" 92 مرة، و"قالوا" "قل" 332 مرة، و "قولوا" 13 مرة ، و "قيل" 49 مرة ، و "القول" 52 مرة ، و "قولهم" 12 مرة . وأنا أذكر الأرقام كمؤشر على الحوارية عالية الترداد داخل النص القرآني بشكل لافت للنظر و خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار المعطيات السبعة الآتية الملتصقة بهذا المؤشر:
أولاً:الآخر الذي يؤشر على كلامه (بقال أو قالوا أو يقولون أو قولهم) أي حضور الآخر الذي يبتدأ كلامه بهذه اللازمة، هو حضور ضخم والحاصل أننا أمام نص غريب ، فقد نستنتج من نص بشري لو وجدنا فيه هذه الدرجة العليا من الحضور لمؤشر الحوار- مادة القول - أن صاحب النص شخص مفتوح ذو طبيعة حوارية ، و يؤمن بحق الآخر. شخص أنتج نصاً متعدد الأصوات ، شخص حضاري بالمعنى الحقيقي ، لأنه يستحضر رأيه ورأي الآخرين ويناقشه. أما وأن الأمر يتعلق بكلام الله عز وجل فالأمر يحتاج إلى وقفه!
ثانياً:الأصل في كلام الله أنه متعالي . والوضع المقامي يؤثر في القراءة الدلالية للفعل اللغوي تأثيراً قوياً جدا لأنك إذا أخذت الأمر مثلاً من أعلى إلى أسفل فهو أمر "أقيموا الصلاة" وإذا كان من أسفل إلى أعلى فهو دعاء: " اللهم صل على سيدنا محمد " فصلِ في صيغته الصرفية هو فعل أمر ولكن يدخل المقام فيتغير المعنى لأنه ليس هناك أحد من العباد يأمر الله ويتحول بذلك إلى فعل دعاء. وإذا كان خطاب مثيل وند فيصبح المعنى التماساً وسؤالاً، كأن أقول لزميلي "أعطني القلم" ، فأنا لست رباً له فآمره، ولست عبداً له فأدعوه، بل هو مثلي فيكون كلامي التماساً عند تساوي طرفي المقام.
https://telegram.me/buratha