عباس الاعرجي ||
قبل فترة ليست بالقصيرة ، أرسل أحد الإخوة لي خطاب السيدة أنجيلا ميركل ، وهي تتحدث عن دروس إستخلصتها ، سواء من حياتها الخاصة ، أو من الظرف السياسي الذي عاشته ألمانيا وأوروبا ، أو مما يشهده عالمنا اليوم .
وواعدته بالكتابة عنه في الفرصة المناسبة ، وأظن أن وقته قد حان ، وكذلك هي محاولة لإخلاء ذمتي من العهد الذي عاهدته به .
إستغرق حديث ميركل ٣٥ دقيقة ، من المتعة والإفادة ، في الاحتفال السنوي لخريجي الجامعة ، والذي شعرت فيه وللوهلة الاولى ، بأنه موجه إلينا نحن المسلمون ، الذي نعيش أسوأ حقبة في تاريخنا المعاصر .
دروس ميركل هذه ينبغي أن لا نمر عليها مرور الكرام ، بل من الجدير بالذكر ، أن نمعن النظر فيه قدر المستطاع ، لأن كلامها إنما هو كلام ، يصدر من إمرأة في مركز قيادي ، أثبتت فيه جدارة في استلام الحكم وتوجيه دفة سياسة بلادها ، خلال أربعة ادوار تشريعية .
مع الأخذ بنظر الاعتبار سيرتها الذاتية ، وحياتها التي عاشت قسم كبيرا منها ، في ظل نظام شمولي وديكتاتوري ، ولا بد من الوقوف عنده ، وعند تجربتها الغنية والمثمرة ، فلابد لنا أن نستفيد من تجارب الشعوب ، ومن تجارب قادتها .
قالت ميركل ، في درسها الاول ، إن التغير قادم ولاشيئ مستحيل ، وراحت ميركل البالغة من العمر ٦٥ عاما ، تتحدث عن بلدها ، حينما كان يُحكم بالدكتاتورية والحزب الواحد والرأي الواحد ، وعن العالم آنذاك الذي كان يعيش انقساما بين الشرق والغرب والحروب التي اندلعت .
لكن حدثت المعجزة ، وانتفض الشعب ، وهدم السور ، وتوحدت ألمانيا .
أخي المتلقي عندما نتأمل بعض الدول ، التي كانت بالامس دول شبه معدمة ، مقارنة بما كانت تتمتع به أغلب الدول الإسلامية من ثراء وبحبوحة في العيش آنذاك : ينتابني الشعور بالأسى والحزن ، وانا ارى اليوم ، تلك الدول ، وقد أصبحت في مصاف الدول المتقدمة صناعيا ، واقتصاديا ، وعلميا.
وأرى وطننا الإسلامي باستثناء ايران ، خاوٍ من كل معالم التجديد والتحديث.
فوصول تلك الدول إلى الرقي والتقدم والنهضة اللامحدودة ، لم يكن بمحض الصدفة أو الحظ ، بل كان نتاج سياسات وخطط مستقبلية على المدى البعيد .
الدرس الثاني والمهم ، من بين دروسها الستة ، التي مست شغاف القلب ، حديثها عن أوربا وتمزقها حينذاك ، والحروب التي طحنتها ، وانتهت بأوروبا متحدة ومتحابة ، تعيش الرفاهية التي يضرب بها المثل .
إقرأوا وصف ميركل عن حال أوربا وكيف تغير ، وكأنها تتحدث عن حالنا اليوم ، تقول : انه بالديمقراطية والسلام ، تتحقق الحرية ، ويعم الرخاء .
إن أوربا التي ترونها اليوم ، في رفاهية وتقدم ، كانت قد شهدت قرونا طويلة ، من التخلف والحروب والصراعات السياسية والدينية ، والحكم المطلق والاستبداد الديني والسياسي .
قد عشت زمانا كانت بلادي ألمانيا ، إبّانَ الحكم الديكتاتوري ، تنخرط في حروب تترك وراءها المئات ، بل الآلاف من القتلى في الشوارع ، وملايين المشردين والجياع ، ولكن هذا كله انتهى ، بفضل قيمتين ، أود أن أشاركهما معكم اليوم ، إنها : الديمقراطية والسلام .
إجل ياسيدتي ، وصلت رسالتك وفككنا شفرتها ، فانتي وبلدك قد تخطيتم المرحلة ، واطفأتم النار التي اكتويتم بها ، وها نحن نكتوي بهذه النار ، في كل لحظة وفي كل حين .
نحن نعيش الضياع والتيه في دولنا ومجتمعاتنا ، من دون أن نهتدي الى سواء السبيل ، وما زال هذا الأمر يقض مضاجعنا ليل نهار ، في حين يبقى السؤال مطروحاً قبل أن نغادر يبحث عن جواب ، كيف النجاة من هذه الكبوة.
وأخيرا ... إستوقفتني بعض الجمل في خطاب السيدة الفاضلة ميركل ، عندما قالت : إن ما يبدو ثابتا لا يتغير ، يمكن أن يتغير ، وأضافت كل تغيير يبدأ من الرأس .
صحيح ، إن كل تغيير يبدأ من الرأس ، وبالأخص اذا كان هذا الرأس يحوي عقلا نقديا قادرا على التخيل والإبداع ، ومتحررا من أسر النصوص والبديهيات .
وهذا أمر يلزمه الكثير من العمل ، حتى يصبح أساسا متينا للمستقبل ، لكنها أضافت : والتغيير للافضل امر ممكن ، اذا عملنا معا ، ولن ننجح في ذلك لو عمل كل منا بمفرده .
ما أجمل ، هذه اللوحة الفنية القانونية ، التي رسمتها هذه المرأة ، وما أحوجنا الى مثل هذه القيادة ، وإلى مثل هذه النصائح الثمينة ، من إمرأة مجربة ، خبرت الدكتاتورية والديمقراطية ، والحرب والسلام ، والانفصال والوحدة .